قضايا وآراء

وما زال "الطوفان" يكشف ويعرّي

هشام الحمامي
فلسطين - عربي21
فلسطين - عربي21
يقولون إن شر الكلام ما ناقض بعضه بعضا، وهو قول صحيح تماما، ليس فقط لأنه يكشف الشر والأشرار في شرورهم وآثامهم، ولكن وهو الأهم، أنه يكشف أسوأ سوءاتهم، وعوراتهم العقلية والنفسية والأخلاقية، وسيكون أحد أهم عزائم وعظائم "الطوفان" في كشف وتعرية هذه النقائص والسوءات جميعها، وعلى نطاق بالغ الاتساع، وبالغ التنوع، سواء كان ذلك من داخل الحالة الفلسطينية تنظيميا وتاريخيا وسياسيا، أو الحالة الدولية أمميا وسياسيا وأخلاقيا، مرورا بالنظام العربي الرسمي، وما يحتويه من مؤسسات وأنظمة وتجمعات وكيانات مدنية وحزبية وفكرية وثقافية.

عشنا وعاشت الدنيا طويلا، في ليل داج من ظلمات الأكاذيب، ظلمات بعضها فوق بعض، حتى لكأنه "ليل" أمرؤ القيس الذي أردف أعجازا وناء بكلكل، امتدادا وتطاولا، فلا نكاد نتذكر له بداية من طوله علينا وعلى الأمة، حتى جاء "الطوفان" بكل ما يحمله اللفظ من معنى، تتعدد حمولاته التاريخية والدينية، وما يحمله لغويا من شمول واتساع وتأثير وأثر، فيما كان وما سيكون.

* * *

لا مفر من التسليم بهذه الحقيقة، بغض النظر عن الحكم السطحي الظاهر على مجريات الأمور، من 7 أكتوبر حتى يومنا هذا، وبغض النظر حتى عن الرأي فيه اتفاقا واختلافا، لكن المؤكد أنه تاريخ فاصل تماما، لكل ما قبله عن كل ما بعده، وهذا حكم تكاد تتفق فيه كل الآراء، على تعاطفها أو تباعدها في الموقف منه.

بغض النظر حتى عن الرأي فيه اتفاقا واختلافا، لكن المؤكد أنه تاريخ فاصل تماما، لكل ما قبله عن كل ما بعده، وهذا حكم تكاد تتفق فيه كل الآراء، على تعاطفها أو تباعدها في الموقف منه
ولن ننسى تلك الإشارة المبكرة من المفكر الفرنسي جيل كيبيل (70 سنة)، الأستاذ بمعهد باريس للدراسات السياسية، حيث قال في كتابه الأخير "انقلاب العالم ما بعد 7 أكتوبر" الذي ترجمته وعرضته الكثير من الصحف والمواقع الإلكترونية: "السابع من أكتوبر هو يوم فاصل، أنتج عواقب كثيرة، وترتبت عنه اختلالات عميقة للعلاقات بين الدول، كانت تعد ثابتة ويصعب تغييرها، لكن الحدث شكل زلزالا حقيقيا، تتسع تداعياته يوما بعد يوم، لتشمل العالم بأسره".

"تتسع تداعياته يوما بعد يوم.."، هذه الجملة تقدم لنا أدق وأعمق وأقرب توصيف، لفهم ما دار بعقل أصحاب القرار وهم يحضرون للطوفان، أولئك الذين أرادوها معركة بحجم الصراع وتاريخه ومقدساته، لا جولة من تلك الجولات في نطاق "محلّك سر"، وهو ما أشار إليه القائد العسكري محمد الضيف في محاضرة لعدد من قادة كتائب القسام في إطار التحضير للمعركة، حيث قال: "نستطيع أن نغير مجرى التاريخ، ويكون لنا السبق في هذه الفترة الزمنية..".

* * *

ولأن التاريخ لا يعرف التغيرات الفجائية، ودائما ما تكون له خمائر وإيماءات، تنضجها الظروف، فقد كان الرجل في حالة من الوعي العالي بالمفهوم الاستراتيجي لمعنى "الحركة التاريخية" والتي ستكون على "فترات زمنية" تسلم بعضها بعضا..

لكن كان لا بد من بداية لهذه الحركة التاريخية، بداية تستشرف الطريق، ومحطاته الزمنية، في تتابع وتتالٍ تعرفه الأجيال وتعيه وتتوارثه جيلا بعد جيل، دونما تردد ولا انقطاع، بذات الفهم وذات الروح وذات الإعداد، فتقترب من غايتها جيلا بعد جيل.. "كأننا عشرون مستحيل/ في اللد والرملة والجليل/ يا جذرنا الحي تشبث/ واضربي في القاع يا أصول.."، كما قال الشاعر الراحل توفيق زيّاد (ت: 1994م) رحمه الله.

* * *

"الجذر الحي المتشبث" سينفر من حالة الاضطراب والريبة، التي عانت منها طويلا الحركة الوطنية الفلسطينية، حتى انتهت إلى ما انتهت اليه في أوسلو وما تلاها من تخديم، بوعي ودون وعى، على أهداف المشروع الصهيوني، وكانت أبرز مظاهرة، تصريحات رئيس السلطة الوطنية الأخيرة في افتتاح جلسة المجلس المركزي لمنظمة التحرير في رام الله، فالرجل تضاءلت رؤيته لهذا الحراك التاريخي الضخم، ولم تمكنه قدراته كقائد أن يرى فيه إلا تسليم الأسرى، إنهاءً للموضوع كما أستوعبه!

* * *
أن يكون الإنسان مخطئا فهذا عادي، أما أن يدرك خطأه ويستمر فيه، فهذا هو غير العادي، وهو ما يشير إلى خفايا وأسرار تجعل مواقف هذا الإنسان مريبة ومتهمة أيضا. وأتصور أن سلطة رام الله كلها (الرئيس ومعاونيه) قد تجاوزت بمراحل كثيرة حالة التحسب والخوف من الظنون بالريبة والاتهام، فقد وضعوا أنفسهم في قلب الريبة والاتهام مبكرا بعد توقع اتفاقات أوسلو

أن يكون الإنسان مخطئا فهذا عادي، أما أن يدرك خطأه ويستمر فيه، فهذا هو غير العادي، وهو ما يشير إلى خفايا وأسرار تجعل مواقف هذا الإنسان مريبة ومتهمة أيضا. وأتصور أن سلطة رام الله كلها (الرئيس ومعاونيه) قد تجاوزت بمراحل كثيرة حالة التحسب والخوف من الظنون بالريبة والاتهام، فقد وضعوا أنفسهم في قلب الريبة والاتهام مبكرا بعد توقع اتفاقات أوسلو (أيلول/ سبتمبر1993م).. أما وقد استنفدوا ما لديهم من بلاغة كلامية وفصاحة ميكرفونية، فلم يعد هناك ما يخفى.

وسنتذكر بكل حنين وأنين، صرخات شاعر الوجع محمود درويش وقتها، ونداءات صاحب "الاستشراق" د. إدوار سعيد رحمهما الله، لتدلل لنا على كل ذلك.. الشاعر والمفكر حين يقاربان السياسة، ستكون أياديهما وعيونهما، حارسة على صون التاريخ وحفظه مما يريبه.. لذلك كان ابتعادهما عما يجري وقتها سريعا وقاطعا.

* * *

لن نبتعد كثيرا إذا حاولنا فهم مغزى التوقيت في قرار الحكومة الأردنية بحل جماعة الإخوان، وهي الجماعة التي كانت تعتبر دائما أحد ركائز الشرعية في منظومة السلطة والسياسة في البلاد طوال عقود طويلة، الرسالة في التوقيت واضحة، ولا تحتاج لتفسيرات وشروحات.

وإذا كان هناك لوم، فلن يوجه للحكومة ولا للنظام، لأسباب مفهومة ومعروفة، لكن اللوم حقيقة يوجه هنا للجماعة، التي تحمل فكرا استراتيجيا ثابتا، عن مفهوم الصراع بين العالم الإسلامي والمشروع الغربي/ الصهيوني، لكنها بكل أسف، لم تفهم الزخم التاريخي الذي جاء به 7 أكتوبر في هذا الصراع، ولحساسية الوضع برمته، كان عليها أن تنسحب من المشهد السياسي الأردني بأكمله، ولا تكون أبدا جزءا منه، في هذه "الفترة الزمنية من مجرى التاريخ"، إذا استعرنا تعبير القائد الشهيد محمد الضيف.

فإذا كان على نظام حكم أن يتخذ من التدابير ما يعزز وجوده السياسي، فليس أقل للحركات الإصلاحية، من اتخاذ التدابير التي تعزز وجودها التاريخي، خاصة إذا كان يتقاطع في أحد أهم خطوطه مع القضية المركزية لهذه الحركات، وهي فلسطين والأقصى.

* * *

وأختم بجملة قالها أحد أبرز تيار "المؤرخين الجدد" د. إيلان بابيه (71 سنة) في رؤيته لـ"ما بعد الطوفان" وتطوره ونتائجه، حيث قال: "لا يمكننا أن نتوقع التغيير من الداخل (إسرائيل)، ما نحن بحاجة إليه كما قلت سابقا، وسأردده مرارا وتكرارا، نحن بحاجة إلى ضغط قوي من المنطقة، ومن المجتمع الدولي، إذا كنا نريد حقا أن ننهي معاناة الاحتلال والاستعمار". لكن المنطقة والمجتمع الدولي لهما حسابات؛ بعيدة عما يتمناه ويرجوه، المؤرخ اليهودي (الإنسان).

x.com/helhamamy
التعليقات (0)