شهور طويلة مرت على اعتقال العلامة الشيخ
راشد الغنوشي، في
تونس، بعد انقلاب قيس سعيد، والذي كان من أوائل ما قام به تلفيق
قضية للغنوشي، وعلى مدار هذه الأشهر رأى الناس أعجب ما يمكن أن يروه من سخريات
التاريخ والحياة في التعامل القضائي، مع شخص أهان معه مقعد الرئاسة التونسي.
ثم صدر مؤخرا حكم أشبه بما كانت تحكيه كتب
السخرية والفكاهة عن قراقوش ذلك الحاكم المصري العادل، الذي تخيل الشاعر المصري
ابن مماتي أحداثا لم تحدث، ليصور كيف يكون الحاكم التافه، الذي لا عقل له، ولا
اتزان، فكان يصدر الأحكام جزافا، وبقضايا خيالية، واشتهرت عن قراقوش وهو منها
براء، ولو كان يعلم ابن مماتي أن حاكما كقيس سعيد سيأتي في زمن بعد ذلك، ليصدر
أحكاما على الغنوشي بالسجن (22) عاما، بتهم سياسية، لادخر ما لديه من كتابة، ليترك
ذلك لأهل زمان قيس سعيد.
الغنوشي شخصية لسيت مجهولة، بل هي شخصية لها
تاريخ محفور في ذاكرة العالم العربي والإسلامي والإنساني، يعرفه القاصي والداني من
أهل الفكر الإنساني والإسلامي في الشرق والغرب، واشتهر بتاريخ عريق، جملة واحدة
منه، تزن تاريخ قيس سعيد كله.
فالغنوشي على المستوى الفكري شخصية فريدة
وفذة بين الإسلاميين، فقد كانت معظم كتابات الإسلاميين عندما يقبعون في سجون
الظلمة، تنصب اهتماماتهم وكتاباتهم على فقه وثقافة المحنة، والاستغراق في هذا
الجانب، وبخاصة إسلاميي المشرق، كمصر والشام والعراق، وغيرهم، ومن يطلع على أدب
السجون في هذه البلدان سيجد جلها منصبا على هذه الجوانب، وهو تفكير يمكن تصنيفه
بأنه مشغول بالماضي.
الغنوشي شخصية لسيت مجهولة، بل هي شخصية لها تاريخ محفور في ذاكرة العالم العربي والإسلامي والإنساني، يعرفه القاصي والداني من أهل الفكر الإنساني والإسلامي في الشرق والغرب، واشتهر بتاريخ عريق، جملة واحدة منه، تزن تاريخ قيس سعيد كله.
بينما كان الغنوشي مشغولا في محبسه
بالمستقبل الإسلامي، فأصدر في محبسه كتابا كان عبارة عن خطب جمعة في
السجن، عن:
(المواطنة)، فقد كان معنيا بالتنظير لحقوق المواطنة، وكيف يتم بناء مجتمع يحصل فيه
المواطن على حقوقه، بل إن كتابه الأشهر: (الحريات العامة في الدولة الإسلامية)،
وقد حدثني الشيخ راشد حفظه الله، أنه كتب مسودة الكتاب، وخطته، وهو في السجن، وقد
تصور البعض أنه قام بذلك في لندن بعد خروجه من تونس، ولكنه فاجأني بأن الفكرة
والتخطيط لها، والإعداد الكامل لها كانت في السجن أيضا.
وحين خرج من السجن، انصب جهده في بناء
المجتمع القوي، فنشط في عدة اتجاهات، ورأينا دوره الأبرز في الحوار القومي
الإسلامي، والأوراق التي كان يقدمها، كانت تدل على عقلية فكرية نادرة وفذة، فضلا
عن مواقفه التي لا يجهلها أحد، وهذا ما جعل التوافق بعد الثورة التونسية، على
رئاسة الدكتور المنصف المرزوقي، ليس مستغربا منه، أو من حزب النهضة، فقد كان مؤمنا
بأن المرحلة لا تتحمل أن يتولى الحكم الإسلاميون.
كانت توجهاته في هذه المرحلة تميل إلى توافق
الإسلاميين مع شركائهم في ثورات الربيع العربي، وقد اتجه إلى مصر أكثر من مرة
لزيارة الإخوان، لنصحهم بهذا التوجه، وبخاصة عند صدور دستور 2012م في عهد الدكتور
مرسي، وقابل عددا من المختلفين معهم، وبخاصة التيارات اليسارية والقومية، محاولا
إزالة فتيل الأزمة والشقاق.
رغم مواقف الغنوشي المتوافقة، والمائلة إلى
الاعتدال والتوسط في الفكر، والتوافق في السياسة، وعدم التصدر، ومع ذلك فقد تم
التنكيل بالرجل، وترك وحيدا أمام تغول ثورة مضادة في تونس، وقد كان المخالفون
للإخوان في مصر، في النقاشات الفكرية والسياسية، يذكرونهم بحكمة الغنوشي في
توافقه، ومع ذلك كانت النتيجة واحدة: الانقلاب على من غالب ومن شارك، لأن الرفض
كان للثورة أيا كان من يقوم عليها، وهو الدرس الذي ينبغي على الجميع فهمه، ليست
المسألة مسألة إخواني متطور الفكر، أو إخواني متكلس الفكر.
والآن يصدر حكم قاس على الغنوشي في سنه
الكبير، بسنوات طويلة، لو كان قاتلا ما حكم عليه القضاء التونسي بهذه المدة، فهو
حكم غريب، لكن ليس من العقل أن نزنه بالعقل، فنحن أمام حالة لا عقلانية فيها، ولا
قانون، ولا منطق، فمن العبث البحث أو السؤال: ماذا جنى الغنوشي حتى يحكم عليه بهذا
الحكم القاسي؟ فجريمة الغنوشي معروفة، وهي جريمة لا يغفرها المستبدون لكل صاحب عقل
ذكي، وقلب نقي، وسعي دؤوب للحرية والعدالة.
وهذا الحكم الجائر يقينا لن يفت في عضده،
فقد مر عليه ما هو أقسى وأشد من ذلك، فقد حوكم في عهد بو رقيبة، وفي عهد ابن علي،
فلن يكون قيس سعيد أشد بأسا عليه من هؤلاء، بل ستمر أحكامه كما مرت أحكام غيره،
وسيظل الغنوشي رمزا إسلاميا، ووطنيا، وصاحب نضال يشهد له به القاصي والداني،
إسلاميون وغير إسلاميين.
Essamt74@hotmail.com