كتاب عربي 21

السلاحان الخفيان في بناء الأمم وهدمها

أحمد عمر
"الضحك والبكاء غريزتان، ويصلحان لبناء الدول"- CC0
"الضحك والبكاء غريزتان، ويصلحان لبناء الدول"- CC0
سنعود إلى تفسير حزن "الرجل البرتقالي" على أسرى إسرائيل الناحلين العجاف، المساكين، أبناء السبيل، بعد مناظرة بين الضحك والبكاء، في بناء الأمم وحطمها.

أهرق حبر، وانقصفت أقلام، في البحث عن أسباب بناء الأمم، واجتمعت العقول على أسباب ووشائج، مثل الأرض والدين واللغة والروح المشتركة والعرق، وأحيانا تتعدى الأسباب إلى عرى متغيرة، مثل الطعام والكساء، والآمال والآلام، لكن الباحثين يغضون عن خصيصتين أهملهما ابن خلدون وهربرت سبنسر وأوكست كونت، هما الضحك والبكاء.

يذهب الباحث الروسي ميخائيل باختين إلى أنَّ الضحك سلاح يدمر الطغيان، ولعله يقصد السخرية بالطاغية، لكن قوله مبالغ به، فلم يحدث أن أسقطت نكته أو طرفة طاغية، فالنكتة لا نصْل لها ولا سنان، ولا أنياب ولا أسنان، وهي ترويحة للنفس لا نزع للسلطان. الحالة الوحيدة المعروفة في التاريخ القديم والمعاصر، هي إسقاط هيبة محمد مرسي بالنكات، لكنه لم يسقط بها وحدها، ولم يكن سلطانا ولا طاغية، ولو كان ما سقط.

والطغاة الحصيفون والسلاطين الحكماء يقبلون بالنكتة الساخرة منهم، بل ويشجعون على إشاعتها سرا لأنها تنفس الكربة، وتقصر الحربة. والبرهان هو شعب مصر الفكه، وهو أشهر شعب ساخر في العالم، فطرائف الشعب تعين على إدامة عمر الطغيان، وتسلية المواجع والأحزان. ويوصف حزب النكتة -وهي تسمية مجازية- بأنه الحزب الوحيد المعارض في مصر، وهو نفسه حزب الكنبة، ولم تعد في مصر كنبة، فقد غدت الكنبة ترفا، فهو ينام على الحديدة. والنوم تحت الجسور ممنوع منذ أن بنى صاحب مصر الجديد الجسور الكثيرة، وأكثرَ من الأشواك الإسمنتية تحتها منعا من اتخاذها للسكنى أو المأوى، فقد عُرف المصريون بالسكن في المقابر؛ أحياء غير أموات ولكن لا تشعرون. يقال إن الشعب المصري عرف سر التحنيط مبكرا، لكن لم يحدث أن حنط رئيس الأحياء كما وقع لشعوبنا الضاحكة.

يُجمع كثيرون أن عادل إمام الذي ملأ الدنيا وشغل الناس أمسى إماما، وأطلق عليه لقب الزعيم بعد مسرحية الزعيم، وكان قد اشترط لزيارة تونس أن يستقبله رئيسها القايد السبسي، ففعل الرئيس خشية زعلة الإمام، وتبادلا عند الزيارة نكاتا قديمة من مسرحية له بالأبيض والأسود في زمن الملون. ويمدح كثيرون عادل إمام بأنه واسى الشعوب العربية بالضحك، وأجلى حزنهم وأنساهم الهزيمة، وجعل الضحك غنيمة، بل إنه حمل عنهم أمرين غير إجلاء الحزن، هما تعويضه لهم عن الفحولة الجنسية المكتومة والشجاعة السياسية المفقودة، فكان ناقدا سياسيا يذكر الرغيف الكبير، والمواصلات الخالية، وفحلا يباشر النجمات الجميلات في السرير بالعناق والقبل.

أما وقد فرغنا من البرهان على أن الضحك إن تحول إلى وباء يدمر الشعوب ويعمّر الطغيان، فسنبسط أمر البكاء الفتّان، وإن أشهر شعب حزين هو شعب عربي أيضا، هو شعب بلاد الرافدين، وقد فاض حزنه على بلاد فارس، التي كانت تحتل العراق وتتخذ الحيرة عاصمة لها، فالشعب الإيراني ما يزال يبكي منذ أن فقد إمبراطورته الكسروية العظيمة، وأُلبس يزدجرد بن شهريار بن برويز ثوب الحسين باتخاذ أخلاف الفرس التشيع مذهبا لهم. وأغلب التقديرات البحثية تذهب إلى أنَّ التشيع منوال موروث من عهد عبادة الآلهة؛ تموز في العراق، وأوزيريس في مصر، وأنه تصحيف عربي للدين المسيحي، وجرى تبديل للشخصيات في الدينين؛ الحسين هو مسيح الشيعة المصلوب، وفاطمة هي مريم العذراء، التي توصف بالبتول، مع أنها تزوجت ابن عمها عليا!

العقيدة البكائية والندبية، والنوحية، التي تحشد لها سليلة الإمبراطورية الكسروية بالجمهرات وحشود البكاء ومحافل الندب والنواح واللطم، حزنا على فقدها ملكها، وطلبا للثأر من قاتليه، أحفاد الطلقاء. البكاء واحد من أهم أركان الدولة الإيرانية وركائزها، وقد احتلت من جديد أربع عواصم عربية، ما لبثت أن تحررت من احتلالها دمشق، ويوشك لبنان أن يتحرر منها، ويختلط الدمع بالدم المتفجر من اللطم والضرب بالسلاسل على الشهيد الحسين.

وكان المسيحيون قديما يقيمون مواسم صلب، ويسمّر بعضهم أنفسهم بالمسامير في ذكرى الصلب، لكن انقرضت تلك العادة في أوروبا، في عصر الحداثة والتقانة والعقل، وما تزال ماثلة في بعض بلدان أمريكا اللاتينية المتدينة، في المناسبات الدينية. وكان سبب انقراضها في أوروبا هو الثروات التي انداحت عليها من المستعمرات الجديدة والحروب العالمية، وأفول العقيدة المسيحية في العقل الأوروبي المنبعث من جديد، فحلت شخصيات جديدة محل المسيح، مبهجة، مثل سانتا كلوز، وباتمان، وسوبرمان، بل إن أفلاما ساخرة من المسيح حلت محل التعظيم والبكاء القديم، بل إن فيلسوف القوة نيتشه زعم أن الإله مات.

إن الضحك والبكاء غريزتان، ويدّعي هذا المقال أنهما يصلحان لبناء الدول او شدّها وتمتينها أو توسيعها وتكبيرها، وتزكية الرعية أو تدسيسها وتبكيتها. وكانت أوروبا قد اتخذت الغيرة على قبر المسيح سببا فغزت به الديار الإسلامية إبان الحروب الصليبية، ثم حلّ اليهود محل المسيح في المناحة العظيمة، فهو الشعب المصلوب الذي تعرض إلى حرب إبادة في الحرب العالمية الثانية.

لا يشبه الندب في الغرب ندب الشيعة ونواحهم وابتهالاتهم التي تبث من أبواق المساجد ليل نهار، وتتجلى في السردية الصحافية والإعلامية والسينمائية المتواصلة، فالهولوكوست هو حائط مبكى العالم، وإن الدمع ليجمع ويؤلب أكثر مما يجمع الضحك ويفعل، فالضحك قصير العمر، وهو يكسد بسرعة، و"يميت القلب"، أما البكاء فلا يرقأ حتى ينفجر من جديد، منذ أن خرج آدم من الجنة باكيا على خطيئته، ضحك به إبليس وخدعه، وهو أول الضاحكين الساخرين، والبكاء أطول من الضحك عمرا، وأبلغ أثرا. ويجب أن نعذر رئيس أمريكا البرتقالي، الذي رثى الأسارى الإسرائيليين النحال العجاف في التبادل الأخير بين حماس وإسرائيل، وكان بوش قد زعم أن صدام حاول قتل أبيه فغزا العراق!

قفا نبكِ، ليس اقتداء بإخوة يوسف الذين جاؤوا أباهم عشاء يبكون، بل لأن حالنا يستحق البكاء.

قفا نبكِ وإن شئتما اقعدا مع القاعدين.

x.com/OmarImaromar
التعليقات (0)