تقارير

الثورات في مواجهة إرث الديكتاتوريات.. إدماج ومصالحة أم إقصاء ومحاكمات عادلة؟

ينبغي الحذر من أن يعمد فلول النظام لزعزعة الأمن بالفتن الطائفية وأحداث التمرد المتفرقة لتمرير مطالب انفصالية.. فيسبوك
ينبغي الحذر من أن يعمد فلول النظام لزعزعة الأمن بالفتن الطائفية وأحداث التمرد المتفرقة لتمرير مطالب انفصالية.. فيسبوك
بعد تمكن الثورات من إسقاط رأس النظام، غالبا ما تتباين الآراء والاجتهادات في كيفية التعامل مع إرث أنظمة الاستبداد، وبقايا الديكتاتوريات، ويشمل ذلك جحافل من السياسيين والأمنيين وكبار رجالات الدولة وموظفيها في مختلف تخصصاتهم ومواقعهم الذين خدموا النظام، وساهموا في حمايته واستمراريته لسنوات وعقود.

ففي الثورة التونسية، أو ما اصطلح على تسميتها بالثورة، كان اجتهاد قوى الثورة هو احتواء رجالات العهد البائد عبر المصالحة والإدماج، وهو ما أصاب الثورة في مقتلها وأفضى إلى إجهاضها، وفي مصر اتجه الرأي إلى الاعتصام بالجيش بصفته الحامي والحافظ لمكتسبات الثورة، وهو ما أفضى في نهاية المطاف إلى إجهاض الثورة وإهدار كل مكتسباتها وفق مراقبين.

كيفية التعامل مع إرث الديكتاتوريات، ومعالجة بقايا أنظمة الاستبداد مسألة مربكة وشائكة، غالبا ما تثير الجدل بين قوى الثورة والانتفاضات الشعبية، بين من يرجح خيار الإدماج والمصالحة، وبين من يدفع باتجاه الإقصاء والاجتثاث والمحاكمات العادلة، وباستحضار الأنماط السائدة والمعروفة كيف يمكن للثورات إدارة ذلك الملف الخطير وبالغ الحساسية بحنكة ودراية؟ وهل ثمة تصورات ورؤى غير تلك المعهودة يمكن أن تكون أكثر نجاعة؟

وعلى وقع ما جرى في سوريا بعد عملية "ردع العدوان" التي أفضت إلى إسقاط نظام آل الأسد، ظهرت أصوات وكتابات تقارن بين ما حدث في تونس ومصر وبين ما حدث في سورية مؤخرا، إضافة إلى مراجعة توصيف ما جرى في دول "الربيع العربي" كمصر وتونس.. إن كان بالفعل يندرج تحت مسمى "الثورات" أم أنه حراكات وانتفاضات شعبية لا ترقى إلى مستوى الفعل الثوري الناضج والمكتمل؟

وفي هذا الإطار وصف الكاتب والناشط السياسي السوري، أحمد دعدوش "المقارنات الشائعة حاليا بين سورية ودول أخرى" أنها "تُغفل فارقا جوهريا، فالإسلاميون الذين وصلوا للحكم في تونس ومصر بعد الثورات كانوا ساسة مدنيين مجردين من القوة، وكل ما في الأمر أن الشارع الثوري انتخبهم، لكن لم يستطع أحد أن يغير شيئا في الجيش والمخابرات، فكانت فترة حكم أولئك القادة مليئة بالمتاعب، وسرعان ما انتهت بخلعهم وزجّهم في السجون".

وأضاف: "وفي سورية كان الثمن غاليا جدا لكنه الخيار الوحيد لاجتثاث النظام من جذوره، وحكّام دمشق اليوم هم قادة الفصائل المسلحة، وعناصرهم هم الذين يمثلون الآن الجيش والقوى الأمنية، أما عناصر النظام فأقصى ما يرجونه هو (تسوية أوضاعهم)، وتسليم أسلحتهم، ومن هنا فلا خوف على الثورة من ثورة مضادة مسلحة يقودها النظام المخلوع بالقوة".

وواصل دعدوش حديثه لـ"عربي21" بالقول "بل ينبغي الحذر من أن يعمد فلول النظام لزعزعة الأمن بالفتن الطائفية وأحداث التمرد المتفرقة لتمرير مطالب انفصالية".


                                            أحمد دعدوش.. كاتب وناشط سياسي سوري

أما بشأن الحل الأنسب للوضع السوي في كيفية التعامل مع إرث نظام آل الأسد القمعي الاستبدادي، فطبقا للكاتب دعدوش "يمكن أن يكون خليطا من عدة تجارب سابقة لدول أخرى، فيشمل جانبا من (المصالحة) خلال مرحلة العدالة الانتقالية على غرار تجربة جنوب أفريقيا، والتي اقتبستها المملكة المغربية جزئيا لتجاوز انتهاكات مرحلة (سنوات الرصاص)".

وتابع "هذا بالتوازي مع استمرار الحملة الأمنية الحالية التي يُعتقل فيها عناصر الشبيحة، بشرط أن تلتزم بضوابط قانونية وشرعية تخلو من الانتقام، وإلى جانب مشروع طويل الأمد لتطهير ثقافة المجتمع السوري من مخلفات النظام البائد وما سبقه من أنظمة انقلابية فاشلة منذ جلاء الاستعمار".

وأوضح أنه يقصد بذلك "مشاريع تربوية وتثقيفية تعالج مشاكل الطائفية، وإرث الاستبداد والاستعباد، وتحكّم العسكر بكل مفاصل الحياة" لافتا إلى أنه "يصعب في هذا الوقت المبكر تقييم أداء الإدارة الحالية، فإذا كانت الأخطاء واردة لدى الإدارات السياسية العريقة فمن الإنصاف التساهل مع قدر معقول من أخطاء القادة الجدد، وأعتقد أن إنجازاتهم الحالية تسبق هفواتهم وتقصيرهم، وأتفاءل بقدرتهم على التعلم من أخطائهم لتجاوز هذه المرحلة الصعبة".

من جانبه رأى الكاتب والباحث المغربي، نور الدين لشهب أن "ما حدث عام 2011 فيما سُمي بالربيع العربي لا يتعلق بثورة حقيقية كما نطالع في تاريخ الثورات، بل يتعلق برجات سياسية متحكم فيها ضمن ترتيبات دولية، وهذا ما ظهر بشكل واضح في تقارير استخباراتية، وفي مذكرات الساسة في أمريكا وحتى في العالم العربي".

وأضاف "فما وقع في تونس ـ على سبيل المثال ـ فيما سمي بثورة الياسمين حصل وفق ترتيبات محددة بين مجموعة من الدول كما تحدثت عدة تقارير إعلامية واستخباراتية، كما أن الفشل الذي حاق بالتجربة كان منتظرا لأن الثورة هي عدوى تنتقل في محيطها كما حصل في أوروبا مثلا، ولا يمكن للثورة في تونس أن تنجح وهي محاطة بدولة ذات نظام سياسي عسكرتاري هو الجزائر، ودولة فاشلة هي ليبيا، هذا بالإضافة إلى التدخل الأجنبي من قبيل إسرائيل وفرنسا وإيران".

وتابع لشهب في حواره مع "عربي21": "أما ما وقع في سوريا مؤخرا فيختلف عما وقع في تونس ومصر، وإن كان الحدث مرتبطا بأحداث ما سمي بالربيع العربي، لأن عمليات ردع العدوان هي امتداد لأحداث ما سمي بالربيع العربي، غير أن هذا الامتداد عرف بانعراجات تتعلق بالعمق الاستراتيجي الذي يتجاوز بعض الترتيبات التي يراد لها أن تتحقق على واقع الأرض بالمنطقة".


                                                نور الدين لشهب.. كاتب وباحث مغربي

وأردف "وإذا ما اعتمدنا على نظرية مكر الله الخير كما تحدث عنها المفكر التونسي أبو يعرب المرزوقي يمكن أن نذهب إلى القول أن ما وقع في سوريا هو امتداد طبيعي للحدث المفصلي الذي وقع في فلسطين بتاريخ 7 أكتوبر 2023، وهو ما سمي بـ “طوفان الأقصى"، وهو حدث مفصلي بالفعل كما تحدثت عن ذلك الكثير من المقالات التي صدرت في مجلات تحظى بمتابعة النخبة في العالم".

وردا على سؤال "عربي21" بشأن اختيار الطريق الأكثر نجاعة في التعامل مع إرث أنظمة الاستبداد، وبقايا الديكتاتوريات، قال لشهب "ما أراه في معالجة هذه القضية ضرورة التفريق بين رجالات النظام السابق، إذ ليس كل من اشتغل مع النظام يمكن اعتباره مجرما يجب إقصاؤه وتهميشه، بل منهم طاقات وكفاءات هي ملكية للدولة، يجب احتواؤها والاستفادة منها".

وأكمل فكرته بالقول "أما من ثبت إجرامه، وشارك في تعذيب المواطنين وقتلهم، وكان له دور في تشريد الملايين من السوريين وملاحقتهم في محاكم تفتقر إلى أبسط شروط المحاكمات العادلة، فهؤلاء ينبغي محاكمتهم في محاكم جنائية، لينالوا جزاءهم العادل جراء ما اقترفوه من جرائم بحق أبناء الشعب السوري".

وفي ذات الإطار رأى الكاتب والإعلامي المصري، أحمد عبد العزيز أن "الثورة لا يمكن أن تهادن النظام القائم المستبد، ولا تصالحه ولا تتفاوض معه على حل وسط، لأنها إن فعلت ذلك تكون أقرت بشرعية الفساد والاستبداد، وباتت جزءا منه، ومن ثم تكون هي والنظام المستبد في الخيانة للوطن والمواطنين سواء".


                                            أحمد عبد العزيز.. كاتب وإعلامي مصري

وواصل عبد العزيز، الذي شغل منصب المستشار الإعلامي للرئيس المصري الراحل محمد مرسي حديثه لـ"عربي21" بالقول "الحالة السورية تختلف جذريا عن الحالتين التونسية والمصرية، من حيث أن النظام المنهار فقد ذراعه الأمني والعسكري، وهو أهم أذرعه على الإطلاق، وحل محله قوات الثورة السورية التي تمرست على القتال لأكثر من عشر سنوات في بيئة مدنية، وتقوم حاليا بمطاردة فلول النظام البائد أينما ظهرت".

وختم كلامه بالإشارة إلى أن "ما يحدث من تفاهمات بين قيادة الثورة السورية وبعض أركان النظام الساقط (في إطار تسوية الأوضاع) هي تفاهمات تتم بصورة فردية، وليس باعتبارهم ووصفهم ممثلين لنظام الأسد الذي لم يعد له وجود".
التعليقات (0)

خبر عاجل