قضايا وآراء

تُنسى وتَنسى: عن الذاكرة في المعتقل

أحمد دومة
"البقاء في زنزانة انفراديّة لسبع سنين ونصف، بما فيها من تعذيب وتنكيلٍ ومنعٍ وفقد، يفعل ما هو أفظع"- عربي21
"البقاء في زنزانة انفراديّة لسبع سنين ونصف، بما فيها من تعذيب وتنكيلٍ ومنعٍ وفقد، يفعل ما هو أفظع"- عربي21
"في البدءِ خشيتُ أن ينساني الناس، ثم صرتُ أخشى أن أنساهم، وبعدها صرتُ أخشى أن أنساني"

لم أعرف بعض أهلي حين زاروني في المعتقل، كان الاكتئاب وصحبه قد أهلّوا عليّ قسرا -وما زالوا- وأصاب الذاكرة شيءٌ من صدئهما، فانحجب عني الكثير من الوجوه والأسماء والأحداث والأصوات، أدركتُ حينها أنّ شيئا مخيفا يحدث. الذهن هو ساحة الصراع، هكذا ردّدتُ على نفسي ورفاقي في كلّ مناسبة، ويبدو أنّ خللا أصابه هو الآخر، البقاء في زنزانة انفراديّة لسبع سنين ونصف، بما فيها من تعذيب وتنكيلٍ ومنعٍ وفقد، يفعل ما هو أفظع.

"فلأستعِن بالخيال".. قلتُ لنفسي، وكثّفتُ طقوس التخيّل والتخليق، حتى فوجئتُ ذاتَ ليلة بأنّ الخيال انحجب هو الآخر، لا أستطيعُ استكمال مشهدٍ أضعُ نفسي فيه أو أحبّ الوجود جزءا منه، كانت هذه الصدمة الأشدّ، لعلّها واحدة من المرّات النادرة التي خفتُ فيها -بحسب تصوّري المتشدّد عن الخوف- وحينَ صحوتُ فزِعا من نومي القلق أصلا، على صوت أبي يناديني، صوت حيّ لا لبس فيه وبقي صداهُ يتردّدُ في الزنزانة بعدما استفقتُ، ظللتُ لأسابيع بعدها أجتهد كي لا أنام، أفتحُ عينيَّ غصبا وإن سقط ذهني في حفرة النوم، علّ صوته يعود ويُحضرُ معه شيئا مما أسقطته الذاكرة غصبا، كأثرٍ جانبيٍّ للمعتقل.

المقاومة الحقّة -في هذا الموضع- تكمن في استعادة الذاكرة، في التشبث بكل تفصيل مهدّد، في إعادة سرد ما حدث وكأن الرواية ذاتها سلاحٌ في المعركة ضد التشويه والمحو

ما الذي أفعله حين تخلو ذاكرتي؟ من أنا بغير هذه الذاكرة؟ لا أحد، أو في أهون الظروف آخر غيري لا أعرفه ولم أختره، وربّما لا أريده.

* * *

ليست الأزمةُ هنا ضعفا في الذاكرة، إنّما تهديد هويّة، فزعٌ من أن تمحى، ألا تعود موجودا، أن تتحوّل لأثرٍ بعد عين -حرفيّا- فالقمع ليس مجرد ممارسة للعنف، بل استراتيجية لإلغاء المعنى ذاته، إذ لا يكتفي بسلب الحاضر، بل يمدّ يده إلى الماضي ليعيد تشكيله وفق إرادته وتصوّره، ثم يمضي نحو المستقبل ليحشوه بروايته الملفّقة.

والمعتقل ليس فقط مكانا للتحييد أو الحجب، بل ماكينة لإنتاج النسيان، حيث يُمحى الشخص، تُشوَّه السرديّة، ويُعاد تشكيلك وواقعك بحيث تُمسي شبحا بلا ماضٍ موثّق، بلا أثر يُستدعى، وبلا رواية تُسمع، لكن المقاومة الحقّة -في هذا الموضع- تكمن في استعادة الذاكرة، في التشبث بكل تفصيل مهدّد، في إعادة سرد ما حدث وكأن الرواية ذاتها سلاحٌ في المعركة ضد التشويه والمحو.

أن تَتذكّر يعني أن ترفض الإلغاء، أن تنحت أثرا على الجدار الذي يرادُ له أن يكون بلا علامات، أن تُبقي التاريخ حيّا رغم محاولات سحقه. في هذه المواجهة، تصير الذاكرة أكثر من مجرّد استرجاع للأحداث، إنها فعلٌ يعيد تعريف الوجود ذاته، إثباتٌ أنّك لم تكن مجرد رقم، بل إنسانٌ حمل معنى لا يمكن لمقصلة النسيان أن تبتره.

* * *

النسيانُ يؤلم أكثر من الغياب، فالغائب سيعود يوما، أما المنسيّ فقد انتهى أمره. والمرعب هنا أنّ هذا لن يكون فعلا عدائيّا بل عمليّة طبيعيّة، تبهت شيئا فشيئا على الألسنة، والجدران، والمقالات ووسائل التواصل الاجتماعي، وفي الأذهان كذلك. ما توقّف كان عالمك أنت، أمّا العالم فيكمل مساره، ربّما بشيءٍ من الثقل في حيوات أحبابك، وبعد قليل يكمل مساره تماما بلا اكتراثٍ، إلا بعض مصمصةٍ للشفاة في مناسبةٍ سنويّة، فالذهنُ جهازٌ يعمل لصالحه هو، لا لصالح صاحبه أو انطلاقا من إرادته، فيحذف ما يُرهقه أو يمثّل ضغطا عليه، وفي لحظةٍ ما ستصبح أنت هذا الضغط؛ فيحذفك لينجو.

وهو -النسيان- لا تسبقه نيّة أو تحرّكه إرادة، بل محض آليّة بقاء لن تدركها حتى تفقد ما قد لا يعود ثانية، أو تُفقدَ أنتَ شخصيّا. يعجزُ الذهن عن تحمّل ما يثقله، يصير استدعاء الماضي عمليّة مرهقة تهدد بالسقوط أو الانهيار، يلجأ -الذهن- لتقليص نفسه شيئا فشيئا حفاظا على التماسك، وعلى بقاء ما سيُبقيه بأمان وكفاءة، فيتخلّص من العبء، لا خيانة لك، إنّما محاولة نجاة، ولأنّه ليس أداة وفاءٍ بالأساس، فإنّه يتخلّص من كلّ ما يُثقله ويهددُ كفاءته أو -بالأحرى- بقاءه.

ولعلّه بهذا أخطرُ من الاغتيال، فهذا يقتلك أمام الجميع، يتركُ دما يقول ما جرى، يتركُ جثمانا يُستدَلُّ به عليك، يُحدثُ صدمة تخلّف ضجيجا، يتركُ حقّك في الرواية، يبقيكَ في الأذهان وفي الأخبار و-ربّما- في الكتب، أما النسيان فهو يفتكُ بك بغير دمٍ ولا أثرٍ ولا جثمان، لا شيء يُستدلّ به على أنّك كنت هنا، يحوّلك مِن "كان فلان" إلى "لم يكن أصلا" ثمّ "لا شيء". في الموتِ تنجو ذكرى، وفي النسيان لا ذكرى ولا نجاة، ولهذا هو الأبشع، كمحوٍ مطلق، ونهايةٍ لا يعرفها أحد ولا يحكيها أحد. وهذا مكمن الرعب الحقيقيّ في النسيان: أنّه لا يلزمه قرار؛ إذ لن تتعمّد أن تَنسى، ولا أن تُنسى، لكنّ ذلك سيحدثُ لا محالة.

الكتابةُ إذا ليست ترفا، ولا طقس تأمّلٍ، ولا حتى "أكل عيش" لمثلي ممّن ليس لهم مصدرُ دخلٍ سواها، إنّما دليلُ وجود، وطوق نجاة من الفقد والانمحاء، والتحوّل من إنسانٍ وحكاية، إلى رقمٍ باهتٍ في ملفٍّ أمنيّ. لذا لا أكتب لأخلّد، بل لأوجد، لأتذكّر ما جرى، وأذكّر به، وهذا وحده يكفي

وهكذا، يتحوّل المعتقل إلى اختبار مزدوج: هل يمكنك أن تظلّ حيّا في ذاكرة مَن بالخارج؟ وهل يمكنك أن تظلّ حيّا في ذاكرتك أنت؟ إنها ليست معركة ضد النسيان فقط، بل ضد محو المعنى ذاته، ضد أن تفقد مرجعيتك لنفسك، أن تصبح بلا وجود، بلا ماضٍ يُستدعى، وبلا حاضر يُوثق.

* * *

ذاكرتي ليست كاملة، لا أملكُ الآن كلّ ما كان فيها، لكنّي أملك أثر فقدها وبه أعيش. ما زلتُ أدوّن وأستدعي وألتقط ما تساقط، لا لأنّ الذكرى فِرْدوسا، بل لأنّ النسيان جحيم، لأن ما لا أقدرُ على تذكّره، ومن ثمّ روايته، هو لم يحدث إذا، ومكانه فراغٌ أو عدم. الكتابةُ إذا ليست ترفا، ولا طقس تأمّلٍ، ولا حتى "أكل عيش" لمثلي ممّن ليس لهم مصدرُ دخلٍ سواها، إنّما دليلُ وجود، وطوق نجاة من الفقد والانمحاء، والتحوّل من إنسانٍ وحكاية، إلى رقمٍ باهتٍ في ملفٍّ أمنيّ. لذا لا أكتب لأخلّد، بل لأوجد، لأتذكّر ما جرى، وأذكّر به، وهذا وحده يكفي.

"هُزمنا على الأرضِ.. وما زلنا

نُسحقُ؛ لينتفي وجودنا-مطلقا: تشويشا.. كي لا نُرى بوضوح، حجبا.. لا يمكنُ التحقّق، تشويها.. لتحلّ نسخَتُهم الشوهاءُ، ثم نفيا تاما

من الماضي: خَلقوا روايتهم المدّعاةُ ويصبّونها في الآذانِ والأذهانِ وصفحات الكتب.

منَ الحاضرِ: يشغلونَ الكلّ بتجنّبِ مصيرٍ مشابهٍ، ومن المستقبلِ: هو خلاصةُ ما سَبَقَه.

أن تَنسى: مَنْ غيرُكَ سيروي ما وقَع؟ أن تُنسى: مَن سيُنصِتُ لـ لا أحد؟

الذاكرةُ، إذا ساحةُ المعركة الدائرة، ومحدّدُ الانتقال معَ الزمنِ لـلحظةِ القادمة.

أن نبقى قادرينَ على التذكّرِ والحكيِ..

أن تبقى روايتنا، بأذهاننا..

أن نبقى..

تلكَ، الآنَ هي المسألة!"

(من كتاب "يُشبه الهُتاف، يُشبه الأنين" للكاتب)
التعليقات (0)

خبر عاجل