عندما سأل صحافي الرئيس الأمريكي دونالد
ترامب أمام العاهل الأردني عبد الله الثاني، حول السلطة التي تخوله الاستيلاء على
غزة، وطرد أهلها قال، دون تردد «السلطة الأمريكية وأن الدول الأخرى عليها أن تستوعب الفلسطينيين».
هذه الإجابة تعود بنا إلى القرن التاسع عشر عندما بدأت الولايات المتحدة تشعر بقوتها وأخذت تستولي على مناطق شاسعة من أراضي الدول الأخرى، أو تشتريها بقليل من المال. أطلق الرئيس الأمريكي الخامس جيمس مونرو ما سمي «مبدأ مونرو» عام 1823، ويقوم أساسا على منع الدول الاستعمارية التقليدية من التعرض للمناطق التي تعتبرها الولايات المتحدة «ساحتها الخلفية» في الأمريكتين والجزر المجاورة. وبناء عليه احتلت الولايات المتحدة، أو ضمت لملكيتها هاواي وغوام وساموا وبورتوريكو بعد عام 1898، واحتلت الفلبين وكوبا وجمهورية الدومينيكان وهايتي. كما احتلت في حربها على المسكيك بين عامي 1846 و1848 أراضي مكسكية من عشر ولايات منها كاليفورنيا وأريزونا ونيو مكسيكو وتكساس وكولورادو ويوتا.
وفي عام 1803، اشترت الولايات المتحدة ولاية لويزيانا من فرنسا مقابل 15 مليون دولار، وتم الاستيلاء على فلوريدا بالقوة من إسبانيا بحلول عام 1819، كما اشترت ولاية ألاسكا من روسيا القيصرية عام 1867 بقيمة 7.2 مليون دولار، وباعت إسبانيا الفلبين لأمريكا مقابل 20 مليون دولار في عام 1899. واشترت أمريكا بالبلطجة جزر العذراء من الدنمارك بمبلغ 25 مليون دولار في عام 1917.
وبعد أن دخلت العلاقات الدولية مرحلة القانون، وإنشاء المنظمات الدولية وإعلان الرئيس وودرو ويلسون عام 1918 مبادئه الأربعة عشر من بينها «حق تقرير المصير»، ألغى الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت عام 1933 «مبدأ مونرو» بمفهومه الكولونيالي، واعتمد مفهوما جديدا للمبدأ وهو التعاون الدولي والسياسة المتعددة الأقطاب وتحولت الكولونيالية الكلاسيكية القائمة على
الاحتلال والحروب مرحلة جديدة تقوم على السيطرة الاقتصادية، وإقامة الاتفاقيات والمعاهدات الدفاعية، واستخدام البنوك والمؤسسات المالية للسيطرة على الشعوب، وهو ما سمي بالإمبريالية.
يبدو أن ترامب ما زال يعيش في القرن التاسع عشر خلال مرحلة «مبدأ مونرو»، وأنه لا يعرف أن هناك قانونا دوليا، أو منظمات دولية أعادت ترتيب العلاقات الدولية بطريقة تتعايش فيها الدول كبيرها وصغيرها وتحتكم في حالة الخلافات إلى مرجعية قانونية توافقت عليها الدول في مؤتمرات دولية لعبت فيها الولايات المتحدة دورا أساسيا ومنها إنشاء الأمم المتحدة نفسها في سان فرنسيسكو عام 1948 وصياغة «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» بقيادة إلينور روزفلت عام 1948. ترامب يريد أن يستبدل قوة قانون بقانون القوة محليا ودوليا.
ثلاثة أسابيع من القرارات التعسفية
اتخذ ترامب خلال ثلاثة أسابيع من القرارات التعسفية، أو أعلن عن نيته باتخاذ قرارات «خارج الصندوق» كما وصفه نتنياهو، طالت معظم دول العالم منها كندا والمكسيك وبنما والدنمارك وجنوب افريقيا وكولومبيا وفنزويلا والصين وروسيا وأوكرانيا ومصر والأردن وفلسطين. والمقبل ينذر بمزيد من القرارات الخطيرة. فهو يريد أن يغير الخرائط والحدود والهويات وديموغرافيا الدول ويفرض العقوبات على هواه، ويتصرف بالفعل كبطلجي الحارة الذي يحمل نبوتا غليظا، ويريد أن ينزل به على رأس كل من يخالفه. أما بالنسبة للمنظومة الدولية، فقد انسحب من اتفاقية باريس للمناخ، ومن منظمة الصحة العالمية ومجلس حقوق الإنسان وانسحابه المقبل سيكون من اليونسكو، وفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية، وأوقف نهائيا تمويل وكالة إغاثة وتشغيل لاجئي فلسطين (الأونروا) وطالب بحلها واتهمها بأنها منظمة معادية للسامية.
وقريبا سيخفض مساهماته في ميزانية الأمم المتحدة العادية، وميزانية عمليات حفظ السلام. وستكون الصين أكبر الرابحين، حيث لن تجد مقاومة من أحد لتملأ الفراغ، وتقفز من الدولة الثانية لتصبح الدولة الأولى عالميا في تمويل المنظمات الدولية، بالتالي الأكثر تاثيرا في المجتمع الدولي.
غزة ـ التهجير والاستملاك
كثير من المحللين والمعلقين يعتبرون تصريحات ترامب حول تملك غزة وتهجير الشعب الفلسطيني منها، ثم إعمارها وعرضها للبيع، أو تسلميها لإسرائيل، يمكن أن تكون مناورة للتأثير على بعض
الدول العربية لجرها للتطبيع مع الكيان الصهيوني، وتجريف أموالهم تحت غطاء إعادة إعمار غزة. أنا اعتقد أن ترامب جاد كل الجدية، إذا لم يجد أمامه سدا منيعا من الرفض العربي والدولي، والحراك الجماهيري على الأرض في فلسطين كلها ودول الطوق والعالم العربي بكامله. لقد فضحت لغة الجسد التي ظهرت على وجه الملك عبد الله عمق الإحراج الذي تعرض له، عندما أعلن أمامه دون أدنى احترام للأعراف الدبلوماسية بأنه ماض في موضوع التهجير وموضوع الضفة الغربية.
ونحن لا نشك أن الملك في اجتماعهما المغلق، قد يكون أبدى نوعا من التحفظ على طرح ترامب، إلا أنه لم يجد أذنا صاغية، ولم يتنازل أو يعدل من اقتراحاته وتمسك بها في العلن فكيف في الاجتماعات المغلقة. وهذا ما قاله بعد الاجتماع بكل فظاظة: «سيكون هناك قطع من الأرض في الأردن ومصر يمكن أن يعيش فيها الفلسطينيون». ويبدو أن الرئيس
المصري، عبد الفتاح السيسي، وصلته الرسالة بيّنة وقوية، في أن موضوع التهجير أمر محسوم، ولا يملك من أمره إلا التعاون، لذلك أجّل، ويقال ألغى، زيارته للبيت الأبيض التي كانت مقررة بعد أيام قليلة من زيارة العاهل الأردني. الجميع الآن ينتظر القمة العربية يوم 27 من الشهر الحالي حول هذا التطور الخطير. ويمكن للأمة العربية وأنظمة الحكم فيها أن تُفشِل هذا المخطط بشكل كامل على أن يتم اتخاذ الخطوات التالية:
– تصدر القمة موقفا قويا لا لبس فيه ولا مراوغة ولا ضبابية، بأن مشروع التهجير مرفوض جملة وتفصيلا، والهجرة المسموح بها فقط باتجاه واحد هو عودة هؤلاء إلى بيوتهم وأراضيهم في فلسطين التي سرقت منهم عام 1948؛
– أن تسمح هذه الأنظمة للجماهير العربية أن تعبر عن غضبها وأن تخرج إلى الشوارع بالملايين الهادرة التي ترفض التهجير والتطبيع والاعتراف بالكيان وتطالب بقطع العلاقات مع هذا الكيان
الفاشي؛
– أن تأخذ على عاتقها دعم الشعب الفلسطيني بكل مكوناته دون قبول الإملاءات من الخارج من هو مقبول ومن هو غير مقبول. الأمر متروك للشعب الفلسطيني ليختار ممثليه لعملية إعمار غزة بالتعاون مع الدول العربية دون تدخل من أحد.
– أن يتم الضغط على قيادة السلطة الفلسطينية التي أخذت مواقف مخزية وخطيرة ضد مصلحة الشعب الفلسطيني وقواه الحية المقاومة للعدوان والاحتلال، بهدف تشكيل قيادة وطنية موحدة تضم كل ممثلي الطيف الفلسطيني وقواه الأساسية، بعيدا عن المحاصصة والتشبث بفصائل لا وجود لها على الأرض.
– إطلاق طاقات الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية لمقاومة الاحتلال. فما يجري الآن من تدمير ممنهج لمخيمات الضفة الغربية هو نسخة مصغرة عما جرى في غزة سيتسع ويصبح أكثر خطورة ودموية إذا لم يتكاتف الشعب الفلسطيني بفئاته كافة للدفاع عن أرضه ومدنه وقراه ومخيماته وتحويل الطاقة العظيمة للشعب والفصائل ورجالات الأمن المكبلة باتفاقيات داس عليها العدو الصهيوني ألف مرة للانخراط في مقاومة الاحتلال.
نريد أن نسمع مرة واحدة من القمم العربية والإسلامية موقفا شريفا يؤيد الحق القانوني للشعب الفلسطيني، بمقاومة الاحتلال، حسب القانون الدولي بدل تجريم المقاومين واعتبارهم خارجين عن القانون، ولا نعرف أين هو القانون الذي خرجوا عليه إلا قوانين الاحتلال. إن لم تأخذ القمة العربية والقيادات الفلسطينية مثل هذه المواقف فانتظروا أياما قد تكون أصعب من الـ 471 يوما من حرب الإبادة التي عشنا تفاصيلها يوما بيوم.
القدس العربي