مقالات مختارة

علِّمينا دروسك يا غزة

ريما كتانة غزال
إكس
إكس
لقنتنا غزة الكثير من الدروس، على مدار أكثر من أربعمائة وسبعين يوما كانت مدرسة مفتوحة لمن يطلب، علمتنا أولاً كيف نضع نقطة في آخر سطر كل يوم يمضي، علمتنا كيف نسرف في البذخ واجترار الألم والوجع الرقيق حرصاً على جعل النموذج كاشفا ومرئيا أمام كل من يرى ويسمع، علمتنا فنّ وقْف الجدل البيزنطي والتفرغ للتصدي لجيش القتل والإبادة.

من السطر الأول وحتى الأخير، استماتت غزة في تعليمنا، علمتنا فنّ حب البقاء، رغم أن كل ما يوسوس في أذنها ليل نهار يقول بملء الفم أن لا شيء يستحق البقاء، وأن كلفة البقاء تعني الخوف من الحياة وعليها.

علمتنا غزة إعادة صناعة المصطلحات، صناعة معنى الصمود وممارسته واقعياً، لقد أعطته المرادف العملي الذي يفصله عن العراك المعروف بين النظرية والواقع، أبعدت معنى الكلمة عن الشعار وفرزته عن استخدامه الممجوج في الخطابات وحاجاتها الفارغة، ليعبر عن الآمال العريضة لمن يكتوون بنيران الموت والنزوح والجوع والقهر والوداع، علمتنا المعنى الشامل للأنفاق التي تنتهي بالنور.

علمتنا غزة، أن نحمد الله على مصائبنا قبل النوم وبعده، أن نحمده على موتنا ونشكره على كل لقمة مغمسة بالدم، علمتنا أن نحلم وكيف نحلم وبماذا نحلم، علمتنا أن المِحَن قد تتمخض عن الأفضل، لأن الله يختار لنا دائما ما هو أفضل.

علمتنا غزة معنى التجارب العميقة التي تترك آثارها على جلودنا، علمتنا صناعة الأمل واحتمال العتمة وشقها، أن نغني للألم وأن نضحك على انفسنا بشيء من الرجاء وقليل من الأوهام الهاربة، علمتنا بتفاصيل صغيرة صناعة أعجوبة اسمها الفرح مهما كان زائلاً وفانياً وصغيراً وحتى تافهاً.
علمتنا غزة بمساحتها الصغيرة وأمانيها العريضة أن الإخفاق والفشل ممنوعان علينا،

علّمت غزة العالم كيف يتضامن، علمته الإرادة والشجاعة والبأس، بل انتزعته بضعفها انتزاعاً، حاججت غزة العالم بأصل الرواية، علمتهم الأخلاق والقيَم والمُثُل السامية، قالت إن مكانة القوانين في قدرتها على صناعة العدل والتغيير في الممارسة والأفعال والنأي بها عن التحنيط والتعليب، وأثبتت أن فشل المنظومات الدولية لحقوق الإنسان حين لا يكون لها آذان تسمع الصراخ، ولا تمد يدها لإنقاذ مستغيث.

علمتنا غزة بمساحتها الصغيرة وأمانيها العريضة أن الإخفاق والفشل ممنوعان علينا، وأن على قدر الأماني والتوقعات تُبنى الأماني والتطلعات، مهما كانت يدها قصيرة، بتمكنها من صناعة أبطال الرواية الدرامية وامتنعت عن تصوير البطولة الحصرية بشكل غير اعتيادي أو مألوف لقصة غير اعتيادية، ولا عابرة، من أجل تمكين الأبطال التناغم مع إيقاع حياتها ويومياتها العاصفة، فحصلنا على مشهدية أكثر حياة من جميع المدن، وكانت على قدرها وأكثر.

غزة قالت ما تريد بمرونة، قالت الكلمات التي يجب أن تقولها بوضوح أكبر وسماعها أكثر، والتجمت عن قول جميع ما يجب أن يُقال ونحتاج إلى سماعه أكثر، لم تعلن انتصاراً أو هزيمة، لكنها انتصرت بكل قوتها على الأقنعة السطحية عن حياة زائفة تحت الاحتلال، ووضعت المقاييس المفتاحية للأداء وفرزت الوهمي عن الحقيقي، وكانت عدسة كاشفة عن كل عيوب العالم ولا مبالاته ورفعت الغطاء عن جميع السلوكيات الوضيعة.

نحتاج إلى المزيد من دروسك وخبرتك يا غزة، قولي ما يجب أن يُقال بمبادئك المنهجية، فلا يزال بجعبتك الكثير منها: عن الطريق إلى التحلي بالصبر والإيمان ومقاومة اليأس والإحباط من مبتدأ الجملة حتى خبرها، ولم تديني بما فعلت لأحد، تكلمي عن اختيارك الغوص عميقا دون حساب أو خط رجعة. 

الأيام الفلسطينية
التعليقات (0)