كتاب عربي 21

في مكارثية ترامب

سمية الغنوشي
الكاتبة أشارت في مقالها إلى استخدام ترامب كلمة "فلسطيني" كوصمة اتهام وتجريد من الشرعية- جيتي
الكاتبة أشارت في مقالها إلى استخدام ترامب كلمة "فلسطيني" كوصمة اتهام وتجريد من الشرعية- جيتي
يمكن لأي كان أن يصبح فلسطينيا!
"لم يعد يهوديًا. لقد أصبح فلسطينيًا".
بهذه الكلمات، لم يكتفِ دونالد ترامب بإهانة تشاك شومر—بل كشف شيئًا أكثر خطورة.
في عالم ترامب، “فلسطيني” ليست مجرد جنسية. إنها اتهام. حكم بالنفي. وصمة تجريد من الشرعية.

جريمة شومر؟
تساؤله عن حكومة نتنياهو المتطرفة وسلطويتها المتزايدة.
شومر، الصهيوني المتشدد، الذي طالما قدّم نفسه كأحد أشد المدافعين عن إسرائيل، تجرأ على الإشارة إلى أن تطرف نتنياهو يضر بمستقبل إسرائيل.
كان ذلك وحده كافيًا لترامب كي يجرده من يهوديته، ويصنّفه كشيء آخر—شيء يُقصد به الإهانة.
هذه ليست المرة الأولى التي يستخدم فيها ترامب “فلسطيني” كإهانة.
لقد أطلقها على بايدن، على شومر سابقا، على كل من يجرؤ على التشكيك في سياسات إسرائيل.

الرسالة واضحة:
أن يُطلق عليك لقب “فلسطيني” يعني أن تُنفى.
يعني أن يُلغى صوتك.
أن تُسحب شرعيتك.
أن تُمحى حقوقك.
طبعا، لو لم يكن شومر يهوديًا، لنعته ترامب بمعادي السامية.
الأمر لم يعد يتعلق بهويتك—بل بولائك.

في هذا النظام السياسي الجديد، يمكن لأي كان أن يصبح فلسطينيًا.
وأن تكون فلسطينيًا في عالم ترامب يعني ألا حقوق لك.
يمكن تجويعك، قصفك، طردك.

يمكن محوك من التاريخ- كما فعل ترامب وجاريد كوشنر حين هندسا اتفاقيات أبراهام، متجاهلين الفلسطينيين كما لو لم يكونوا موجودين.

يمكن تجريد الفلسطيني من أي حماية قانونية، حتى لو كان يحمل إقامة قانونية في الولايات المتحدة، حتى لو لم يرتكب أي جريمة.

محمود خليل، طالب في جامعة كولومبيا، يواجه الترحيل فقط لأنه عبّر عن آرائه السياسية.
يمكن اعتقال الفلسطيني إذا احتج، فصله من عمله إذا تحدث، وضعه على القوائم السوداء إذا رفض الخضوع.

والآن، يمكن التعامل مع أي شخص بالطريقة ذاتها.
هذه هي الرسالة الحقيقية في هجوم ترامب.
لا تحتاج أن تكون فلسطينيًا لتعامل كفلسطيني.
لا تحتاج أن تكون عربيًا أو مسلمًا.
كل ما عليك فعله هو الخروج عن الخط.
حتى يهوديتك لم تعد درعا يقيك.

هويتك أصبحت مشروطة. تاريخك أصبح قابلاً للإلغاء.
يمكن أن يُطلق عليك لقب “خائن”، “عدو من الداخل”، “شخص فقد مكانه”.
بمجرد أن تشكك في إسرائيل، تصبح فلسطينيًا—ليس بالولادة، بل بالمرسوم.
ففي هذا العالم، الفلسطيني لا حقوق له.
ولا حقوق لمن يدافع عنه.

مكارثية جديدة تتجذر في أمريكا، لكنها هذه المرة لا تستهدف الشيوعيين، بل كل من يرفض الانصياع لأجندة إسرائيل.
في الخمسينيات، كان القمع مبررًا بأنه حملة ضد التخريب، تطهير لمن يعتبرون “أعداء الدولة”.
اليوم، نفس آلة القمع تعمل، تحت غطاء “مكافحة معاداة السامية”.
المقصود منها ليس حماية اليهود من الكراهية.
بل تجريم انتقاد إسرائيل.
إسرائيل والولايات المتحدة لم تكتفيا بانتهاك القانون الدولي لشن حرب إبادة على غزة. الآن، تدوسان على الحقوق والحريات داخل أمريكا نفسها، وتقمعان كل من يفضح جرائمهما، وتجرّمان المعارضة.

إنها حملة لإسكات الطلاب والصحفيين والأكاديميين والنشطاء—أي شخص يجرؤ على انتقاد الاحتلال والفصل العنصري والتطهير العرقي.
والنفاق صارخ لأبعد الحدود.
ترامب وحلفاؤه بنوا صورتهم على الهجوم على “الصوابية السياسية”.
يدّعون أنهم مدافعون عن حرية التعبير، محاربون ضد الرقابة.
قبل أسابيع فقط، وقف نائبه جاي دي فانس في مؤتمر ميونيخ الأمني، موبّخا القادة الأوروبيين بزعم أنهم يقيدون حرية التعبير.
تباكى فانس على تراجع الغرب عن التزامه بالنقاش الحر.
ولكن في أمريكا، تحت حكم ترامب ومن يؤمنون بأيديولوجيته، حرية التعبير تُلغى عندما يكون الموضوع هو إسرائيل.

الطلاب المؤيدون لفلسطين يُعتقلون، يُطردون، تُلغى شهاداتهم.
الأساتذة الذين يتحدّون سياسات إسرائيل يُفصلون.
الصحفيون الذين يكشفون جرائم الحرب الإسرائيلية يُحظرون ويُضطهدون ويُسكتون.
الأفلام التي توثق معاناة الفلسطينيين تُلغى.
المنظمات الحقوقية تُشوّه سمعتها وتُصنّف ”متعاطفة مع الإرهاب”.

الجامعات والكليات- التي كانت يومًا حصونًا للفكر الحر- تتعرض لهجوم.
إدارة ترامب تهدد بقطع تمويلها الفيدرالي إذا لم تقمع النشاط المؤيد لفلسطين.
المؤسسات التي كانت ذات يوم تحتفي بالنقاش المفتوح، تغدو، في مناخات الترهيب هذه، أدوات رقابة وقمع فكري.

والعواقب تتجاوز الجامعات.

وزارة التعليم الأمريكية، التي من المفترض أن تحمي الطلاب من التمييز، تلقت أوامر بإعطاء الأولوية لقضايا “معاداة السامية”—رغم أن العديد منها ذو دوافع سياسية—على حساب الأطفال المستضعفين.

أولياء الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة يكافحون للحصول على الدعم الذي يحق لهم قانونيًا، لأن موارد الحقوق المدنية قد حُوّلت لمراقبة الخطاب حول إسرائيل.

النظام الذي كان مصممًا لحماية الفئات المهمشة، أصبح أداة لتحصين حكومة أجنبية من النقد.
والأمر لا يتوقف هنا.

وكالة فيدرالية أخرى، إدارة الهجرة والجمارك (ICE)، أُعيد توجيهها—ليس لمحاربة الاتجار بالبشر أو تهريب المخدرات، بل لمطاردة الطلاب الذين يعبرون عن تضامنهم مع فلسطين.

بحسب صحيفة هآرتس، أوقفت الوكالة تحقيقات رئيسية حتى يتمكن عملاؤها من مراقبة وسائل التواصل الاجتماعي، وتعقب الطلاب المؤيدين لفلسطين بناءً على منشوراتهم وإعجاباتهم.
هذا ليس تطبيقًا للقانون. إنها حملة مطاردة سياسية.

والآن، الخطوة التالية: من القمع القانوني إلى العنف الصريح الذي ترعاه الدولة.

ترامب يستعد لتفعيل “قانون الأعداء الأجانب” الصادر عام 1798، وهو قانون طوارئ يسمح للرئيس باحتجاز وترحيل غير المواطنين دون أي إجراءات قانونية.

بموجب هذا القانون، يمكن احتجاز وترحيل حاملي البطاقة الخضراء، الطلاب، أزواج المواطنين الأمريكيين—أي شخص لا يحمل الجنسية—بمجرد قرار من الرئيس.

تم سن هذا القانون لاستخدامه في أوقات الحرب ضد مواطني الدول المعادية.

لكن ترامب يعيد استخدامه، محولًا وضع الهجرة إلى أداة للقمع السياسي.
وقد بدأ بالفعل.

ترامب قام بترحيل الدكتورة رشا العلوية، جراحة زراعة الأعضاء اللبنانية وأستاذة في جامعة براون، مقيمة قانونية تحمل تأشيرة عمل H1B صالحة.
لا تهمة، لا محاكمة، لا إجراءات قانونية.

طبيبة موقّرة، طُردت بجرّة قلم، لأنها تناسب معايير النظام لـ“غير المرغوب فيهم”.
هذا ليس نظامًا قانونيًا. إنه تطهير عرقي وسياسي مقنّع تحت ستار قوانين الهجرة.

من سيكون التالي؟
الجواب معلوم.
الفلسطينيون. العرب. المسلمون.
كل من تظاهر. كل من تحدث. كل من صار مجرد وجوده “تحديًا”.
القمع يتصاعد.

أولًا، التشهير. ثم القوائم السوداء. والآن، التهديد بالترحيل دون محاكمة.
هذه الطريق لتدمير الحقوق—ليس دفعة واحدة، بل على مراحل، كل خطوة تمهد للأخرى.
يبدأ الأمر بمجموعة بعينها. ثم يمتد. قريبًا، سيصبح مجرد التعبير عن الرأي جُرما يستوجب العقاب.
التاريخ أرانا كيف يحدث ذلك.

بدأت المكارثية بمطاردة الشيوعيين، لكنها لم تتوقف عندهم.

امتدت إلى الصحفيين والأكاديميين والنقابيين ونشطاء الحقوق المدنية—كل من اعتُبر “خطرًا”.
حُطّمت حياتهم، دُمّرت سمعتهم، طُهّرت مجالات كاملة من العقول المستقلة.
والآن، يتكرر السيناريو ذاته.

يبدأ بالفلسطينيين. ثم الطلاب. ثم الأساتذة. ثم الصحفيين. ثم الشخصيات العامة.
ثم أي شخص يرفض إعلان ولائه المطلق لدولة إسرائيل.

هذه ليست مجرد أزمة للفلسطينيين. إنها أزمة للديمقراطية نفسها.
إسرائيل والولايات المتحدة لم تكتفيا بانتهاك القانون الدولي لشن حرب إبادة على غزة.
الآن، تدوسان على الحقوق والحريات داخل أمريكا نفسها، وتقمعان كل من يفضح جرائمهما، وتجرّمان المعارضة.

تفكّك حرية التعبير باسم “محاربة معاداة السامية”— التي صارت سلاحا، أداة سياسية.
والحال أن ما يجري  يغذي معاداة السامية، بقرن القمع لا بإسرائيل فقط، بل باليهودية نفسها.
بمجرد أن نقبل بأن انتقاد إسرائيل جريمة، نفتح الباب لشيء أشد قتامة.
اليوم، الفلسطينيون هم من يُسلبون إنسانيتهم.
وغدًا، كل من يجرؤ على المعارضة.
ذلك أنه في عالمٍ يغدو فيه مجرد قول الحقيقة كفيلا بتجريدك من حقوقك، ومن هويتك، ومن مكانتك في المجتمع- يمكن لأي كان أن يصبح فلسطينيًا.
التعليقات (0)