أفكَار

الحركات الإسلامية واضطراب المناهج.. من الدعوي إلى السياسي (2)

لا يجهل أحد أن التعاون مع الحركة التي مارست فيها الوظيفة القيادية لعقود طويلة لم يتحقق، لأسباب نضعها عنده سبحانه ونتركها للتاريخ..
لا يجهل أحد أن التعاون مع الحركة التي مارست فيها الوظيفة القيادية لعقود طويلة لم يتحقق، لأسباب نضعها عنده سبحانه ونتركها للتاريخ..
حظي المقال السابق "الحركات الإسلامية واضطراب المناهج" الذي نشر في موقع "عربي21" الأسبوع الماضي باهتمام المتابعين، ووردت بخصوصه تعليقات كثيرة تردد فيها السؤال عن الحل، وعدّ بعضها بأن ما ورد في المقال هو بمثابة "مراجعة فكرية أو تراجع عن خط سياسي سابق لحركة مجتمع السلم كنت أحد المسؤولين عنه، بل قدت الحركة به".

رأيت من المفيد أن أكتب جزءا ثانيا للمقال أتفاعل فيه مع هذه الأسئلة والاهتمامات والانتقادات المشروعة، لا سيما أنها صيغت بأساليب محترمة وذات مضمون فكري.

وقبل التطرق إلى الموضوع الأهم المتعلق بتصورات الحل، أود أن أؤكّد بأن تناولي لمثل هذه المواضيع لا يتعلق ببلد معيّن أو حركة من الحركات الإسلامية بذاتها، بل هي دراسات وأفكار ومراجعات تتعلق بتجربة الحركة الإسلامية بمجملها، وأنا أحاضر في هذه المقاربات في العديد من الدول، في الندوات الحضورية والافتراضية. لا شك أن مسيرتي في حركة مجتمع السلم تمثل قاعدة ارتكاز في التجربة، ولكن لا تتعلق بها وحدها، فهي تشملها وتتجاوزها من حيث اطلاعي العميق، النظري والعملي، على كل التجارب في مختلف الدول.

أما ما ذكر أن هذه الأفكار هي بمثابة مراجعات عن توجهات سابقة، فإن ذلك أمرا مطلوبا لا مِثلب فيه، فالعقول الراشدة هي العقول القادرة على التطور والمراجعة بحسب ما تتطلبه تطورات البيئات والتحديات والمتطلبات، لا سيما وأننا في أجل مائة سنة على تأسيس الحركة الإسلامية ولا شيء يبقى من أفكار مائة سنة ماضية سوى الثوابت العقائدية والأخلاقية والنصوص قطعية الثبوت قطعية الدلالة العابرة للأزمنة والأمكنة، والقليل مما بينت التجربة وتوافق المسلمون على استمرار صلاحه. واهتمامي بالتطور الفكري في مناهج الحركات الإسلامية لم يبدأ بمقال ” الحركات الإسلامية واضطراب المناهج” بل كتبت في ذلك كتبا مشهورة منها كتاب “الحركات الإسلامية: الماضي، الحاضر والرؤية المستقبلية” الذي صدر في 2015 وقمت فيه بتقييم تجربة حركة مجتمع السلم منذ التأسيس الى تاريخ نشر الكتاب، وكتاب “البيت الحمسي” الأول في 2013، والثاني في 2018، ثم الكتاب المهم الذي نضجت فيه المراجعات والذي صدر في 2023  قبل خروجي من هياكل الحركة بأكثر  من سنة ” الاستنهاض الحضاري وتحدي العبور” والذي لا أتوقف عن تقديم مضامينه خارج بلادي. علاوة على المشاركات الإعلامية الكثيرة في هذا الشأن منها مشاركي في سبع عشرة حلقة من برنامج قناة الحوار "مراجعات" في 2016.

وأود أن أسجل هنا بأن ثمة حدثين مهمين دفعا بي إلى مراجعات عميقة، أولهما في 1997 بعد صدمة تأسيس النظام السياسي لحزب التجمع الوطني الديمقراطي والتزوير له تزويرا شاملا في الانتخابات المحلية والتشريعية، حيث ثبت لي أن الرؤية السياسية للشيخ محفوظ نحناح رحمه لم تصبح قائمة، حيث كان رحمه الله يعتقد ـ كما سمعته بنفسي منه ودأب عليه العمل ـ بأن المؤسسة العسكرية ستقدّر نهجه الوطني وسمته المعتدل وشعبيته القوية التي أكدتها الانتخابات الرئاسية عام 1995 وتقبل أن يكون بديلا على أساس ديمقراطي لجبهة التحرير الوطني والجبهة الإسلامية للإنقاذ فيكون هو محور بناء تحالف وطني يقود البلد  لمصلحة الجميع.

ولكن عكس ذلك كله حدث وكانت رسالة النظام السياسي له واضحة بأنك "لست أنت البديل!" و"بديلنا نصنعه بأيدينا ولو بالقوة وبالتزوير"، و"إن أردت أن تكون على الهامش فمرحبا بك". لم أخف قناعتي عن الشيخ محفوظ نحناح إذ أفصحت  له  عن رأيي بأنه لا بد من تغيير النهج السياسي والابتعاد عن السلطات الحاكمة والتحول إلى معارضة وطنية واضحة، والاستثمار في مؤسسات المجتمع المدني، وكتبت له في ذلك عام 1997 مذكرة نشرتها في عدة مناسبات منها كتاب "مبادرات لحل الأزمات"، وبقيتُ على هذا الرأي إلى اليوم، بل كلما مر الزمن تأكدت التوجهات التسلطية غير الديمقراطية للحكم،  وطورت مقاربات تلك المذكرة ـ التي هي منبع أفكاري السياسية والاستراتيجية ـ عبر العديد من المساهمات منها الكتب التي ذكرتها أعلاه.

كنا نعتقد أن الحراك الشعبي سيحدث تغييرا مهما في الأفكار والسلوكيات السياسية للحكام في الجزائر ليقبلوا منطق الشراكة في الحكم مع القوى السياسية المتجذرة في المجتمع الجزائري، ولكن الخطاب الذي واجهنا به رئيس الجمهورية هو ذات الخطاب الذي كان مع من قبله، بأن يختاروا هم لنا وزراءنا ولا دور لنا سوى الترشيح، ولا حظ لنا في البرنامج ولا علاقة لنا بالمواقع المهمة في الدولة.
أما الحدث الثاني فهو فشل المفاوضات بيني وبين رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون على إثر النتائج الجيدة التي حققناها في الانتخابات التشريعية عام 2021، حيث بذلنا مجهودا كبيرا لتحقيق تلك النتيجة، رغم التزوير والعزوف الانتخابي، حتى نكون مؤهلين للانتقال من مرحلة المشاركة السياسية التي نكون بها في واجهة الحكم إلى مرحلة الشراكة الفعلية في الحكم وفق نتائج الانتخابات.

كنا نعتقد أن الحراك الشعبي سيحدث تغييرا مهما في الأفكار والسلوكيات السياسية للحكام في الجزائر ليقبلوا منطق الشراكة في الحكم مع القوى السياسية المتجذرة في المجتمع الجزائري، ولكن الخطاب الذي واجهنا به رئيس الجمهورية هو ذات الخطاب الذي كان مع من قبله، بأن يختاروا هم لنا وزراءنا ولا دور لنا سوى الترشيح، ولا حظ لنا في البرنامج ولا علاقة لنا بالمواقع المهمة في الدولة.

لقد أكد لي هذا الحدث بأن العمل السياسي التقليدي في الجزائر ميؤوس منه وأن العمل الحزبي لن يؤدي وحده إلى التغيير أبدا،  وأن سيرورة الانتخابات المعهودة ستبقى شكلية لا تساهم إلا في تثبيت ديمقراطية الواجهة.

لقد مثل فشل المحاولة صدمة كبيرة لي أكّدت بأن سقف المعارضة السياسية الذي نحن عليه غير  مناسب لتجنيد الجماهير وصقل إرادة المناضلين من أجل التغيير، وقد صارحت المسؤولين الذين كانوا حولي في قيادة الحركة، والذين بوّأتهم بنفسي مواقع المسؤولية العليا فيها، عدة مرات بأن سقف المعارضة السياسية الذي نحن عليه ليس سقفي وإنما هو سقفٌ توافقي تحريت فيه احترام نفسياتهم وميولاتهم السياسية، وكذلك أهمية الانسجام ببننا.

لم يكن باستطاعتي المضي أكثر في تنفيذ الأفكار التي دونتها في كتاب الاستنهاض الحضاري وتحدي العبور، رغم النتائج الإيجابية التي حققها هذا التوجه في إطاره العام، ولم يكن ضمن خياري إحداث تحول ثوري داخل الحركة لتجسيد فكرة مسارات التغيير الثلاثية الواردة في الكتاب، بسبب بقاء سنتين فقط على نهاية عهدتي، وبسبب الملل الذي شعرت به لطول بقائي في هذه المسارات التقليدية دون نتيجة حاسمة،  فقررت أن أغادر الهياكل طامعا في أن الأجيال التي من بعدي سيكون لديها الوقت لتفهم يوما ما حالة الاحتباس التي فيها العمل السياسي في الجزائر فتتحمس أكثر لكتابة التاريخ بواسطة العمل الحزبي وصناعة ما لم أستطع صناعته بنفسي، وقد تركت لهم المقاربات التجديدية مكتوبة مؤصلة،  واعتقدت أنه سيسعني ـ من جهتي ـ الفضاء الفسيح في المجتمع وعلى المستوى الدولي لأواصل النضال الحر دون أي قيد تنظيمي، وأن عملي سيصب في المحصلة لصالح الحركة، وأننا سنصنع معا في الأخير، بشكل تكاملي، نموذجا جديدا ومنهجا متجددا تستفيد منه الحركة الإسلامية في العالم العربي والإسلامي.

لا يجهل أحد أن التعاون مع الحركة التي مارست فيها الوظيفة القيادية لعقود طويلة لم يتحقق، لأسباب نضعها عنده سبحانه ونتركها للتاريخ، ولكن مساهمتي في نشر الأفكار لا تتوقف ولا يحدها الزمان والمكان بحمد لله، راجيا من الله القبول، وأن تثمر في يوم من الأيام في أي مكان كان.

لم يصبح يهمني أن أعارض مناهج التغيير التي تسير عليها التيارات الإسلامية غير الإخوانية، فقد بينت الأحداث بأن المناهج ليست من الثوابت، وإنما المآلات هي الحاكمة فثمة من كان يسمَّى إرهابيا صار رئيسا لدولة تتنافس الدول للاتصال به وتتباهى الشخصيات السياسية والفكرية، الرجالية والنسائية، المحلية والدولية، التي كانت تعارضه لأخذ الصور معه، بل إن بعض الدول التي كان يقاتلها صارت تعقد معه الاتفاقيات.

غير أنني من جهتي لا زلت أؤمن بالمنهج السلمي في التغيير، ولا زلت أؤمن بأن المشاركة في الانتخابات لا تزال مفيدة في التدافع إن كانت ضمن استراتيجية المقاومة السياسية والسقوف المرتفعة والمنافسة الفعلية على السلطة الفعلية، وإن لم تكن وحدها التي يشتغل عليها القادة المناضلون، بعيدا عن سجون المصالح المعنوية والمادية الشخصية الضيقة. وكم كنت أضرب المثل بقادة الحركة الوطنية حين كانوا يشاركون في الانتخابات المزورة التي تنظمها الإدارة الفرنسية وهم في ذات الوقت يعدون للثورة.

بالرغم من أنني لم أكن راضيا عن السقوف السياسية التي كنت عليها وأنا على رأس حركة مجتمع السلم، وأعترف بذلك دون حرج، ولكن أقدّر بأنني استطعت أن أطبق المعالم الكبرى للمنهج الجديد الذي لم أغادر القيادة حتى صغته في مجمله في كتاب الاستنهاض الحضاري وتحدي العبور، ولو أتيحت له الفرص ليواصل التجسيد لكان ربما جديرا بأن يصنع نهضة الحركة والبلد ويساهم في نهضة الأمة.

ولذلك جوابي على من يقولون و"ما الحل؟" في تعليقهم عن الجزء الأول من مقال "الحركات الإسلامية واضطراب المناهج" هو أن يعودوا إلى كتابي "الاستنهاض الحضاري وتحدي العبور"، خصوصا الفصل الثاني منه.

 يتضمن الفصل الأول ـ تحدي العبور ـ  مضامين فكرية كثيرة عن التحديات الجديدة التي تواجهها الحركات الإسلامية وتمنعها من العبور بالفكرة الإسلامية الى الدولة لتنتقل من مرحلة الصحوة إلى مرحلة النهضة، والتي يجب التجديد فيها. ويتضمن الفصل الثالث ـ مواضيع العبور ـ المواضيع ومفاتيح الملفات الكبرى التي تحكم بها الحركات الإسلامية إن وصلت للدولة في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفنية وفي العلاقات الدولية.

أما الفصل الثاني ـ مسار العبور ـ فهو الجواب عن سؤال "ما الحل؟" وقد بينت فيه بأن العبور بالفكرة من المجتمع حيث صنعت الصحوة، إلى الدولة لكي تتحقق النهضة ثم الإقلاع الحضاري، يتم عبر ثلاثة مسارات أساسية.

أولها المسار التنظيمي والإداري وما يلزم ذلك من تطوير وتجديد في المنظومات التنظيمية والإدارية والموارد البشرية، لا سيما القيادية منها، على مستوى الفكر والعلوم والمعارف، وعلى مستوى التربية والأخلاق والسلوك، وعلى مستوى الكفاءة والمهارات، وعلى مستوى الإنجاز والفاعلية.

لا زلت أؤمن بالمنهج السلمي في التغيير، ولا زلت أؤمن بأن المشاركة في الانتخابات لا تزال مفيدة في التدافع إن كانت ضمن استراتيجية المقاومة السياسية والسقوف المرتفعة والمنافسة الفعلية على السلطة الفعلية، وإن لم تكن وحدها التي يشتغل عليها القادة المناضلون، بعيدا عن سجون المصالح المعنوية والمادية الشخصية الضيقة. وكم كنت أضرب المثل بقادة الحركة الوطنية حين كانوا يشاركون في الانتخابات المزورة التي تنظمها الإدارة الفرنسية وهم في ذات الوقت يعدون للثورة.
وثانيها المسار الاستراتيجي وما يتعلق بصناعة القوة الناعمة في إطار قانوني يقوم على المبادرة والنضال  في المجتمع على المستوى الدعوي والاجتماعي والفني والإعلامي والمالي والنقابي والشبابي والنسوي، وغير ذلك، بواسطة شبكات المجتمع المدني الواسعة،  وعبر ما سميته بنظرية "قطع الحبل السري" للتفريق بين اللجان والأمانات المحلية والمركزية للأحزاب التي تشبه الأعضاء الملتصقة بالجسم من جهة، والمؤسسات المجتمعية التي تشبه الأولاد والذرية من جهة أخرى، والتي يكون نجاحها باستقلالها العضوي عن الجسم مع الاجتماع في الرؤية والرسالة، ولا ضمان في نجاح الأمر سوى وحدة الفكرة وأخلاق الصدق والوفاء والمروءة والمقاصد المشتركة والقدوة والأهلية القيادية الجاذبة وذات التأثير.  وذلك ما يمثل مقاربة "التخصص الوظيفي" لصالح الفكرة الإسلامية في المجتمع بغض النظر عن الأحزاب التي تحملها، بما يضمن مستقبلا توفر رأي عام عميق يجسد الديمقراطية والتداول السلمي على السلطة ضمن المشروع الحضاري الإسلامي الواحد، على نحو مازعي عليه الأحزاب في الغرب التي تتداول ضمن المشروع الحضاري الغربي، المسيحي اليهودي، الواحد.

إنه لو قلّدت مختلف قوى الإصلاح والتغيير في العالم الإسلامي فكرة الخط الاستراتيجي والتخصص الوظيفي فذلك ما يصنع قوة المجتمع وحماية أصالته، ولا يمكن لأي سلطة ظالمة أن توقف مدها إذ أنها لن تستطيع أن تبرر ضربها لعدم ارتباطها عضويا بالأحزاب، إلا أن تقرر تلك السلطات غلق المجتمع كله، وقتل المبادرة في المجتمع كلية، بما يجعل الأمر ينقلب عليها عاجلا أم آجلا.

أما مسار العبور الثالث فهو المسار السياسي، ويمكن إيجاز التفاصيل الكثيرة التي وردت في هذا الفصل من الكتاب  بالقول أن شرط الوجوب لهذا المسار وجود قيادة عازمة على التغيير ولا أشواق لديها في عملها أعلى من تحقيق التغيير إرضاء لله تعالى وخدمة لأوطانها وأمتها، ذات كفاءة وصدق ومصداقية، تثق في الله ثم في نفسها و في المؤمنين، تؤمن بأن التأييد الحقيقي هو الذي يكون من الله ومن الشعب مصداقا لقوله تعالى (( هو الذي أيّدك بنصره وبالمؤمنين))،  لا تشعر بأي عقدة تجاه النظام السياسي، لا تخافه ولا تطمع فيه، ولا تحرص على إرضائه أو تحقيق الاعتراف منه بوجودها، تعمل الصواب فحسب، تعتمد المنهج السلمي وتعلن عن حب الوطن لأنها تؤمن بذلك، لا تنافق في الأمر ولا تزايد  إلى حد السماجة ولغة الخشب، خطابها قوي مبني على العلم وكشف الفساد والرداءة بلا تشخيص ولا سباب ولا انتقام، تؤثر العافية كما جاء في الحديث الصحيح،  ولكنها تستعد لتقديم كل التضخيات، ولو بالنفس،  كما جاء في حديث صحيح  آخر: “سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه، فقتله”، يتمحور عملها السياسي كله حول النضال من أجل تغيير موازين القوة لصالح المجتمع ولصالح فكرتها وأهدافها، وتتجنب أي سلوك سياسي يعين الاستبداد ويزيد في عمره.

ثورات الشارع حالة سننية لا تستشير أحدا حين تقبل، وإنما تستجيب لشروط وظواهر سياسية واقتصادية واجتماعية وتدافعات محلية ودولية، إذا حلّت بسببها حركة الشارع، فهي حالة احتقان تشكلها عوامل سننية تفجرها صواعق قد تكون غير متوقعة تماما. والحركات الجادة هي التي لها القدرة على استشراف التحولات، وعلى قيادتها إذا وقعت ولو بدون قناعة بها أو مشاركة في تحريكها، وعلى تقديم البدائل التي تحل المشاكل التي تسببت فيها وتمنع تعقيداتها وانفلاتاتها.
أما العبور العملي للفكرة فهو عبر ثلاثة معابر، منفردة أو متوازية: أوله المعبر الديمقراطي الانتخابي بشرط نضال الأحزاب بلا هوادة لجعل الديمقراطية حقيقية والحريات مصونة والانتخابات غير مزورة، وتُقدّم في طريق ذلك أنفس التضحيات، لا تقبل التزوير وتندد به مهما كان مصدره والمستفيد منه والمتضرر به، وتؤهل تلك الأحزاب نفسها لتكون بديلا حقيقيا عبر ما يسمى في الدول الديمقراطية ب ” حكومة الظل” أو ما نسميه نحن ” اللجان القطاعية المتخصصة” ببرامج ناضجة وموارد بشرية جاهزة للحكم. وبغير  هذا النوع من النضال تصبح المشاركة في الانتخابات خدمة مجانية للاستبداد ومساهمة فاعلة في استمراره. وقد بينت التجارب البشرية  بأن النضال الجاد والتضحيات الجسام من أجل الانتقال الديمقراطي يمكن أن تجسد الديمقراطية والانتخابات النزيهة والتداول على السلطة.

والمعبر السياسي الثاني هو التحالفات مع قوى أخرى تريد التغيير، سواء قوى من داخل النظام السياسي أو من خارجه، وهذا المعبر لا يمكن أن ينفتح دون توفر الحركات الإسلامية على القوة والنفوذ بما يجعل القوى الأخرى تطمع في التحالف معها، وذلك عبر تجذرها في المجتمع وتسلحها بأسباب القوة المتنوعة والمتعددة، وعلى رأس تلك الأنواع قوة الفكر وجاذبيتها وصلاحيتها وأهليتها للحكم، وتعاطف أصحاب النفوذ في الدولة والمجتمع مع الفكرة ورجالها. وهذا نهج حقق نجاحات كثيرة، في العصر الحالي، وهو النهج الذي رسّخه المصطفى عليه الصلاة والسلام وسار عليه إلى أن أقام دولته في المدينة.

والمعبر السياسي الثالث، وهو الثورات السلمية الشعبية، التي تَحقق التغيير بواسطتها في العديد من الدول، ولا يمكن للحركات الإسلامية أن تتحول إلى أحزاب حقيقية، تتماثل مع المعايير الطبيعية العالمية للأحزاب إلا إذا آمنت إيمانا كاملا بالتغيير السلمي عن طريق الشارع، وهو حق ديمقراطي ثابت دون حاجة للترخيص تؤكده القوانين والدساتير، ولكن تتهرب منه بعض الحركات الإسلامية إرضاء للحكام وخوفا من المواجهة. وحينما تتهرب الحركات الإسلامية من النضال بقيادة الشارع فهي تفتح المجال لسيناريوهات خطيرة، ذلك أن ثورات الشارع حالة سننية لا تستشير أحدا حين تقبل، وإنما تستجيب لشروط وظواهر سياسية واقتصادية واجتماعية وتدافعات محلية ودولية، إذا حلّت بسببها حركة الشارع، فهي حالة احتقان تشكلها عوامل سننية  تفجرها صواعق قد تكون غير متوقعة تماما. والحركات الجادة هي التي لها القدرة على استشراف التحولات، وعلى قيادتها إذا وقعت ولو بدون قناعة بها أو مشاركة في تحريكها، وعلى تقديم البدائل التي تحل المشاكل التي تسببت فيها وتمنع تعقيداتها وانفلاتاتها.

إن عدم تدرب الحركات الإسلامية على قيادة حركة الشارع، وعدم فهم لغة الشارع والحديث بها، سيتيح الفرصة لأربعة سيناريوهات إذا خرج الناس يطالبون بحقوقهم من تلقاء أنفسهم ودون قيادة واعية وذات خبرة، إما احتواء النظام السياسي القائم للمشهد وتسخيره للاستمرار في السيطرة ضد إرادة الشعوب ومصالحهم، أو استغلال التحول الشعبي من طرف قوى سياسية وأيديولوجية معارضة للنظام السياسي القائم وأسوأ منه، أو استعمال قوى أجنبية استعمارية لحركة الشارع للتدخل والتآمر على البلد، أو حدوث فوضى عارمة لا قيادة تضبطها أو فتنة عمياء والعياذ بالله.

إن أفكار التغيير هذه التي أصلناها في كتاب تحدي العبور والاستنهاض الحضاري ليست نظريات وتخيّلات بعيدة عن الواقع، فقد جرّبناها ووضعناها على محك التجربة في حركة مجتمع السلم بين 2013 ـ 2023، وحققت نتائج جيدة على مسارات العبور الثلاثة، إذ حققنا إنجازات معتبرة في بناء المؤسسات وفق نظرية ” قطع الحبل السري” ومقاربة ” التخصص الوظيفي”، وتوصلنا إلى نتيجة انتخابية جيدة على المسار الانتخابي و ناضلنا من أجل الحريات والانتقال الديمقراطي وساهمنا في في تجسيد مفهوم لغة الشارع التي أسقطت العهدة الخامسة، وأخرجنا موارد بشرية فاعلة ومتعلمة و ذات أخلاق ومهارات  هي اليوم منتشرة في مختلف الهياكل والمؤسسات محليا ومركزيا وفي الخارج.

غير أن ما بذلناه بما يكفي لبناء النموذج وتصديره، لم يكن كافيا لتحقيق التغيير المنشود،  وبقي يتطلب استمرارا وتطويرا وتصعيدا أكثر على مستوى المسارات الثلاثة والمعابر الثلاث. ولئن أخطأَت حساباتي في مواصلة تجسيد المنهج على مستوى الحركة بعد خروجي من هياكلها، فإني على يقين بأن الله سيسخر له من يحقق الطموحات عبر تيار عام في الأمة أرى تشكله قد بدأ يلوح في الأفق، كان طوفان الأقصى المسرّع إليه.
التعليقات (0)

خبر عاجل