مقالات مختارة

ثمن التوسع: من أوكرانيا إلى غزة

مأمون فندي
منذ عام 2003 ونتنياهو يقود العربة الأمريكية في الشرق الأوسط- الأناضول
منذ عام 2003 ونتنياهو يقود العربة الأمريكية في الشرق الأوسط- الأناضول
هل هناك روابط في الفكر الاستراتيجي الليبرالي بين أوكرانيا وغزة؟ بين فكرة السيطرة على غزة، وضم كل من أوكرانيا وجورجيا إلى حلف «الناتو» ضمن عملية التوسع شرقا؟

تعرفت على هذا النمط من التفكير عام 1997، عندما كنت أعمل أستاذا للسياسة بجامعة جورج تاون في كلية السياسة الخارجية، حيث كانت هذه الكلية هي مرآب الخارجين من الإدارة الأمريكية والمنتظرين للدخول ضمن إدارة أخرى، وكان طبيعياً أن تلتقي أنتوني ليك مستشار الأمن القومي في إدارة كلينتون، أو مادلين أولبرايت، وغيرهما من قادة التفكير بتوسعة «الناتو» في البداية، ليشمل دول التشيك والمجر وبولندا من أجل ما سمَّاها ليك «توسعة المجتمع الأطلسي». ولكن كان يحسب لأنتوني ليك، أنه كان يرى أن فكرة توسيع «الناتو» يجب أن تُبنَى على «التوسع والانخراط» (enlargement and engagement) وعدم انقطاع الحوار مع روسيا. كان هذا في الجزء الثاني من عقد التسعينيات في القرن الماضي، وكانت الجامعة معملا لهذه الأفكار، تستمع فيها إلى محاضرات ونقاشات لا تنتهي، وكلها كانت دعاية لتوسيع «الناتو»، رغم وجود قلة عاقلة من أساتذة السياسة حينها مَن حذَّروا من خطورة هذه التوسعة، ولكن القصة استمرَّت وتَوسَّع «الناتو» ليشمل دول البلقان، ومن بعدها دولا جديدة على أعتاب روسيا مثل: إستونيا، ولاتفيا، وليتوانيا، وذلك في عام 2004.

في عام 2008، وفي مؤتمر بوخارست، فُتحت شهية «الناتو» لضم كل من أوكرانيا وجورجيا للحلف، رغم اعتراض دول كبرى مثل ألمانيا وفرنسا، ومع ذلك سار الموضوع قدما بضغط أمريكي، بعد ذلك جاء الرد الروسي بضم جزيرة القرم عام 2014، ثم الحرب الشاملة على أوكرانيا في فبراير (شباط) 2022، والورطة مستمرة إلى الآن.

ولكن ما علاقة ذلك بما يجري في منطقتنا والعدوان الإسرائيلي على غزة وجيرانها؟ إضافة إلى التوسُّع على الأرض في فلسطين؟

العلاقة تبدو واضحة بالنسبة لي! بالقرب من مكتب أنتوني ليك في جورج تاون، كان هناك فريق آخر من إدارة كلينتون يتحدَّث عن حل القضية الفلسطينية على طريقة المقايضة الكبرى، التي قيل إنَّ عرفات رفضها، ولكن في غرف أخرى أو على بعد خطوات في شارعَي M ستريت، وk ستريت، كانت نقاشات أخرى تقول؛ إنَّ الفلسطينيين حصلوا على دولتهم وهي الأردن، أما الباقي فهو إرث إسرائيل التاريخية. وكانت فكرة التوسُّع والانخراط مع بوتين هي ذاتها مع عرفات، فقط اختلاف الأماكن والتكتيك.
ما نراه اليوم في فلسفة نتنياهو من التطهير العرقي، وحوار القوة في غزة ولبنان وسوريا (التوسع) مصحوبا بمحاولة التطبيع (الانخراط في حوار مع الجوار)، ينطلق من الجذور الفلسفية ذاتها التي تبنتها مجوعة إدارة كلينتون، التي بدت وكأنَّها من الحمائم تجاه القضية الفلسطينية يومها.

ثم جاء 11 سبتمبر (أيلول) وعهد جورج بوش الابن، وقرَّر نتنياهو أن يحمل أجندة إسرائيل في المنطقة على العربة الأمريكية أو الدبابة الأمريكية التي ستشق غبار الشرق الأوسط، وبدايتها كانت في العراق عام 2003. ومن يومها ونتنياهو يقود العربة الأمريكية في الشرق الأوسط.

العربة الأمريكية في توسعة «الناتو» انقلبت في أوكرانيا، والتهمت الحريق الروسي الذي نراه منذ عام 2022، وذلك سيكون مصير العربة الأمريكية في الشرق الأوسط، رغم عدم وجود روسيا التي تقف ضدها.

العربة الأمريكية اليوم المتجهة نحو إيران، لن تجد الحائط الروسي ذاته الذي صدها في أوكرانيا، وإنما ستدخل نفق الانزلاق السياسي في بيئة تتطاير فيها القذائف، وفي الوقت نفسه لا يوجد قنوات دبلوماسية مغلقة تستطيع التهدئة.

في معظم الحروب، حتى الحرب الباردة، كانت دائما هناك قنوات دبلوماسية لتقليل التوتر، هذه القنوات تكاد تكون منعدمة في الشرق الأوسط اليوم أو فاشلة، كما رأينا في محاولات التوصّل لوقف إطلاق نار في غزة، ومن هنا تكون فكرة الانزلاق واردة، ويصبح انضمام أطراف، عن دون قصد، إذا ما حدثت ضربة لإيران إلى المشهد، واردا أيضاً.

المنطقة تتَّجه إلى الانزلاق، والعربة دون كوابح، والأبواب الدبلوماسية الخلفية كلها تقريبا مسدودة.
مستقبل السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط هو ذاته في أوكرانيا اليوم؛ فثمن التوسُّع الإسرائيلي سيكون غاليا على السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، وله تبعات على أعمدتها الثلاثة المعروفة، مثل أمن الطاقة، وأمن إسرائيل، ومحاربة الإرهاب. التكلفة أعلى ممَّا تتصوره أروقة السياسة في واشنطن والعواصم الأوروبية. فالغباء الاستراتيجي واحد في الحالتين.

(الشرق الأوسط اللندنية)
التعليقات (0)

خبر عاجل