إن القارئ ليجد في المأثورات العربية مفاخرات بين السيف والقلم، ومناظرات بينهما ومنافرات، أشهرها مفاخرة ابن برد الأندلسي، "الدر المنظم في مفاخرة السيف والقلم"، وغيرها كثير، وقال قائلهم: "مساق أمر الدنيا بسين وقاف"، فيقال: سق: يريد السيف والقلم. وقال آخر: والعزُ نصفانِ بينَ السيفِ والقلمِ، وسأل سائل: فما الأقطعان؟ قال: السيف والقلم. وأضاف صاحب "كشف الظنون" سلاحا ثالثا إلى الأقطعين فقال: "مفاخرة السيف والقلم والدينار".
ولم نجد بين ضيوف القصر الجمهوري السوري بعد فتح الشام فتحا ثانيا سوى أصحاب الصور، من أبطال وسائل
التواصل، ليس بينهم قلم واحد، "فقوم يرون أن يكون القلم غالبا للسيف، واحتجوا على مذهبهم لأن السيف يحفظ القلم، فهو يجري معه مجرى الحارس والخادم، وقوم يرون أن يكون السّيف هو الغالب، واحتجّوا بأن القلم يخدم السيف، لأنه يحصّل لأصحاب السيوف أرزاقهم، فهو كالخادم له". أما ابن خلدون، فيرى أن أمر السيف أشد في تمهيد نشوء الدولة، ثم يأتي أمر القلم بعد استتباب أمرها.
وقد أصبحت المفاخرة في العصر الحديث بين السيف والصورة، فقد انتزعت
الصورة "الأنثوية" القلم "الذكوري" من عرشه وأزاحته من فرشه. ولا يحتاج الإنسان المعاصر إلى محو أمية وإتقان للّغة أو إجادة البيان حتى يصور
فيديو، ما يلبث أن ينتشر كالنار في الهشيم، فالقلم المعاصر هو الكاميرا، وهي مباحة لكل أحد، مثل الماء والكلأ والنار، ولا يجد المشاهد لبثوث الناشطين خبرا أو تعليقا (بالمحكية غالبا) إلا مصحوبا بصور ثابتة أو محركة (فيديو)، غالبا ما تكون صور الطعام حتى يستمرئ الخبر أو الطرفة المرويّة، ويزيد الخبر حلاوة وتطرية.
يجتهد فصحاء وسائل التواصل الاجتماعي في ضرب الأمثال بالصور، وكان العرب وغير العرب يضربون الأمثال بالكلام، فباتوا يقتبسون الأمثال من الأفلام، أو يستلّون النكات من المسرحيات والمقاطع الطريفة لتعضيد أقوالهم، أو أخبارهم، أو السخرية بها، ويبثُّ الدعاة آيات القرآن الكريم مجوّدة مع صور الأنهار والجبال والحيوانات، لزيادة الأثر، فالعينان هما الحبيبتان.
وكانت مسرحية مدرسة المشاغبين قد أمست مجمع الأمثال العربية المعاصرة، يقتطعون منها مقاطع لتزيين فيديوهاتهم وأفلامهم القصيرة، وقلّما تجد ناشطا يجتهد باحثا عن أمثال في بطون الأفلام أو المسلسلات، وهي كثيرة. وأعرف مجتهدا من فرسان وسائل التواصل اسمه محمد شعلة، ينتخب صورا غير مألوفة، ويستل من مقاطع الفيديو اليومية مستلّات طريفة، أما الآخرون، فلا يزالون يضربون أمثالهم البصرية بيونس شلبي ومرسي الزناتي وعادل إمام، الذي يعادل قصير بن سعيد العصر والأوان.
وظهرت
لغة الإيموجي، وهي لغة الإنسان الأول في الكهوف والمغاور، لغة العجمة، ويبالغ الصحافيون في تعظيم أمر الصورة، والصورة لغة غربية، وهي لغة الكنائس الأولى، والمعابد الوثنية أيضا، في حين أنَّ لغة العرب هي البيان والكلمة، وأكثر نشطاء وسائل التواصل هم من العامة والأميين، وأعشار المتعلمين، وهم إن كتبوا، فباللهجة العامية، وأمست الأمثال التي يضربونها لا تحتاج سوى إلى مقص الكتروني ومهارات المونتاج، فالأمية المعاصرة هي أمية الصورة!
يتلفت الباحث حوله لقراءة خطب الرئيس السوري أحمد الشرع، أو المصري مثلا، فلا يجد، فكلها خطب مرئية، ولم يعد هناك صحافة مقروءة تفرغ الخطب إلى كلمات، إلا نادرا.
ما ليس صورة خبر ناقص في دين الإعلام المعاصر، "فليس الخبر كالمعاينة"، بل إنّ الناشطين الظرفاء في عصرنا كرّوا على صور الإغريق الشهيرة، وتماثيلهم، واتخذوها متنا للدعابات والمزاح باللهجات العربية، فسقراط يحلف على صحبه ألّا يخرجوا قبل أن يتعشوا، وماراتون يقول: نشف ريقي؟
وأصبح شيوخ وأئمة وفقهاء يستعينون بالإيموجي كفواصل وعلامات ترقيم ورسائل، وكان كاتب السطور يتعجب من معلمته الألمانية التي تأبى الاستعانة بالإنكليزية -وهي تعرفها- لشرح معاني الكلمات الألمانية المستغلقة على المتعلم الوافد، اعتزازا منها بلغتها أو تعصبا لها، وتفضل الاستعانة بوجوه "الإيموجي" في تفسير مشاعر الوجوه، أهي ابتسامة غضب أم رضى، أم رفض؟
ولا تكتفي أجهزة الترجمة الآلية بترجمة صور الأفلام والمسلسلات عونا للمشاهد المعوق آليا، فتخرج لنا ترجمات عن صمت المتحاورين في الفيلم، وتخبرنا الترجمة الآلية المحتومة عند سيادة الصمت أن ما نسمعه إنما هي موسيقى حزينة أو موسيقى فرحة، أو مخيفة، وهو لزوم ما لا يلزم، فالمشاهد يسمع ويرى، لكن المترجم رأى من واجبه شرح ما يجري للمشاهد الأعجم.
لا يصير الكاتب كاتبا إلا بعد قراءة مئات الكتب، أما المؤثر الحديث، فلا يلزمه ليكون مشهورا سوى جهاز تلفون يدوي محمول يضعه في سيارته أو مطبخه، ويخاطب المشاهدين، فيصير مشهورا، لا ببلاغته، إنما بعجمته، وقد اشتهر قوم عجام، بل إنّ العجمة منصة لها أبطالها -وكانت العرب تستحب العجمة واللثغة للجارية والولد- وأن العجمة تدرُّ على أصحابها أموالا وشهرة، ويسعى المتابع إلى صور تذكارية معهم، تجعله شبيها بالسامري الذي قبض قبضة من أثر النجم.
وكان ترامب قد كاد لزيلنسكي كيدا، فأدخل عليه الصحافيين فحصلت تلك الموقعة الإعلامية المصورة التي خرج منها زيلنسكي مسوّد الوجه وهو كظيم. وتجادل إسرائيل في صور المسعفين الخمسة عشر الذين كانوا يستعملون سيارات الهلال الأحمر وقد قُتلوا ودُفنوا، وكان أحد الشهداء المسعفين قد بثّ الصور في أثناء ارتكاب الجريمة. ستماطل إسرائيل كعادتها في شأنهم وتأمر بتحقيق ما يلبث أن يُنسى بمذبحة جديدة، وقد تعاقب الجنود الذين قتلوا المسعفين "بالغلط"، وتغرمهم بضع شيكلات، أو تنفيهم من جبهة إلى جبهة، أو تعذرهم بعذر الأخطاء الفردية.
وقد سمي الإنسان باسمه لنسيانه، وقيل في بعض البحوث إن أصله سمكة، والنطفة سمكة أو هي من جنسها، والسمكة تنسى.
ما زلنا في شأن الصورة، لكن الصورة يجب أن تكون بكاميرا غربية، فلم تنفع السوريين صور قيصر المريعة لأنها مصورة بكاميرا محلية! للعلم غزة ممنوعة على الصحافيين الغربيين والعالميين!
تتجنب وسائل الإعلام الأوربية الكبرى والحكومية والرديفة نقل صور المذابح الجماعية في غزة، حرصا على ربيبتها إسرائيل، وتنظر إليها بعين السخط، والحذف، والإغضاء، لكن الصور تنتقل في شقوق وسائل التواصل، وهي تحلُّ ببطء محل صور الهولوكوست القديم الذي بها بنت إسرائيل صورتها الفاضلة، صورة الضحية الوحيدة لا شريك لها.
لقد عدنا إلى السيف، ولقينا من دمنا نصبا.
x.com/OmarImaromar