قضايا وآراء

أزمة مسلمين لا أزمة إسلام

بحري العرفاوي
CC0
CC0
في تعريفه للدين يقول محمد الطاهر بن عاشور: "الدين: العقيدة والملة وهو معلومات وعقائد يعتقدها المرء فتجري أعماله على مقتضاها، لذلك سمي دينا، لأن أصل معنى الدين المعاملة والجزاء".

غير أن كثيرا من النخبة لا تفصل بين الدين بما هو عقيدة وأحكام وشرائع، وبين تعبيرات الناس التدينية، وهي تعبيرات مرتبطة بمدى فهمهم لتلك العقيدة وبمدى عزمهم على التزام تلك الشرائع، وأيضا بمدى قدرتهم الذهنية على تأويل النص الديني بما يجعل معتنقيه قادرين على معالجة قضايا عصرهم وعلى صناعة مجدهم الحضاري؛ فيكونون منافسين لأمم أخرى متقدمة ولا يكونوا في وضعية من التخلف والتبعية يهينون أنفسهم ويهينون معتقداتهم.

تلك النخبة، سواء كانت منتمية لحضارات أخرى أو كانت منتمية لحضارتنا الإسلامية، تطرح سؤالا حول إن كان الإسلام هو سبب تخلف المسلمين، وتشير مباشرة إلى أن الغرب الليبرالي أو العلماني بشرقه وغربه، قد استطاع تحقيق تفوقه الحضاري في مختلف المجالات دون أن يكون مرتبطا بكنائسه ومعابده، وهم بهذه الإشارة يُقدمون ضمنيا إجابة واضحة على السؤال أعلاه مفاده أن الإسلام يعاني أزمة حضارية أو هو سبب أزمة المسلمين الحضارية.

هذا السؤال ليس جديدا، بل إنه سؤال مُستعادٌ تستدعيه أزمات العالم الإسلامي وصدماته الحضارية.

حملة نابليون على مصر سنة 1798، أحدثت صدمة في الوعي العربي الإسلامي، وهي أول عملية غزو للشرق الأوسط منذ الحملات الصليبية الثماني التي امتدت من 1095 إلى سنة 1291، كانت الحملة لأسباب سياسية وعسكرية واقتصادية في سياق منافسة إنجلترا على الشرق الأوسط خاصة أمام ضعف الخلافة العثمانية، غير أن تلك الحملة لم تكن مجرد عملية عسكرية، بل كانت بالأساس استعراضا حضاريا على مستوى التقنية والعلوم والفنون والآداب، وحتى على مستوى صورة المرأة الإفرنجية في علاقتها بالرجل وفي دورها كذات واعية وفاعلة ومشاركة بكفاءة وجدارة.

الصدمة تلك، أنتجت سؤالا مباشرا يومها: لماذا تقدم الغرب وتخلف المسلمون؟

وكان الجواب على ثلاث مدارس في فكر المصلحين: موقف لا يرى استئنافا حضاريا للمسلمين إلا بالعودة إلى سيرة السلف الصالح نقتدي بهم ونقلدهم، وموقف مناقض لا يرى مواكبة للعصر إلا بتقليد الغرب وأتباعه في "حلوه ومُرّه"، وموقف ثالث حاول أن يكون توفيقيا بين هويتنا كعرب مسلمين وبين منتجات الحضارة الغربية في التنظيمات والصنائع والفنون.

بعد أكثر من قرنين وربع، ما زال العرب والمسلمون يقيمون في نفس الترتيب الحضاري، وما زالوا يتعرضون إلى حملات غزو حقيقي كما حصل في أفغانستان وفي العراق، وما زالت قضية فلسطين جرحا نازفا شاهدا على صمود أهله من ناحية، وشاهدا أيضا على هوان العرب والمسلمين وعلى عجزهم وتبعيتهم وفقرهم؛ رغم وفرة عددهم ورغم ما أنعم الله عليهم به من موقع جغرافي ومن ثروات طبيعية.

ورغم ما رسمته المقاومة في طوفان الأقصى من صورة مدهشة عن الإنسان العربي المسلم حين يعول على نفسه؛ فيبدع في مواجهة أعداء الحياة ويبدع في تقديم ترجمة أخلاقية لعقيدته ويبدع في مفاوضة العدو بشموخ ومبدئية واقتدار، فإن عموم المشهد في عالمنا الإسلامي والعربي خصوصا هو مشهد لا يسعفنا لنُصَنّف ضمن الشعوب المتحضرة سواء على المستوى الاقتصادي أو على المستوى العلمي أو على المستوى السياسي، فنحن ما زلنا في تبعية كاملة هي أشدّ إذلالا مما كنا عليه في مختلف مراحل تخلفنا، وخاصة منذ نشأة الدويلات القُطرية بعنوان "الدولة الوطنية".

نحن المسلمين نقدم محاضرات حول الأخوّة في الإسلام وحول العدل وحول الحرية وحول المساواة وحول العلم والقوة والعزة والرحمة، ولكننا نمارس الظلم والاستبداد والنهب، ونكشف عن منسوب عال من التعصب والغلظة والكراهية، ونرهن أوطاننا لقوى الاستعمار، ونعطي أموالنا لأعداء أمتنا، ونعين الصهاينة على إخوتنا المقاومين، وننقاد بوعي وبغير وعي لتنفيذ مخططات الأعداء؛ فإذا بنا نقتل بعضنا ونمارس التنكيل والتعذيب لنقدم حجة لأعدائنا حين يقولون بأن المسلمين هم أشد وحشية من الصهاينة، وبأنهم ليسوا جديرين لا بديمقراطية ولا بحرية، وبأنهم لا يمكن أن يكونوا شركاء في بناء حضارة إنسانية حتى وإن رددوا ما جاء في قرآنهم: "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله" (آل عمران: 110).

إن المسلمين اليوم إذ صنعوا أزمتهم الحضارية أساؤوا لأنفسهم، وأساؤوا إلى الإسلام حين جعلوا رأيا عالميا واسعا يتساءل حول مدى جدية القول بأن الإسلام هو المُنقذ للبشرية وأن رسوله إنما هو رحمة للعالمين.

إن المسؤولية الأخلاقية والتاريخية والشرعية كبيرة جدا على علماء المسلمين وعلى نخبهم وقادتهم، فإن كنا عجزنا عن المساهمة في الثورة العلمية، فلماذا نعجز عن الاستفادة من هذه الثورة لنساهم في ثورة معرفية إنسانية التزاما ببعض من خصائص "خير أمة" وهي "تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر".

فأنّى لنا ذلك، وقد حوّلنا جغرافيا أوطاننا، كما حولنا مختلف مواقع التواصل الاجتماعي، إلى "بؤر توتر" حقيقية لا افتراضية؛ نخوض فيها معارك مهلكة ويتداول العالم مشاهد من ممارساتنا البدائية والوحشية ومشاهد من بؤسنا وفقرنا وخراب عمراننا.

x.com/bahriarfaoui1
التعليقات (0)