لا يخفى على
مبصر فرض واشنطن لإرادتها على خرائط العالم لا بالتفاوض بل بالإملاء، وهو ما بدأ يسطر
فكرة تعدد الأقطاب ضربا من الترف النظري، غير أن الانهيارات المتتالية التي شهدها النظام
الدولي بعد الجنرال "كوفيد-19 (جائحة كورونا)، وصعود موجات المقاومة غير التقليدية،
وانبعاث حضارات من رحم المعاناة، فجّرت سؤالا وجوديا لم يعد بالإمكان تجاهله: من يحكم
العالم؟ وبأي شرعية؟
لقد بدأت معركة
الأقطاب حين كانت شعوب الأرض ترزح تحت احتكار الدولار، وتحتكر النخب الغربية القرار،
ويُعاد تشكيل الأمم من بوابات المؤسسات المالية، بينما تستبعد الشعوب، لتستعبد في مشهد
المصير، ليكون هذا
التوازن المصطنع دوامة لن تدوم. فيقيننا أن ما يحدث هو نتاج تحدٍ
واستجابة، والاستجابة الحضارية لا تقبل الاملاءات، وإن طال أمد الصمود، فالحق يوما
ما مآله للصعود.
استدلال..
من قطبية واحدة إلى انفجار تعددي
سجل التاريخ
سقوط جدار برلين، الذي يعد إيذانا بانتهاء الثنائية القطبية، حيث التحول الأمريكي من
الشراكة المتوازنة إلى قطب مهيمن، فهيمنت بقوتها العسكرية، ونفوذها
الاقتصادي، وأذرعها
الإعلامية، حتى بدا أن العالم يسير وفق برنامجها وحدها، حتى بدأت الأزمة المالية عام
2008، وصعود الصين بعد انضمامها لمنظمة التجارة العالمية، والسقوط القيمي والأخلاقي
في غزو العراق وأفغانستان، ثم تمويل الانحدار في مستنقع التبعية ودعم الاحتلال في فلسطين
وضرب اليمن، حيث الانكفاء الأمريكي في فترة ترامب الأولى، لتظهر هشاشة
الهيمنة.
ثم انطلقت
معامل الصين، بالفيروس الجنرال الذي أغلق العالم وفتح الباب أمام نظام عالمي جديد،
ليس أحاديا، ولا حتى ثنائيا، بل شبكة من مراكز القوة: الصين، ثم روسيا، فأمريكا، وأوروبا،
ثم تركيا، وإيران، والهند، ومعها أقطاب إقليمية صاعدة، في ظل تفكك في السلطة الدولية،
حيث تعود مصر وفلسطين لتشكّلا مفصلا مركزيا في معادلة التوازن القادمة.
استدراك..
روسيا والصين.. حين تُبعث الحضارات من الرماد
خرجت روسيا
من الحرب الباردة منهكة، لكن بقيت لديها ذاكرة قيصرية، وأدوات صلبة، وطموحات استراتيجية،
وخاصة بعد أن رأت كيف تم ابتلاع أوروبا الشرقية تحت مظلة الناتو. فمنذ عام 2014، بعد
ضم القرم، بدأت روسيا تعلن بوضوح عودتها كقطب مضاد، واستكملت بحربها على أوكرانيا،
التي بدت وكأنها ليست مجرد معركة جغرافيا، بل اختبار لنظام الأقطاب، وصدع كبير في أحادية
الغرب.
أما الصين،
فقد مارست نفوذها عبر طريق الحرير، ومنظومة التمويل التنموية، وعبر احتلالها لمواقع
اقتصادية استراتيجية في أفريقيا وأمريكا اللاتينية. لقد تحركت الصين بنظرية الصعود
السلمي، لكنها كانت تُعيد صياغة العالم دون ضجيج، وأغلقت موانئ العالم البحرية والبرية
والجوية، وعطلت سلاسل الأمداد، وأعلنت السيادة العالمية، واحتلال العواصم دون إنزال
عسكري.
استقراء..
أمريكا بين لحظة السقوط وإدمان الإنكار
واليوم تواجه
أمريكا أكثر من تحدٍ داخلي وخارجي: أزمة الديون، وتفكك التحالفات، وتنامي الدور الصيني،
وانكشاف الاستراتيجية في الشرق الأوسط، وتآكل الشرعية الأخلاقية، والتوقف والانسحاب
من اتفاقيات ومنظمات دولية تمويلية وإقراضية، ثم التحول نحو عقد الصفقات لبيع المزيد
من أسلحة الدمار، لتُعيد بناء تحالفات من خلال استراتيجية "أعداء مشتركين"،
كاستخدام ملف الصين، أو ورقة الحرب على الإرهاب، لكنها فشلت في استعادة القيادة بمفهومها
القديم. وها هي تجد نفسها تحارب في أوكرانيا دون انتصار، فتتحول إلى محاربة أوكرانيا
ذاتها، وتُراقب تحليق الاحتلال في الشرق الأوسط وغزة دون سيطرة، وتُحاور السعودية وتعقد
معها الصفقات دون ضمان.
فهل تملك أمريكا
اليوم غير سياسة محاولة احتواء صعود الآخرين، تحديدا روسيا والصين؟ أم تمعن في الاستحواذ
على دولة التبعية الاقتصادية والسياسية الدكتاتورية من ممالك وجمهوريات، في مقدمتها
أولى الدول في مؤشرات الفساد، مثل مصر؟..
استقراء علمي
لمصر.. من ميدان الثورة إلى ساحة التبعية
فمنذ انقلاب
تموز/ يوليو 2013، انقلبت موازين السيادة في مصر، لم تعد الدولة المصرية حرة الإرادة،
بل رهينة تحالفات إقليمية ودولية تُصادر القرار، وتُعيد صياغة الوظيفة الإقليمية مع
الجوار الفلسطيني والسوداني والليبي والأردني.. وهو ما جعل القاهرة ترتبط اقتصاديا
بقروض دولية، وأرقام رصدها العالم لموقع مصر هذا العام في المؤشرات الدولية:
1. حرية الصحافة: المرتبة 168 من 180، بحسب مراسلون بلا حدود.
2. سيادة القانون: مصر تحتل المركز 125 من 142، وفق مشروع العدالة العالمية
(World Justice Project).
3. الفساد: في المرتبة 108 من 180 حسب مؤشر الشفافية الدولية (Transparency International).
4. كفاءة الإدارة: المرتبة 133 من 140 حسب المنتدى الاقتصادي العالمي.
5. غسيل الأموال: مصنفة من ضمن الدول ذات المخاطر العالية بحسب مؤشر
بازل (Basel AML Index).
6. البرلمان: مسرح سياسي، بتمثيل أمني لا شعبي، بنسبة هيمنة تتجاوز 85
في المئة من مقاعده.
7. حقوق الإنسان: أحكام إعدام سياسية، واغتيال رئيس واعتقال حكومة وبرلمان
وعلماء وخبراء وأساتذة جامعات ومفكرين حاصلين على جوائز عالمية، وتعذيب ممنهج، واعتقال
أطفال ونساء، واختفاء قسري واعتقال أطفال ونساء وأسر معارضين ملاحقين في الداخل والخارج
المصري، وتجريم المعارضة، وفق تقارير منظمة هيومن رايتس ووتش (HRW)، ومنظمة العفو الدولية (Amnesty).
ثم يعلنها
الاتحاد الأوروبي "مصر دولة آمنة".. ولسان حالها هي آمنة لأمريكا والصفقات
الأمريكية، فالقاهرة من مركز حضاري إلى مركز عسكري، ونموذج في الانهيار الاقتصادي والسياسي
والسيادي يعمل بالديون واقتصاد القروض والمنح من المؤسسات الدولية، ثم فريق من المؤسسة
العسكرية يعمل وفق نظم المقاولات العقارية، وأصبحت الدولة المصرية ودوائر القرار فيها
دوائر تأمين النفوذ الخارجي في الداخل المصري. ومع صعود أقطاب عالمية جديدة، بدأ النظام
المصري يبحث عن بدائل من بوابة التبعية لروسيا والصين، دون أن يمتلك أدوات حقيقية للاستقلال
والسيادة الزراعية والصناعية والاقتصادية.
استشراف واقع
أمة.. في فلسطين الحرة، حيث جوهرة التوازن وامتحان الشرعية
فغزة اليوم
لا تُحارب فقط من أجل فلسطين، بل من أجل إعادة تعريف "من هو القطب الأخلاقي في
العالم"، فحين تسقط القنابل على الأطفال، وتُقصف المستشفيات، وتُمنع المساعدات،
ويصمت العالم الغربي، يُعاد تشكيل الوعي الكوني حول من يملك حق السيادة والقيادة. ولعل
الدولة الفلسطينية القادمة بصمود شعبها وتماسكه الاستراتيجي، وصعوده الدولي، لتُمثّل
اليوم أكبر تحدٍ أمام كل مشروع هيمنة، وأهم امتحان لكل من يدعي السيادة، فمن يقف مع
غزة يُعيد تعريف إنسانيته أمام شعوب الأرض.
الأقطاب الإقليمية..
بين الفرص والمخاطر
• تركيا: تسير نحو دور مركزي في الربط بين آسيا وأوروبا، لكن توازناتها الداخلية
والضغوط الغربية تُعيق مشروعها العثماني الجديد.
• السعودية: تحاول الانتقال من الريع إلى الرؤية، لكنها لا تزال في مأزق التبعية
الأمنية، رغم رغبتها في تنويع الشراكات.
• إيران: تحولت من دولة محاصرة إلى مركز نفوذ يمتد من بغداد إلى بيروت، لكنها
تواجه تحدي الانفتاح الداخلي وإدارة الطموح الإقليمي.
سمات استراتيجية
الأقطاب الجديده.. ما بعد الطوفان
1. لا مركزية القرار الدولي: لم تعد القرارات تصدر من مجلس الأمن أو
واشنطن فقط، بل من طهران، وأنقرة، وبكين، وغزة محور ومرتكز القرار الاستراتيجي الدولي.
2. الاقتصاد أداة سيادة: من يملك الغذاء والطاقة والتكنولوجيا يفرض توازنه،
ولذلك تشكل مبادرات مثل "BRICS"
و"CPEC" و"Belt and Road" أدوات لفك الحصار عن
التابعين.
3. إعادة هندسة التحالفات: لم تعد التحالفات قائمة على الأيديولوجيا
أو الجغرافيا فقط، بل على
المصالح والردع المتبادل.
4. عودة القيمة للثقافة والهوية: في عالم تتساقط فيه الأقنعة، تعود الهوية
لتكون درع السيادة، وسند الشرعية الشعبية، وشرارة التحرر من الهيمنة.
في سطور..
من يملك حق القيادة غدا؟ فتعدد الأقطاب ليس ضمانا تلقائيا للعدالة، لكنه شرط ضروري
لكسر هيمنة القطب الواحد، والخيار الحقيقي ليس بين أمريكا وروسيا، أو بين الشرق والغرب،
بل بين التبعية والاستقلال، بين من يملك مشروعا نهضويا يُعيد تشكيل نفسه ويقود مجتمعه
ويصوغ تحالفاته بكرامة، وبين من يرضى بدور التابع المُعاد تدويره في خرائط الآخرين.
وعليه، فإما
أن نُخطط حضاريا بأدواتنا، أو نُستعاد كمجرد أدوات في خطط الآخرين الاقتصادية، حيث
الاقتصاد الذي يمثل تحول سيادي مركزي مع كونه قطاعات إنتاجية وصناعية ضمن هيكل الدولة
الحقه في معادلة السلاح والسياسة والسيادة، وفي معركة الاستقلال، فالدولة التي لا تملك
غذاءها ودواءها وطاقاتها وتكنولوجياتها وسلاحها، تصبح رهينة لقرارات الخارج، مهما بلغت
قوتها العسكرية أو مساحتها الجغرافية.
فالسيادة الاقتصادية
في استراتيجية الأقطاب المتعددة تكمن في كل من:
1. التحكم في سلاسل الإمداد: أي ضمان توفر السلع الاستراتيجية، دون الحاجة
إلى وسطاء دوليين.
2. الاكتفاء الغذائي والطبي: من الموارد والنظم والتكنولوجيا الغذائية،
إلى الموارد والنظم والتكنولوجيا الطبية والصحية، وليس من القواعد العسكرية فقط.
3. إنتاج المعرفة والتقنية: الدول التي تصنع رقائق التكنولوجيا، وتتحكم
في بياناتها، تفرض شروطها في العلاقات والمفاوضات الدولية.
4. تنويع التحالفات التجارية والمالية: يخفف من ابتزاز الدولار والمؤسسات
المالية الغربية، ويفتح آفاقا لتبادل أكثر عدالة.
ولهذا، فإن
الانتقال من التبعية الاقتصادية إلى الاستقلال الإنتاجي هو الشرط الأول لتحرير القرار
الوطني، ومكانة في المبادرات الدولية البديلة، والتي نوردها في كلمات:
أولها: مبادرة
الحزام والطريق (Belt and Road Initiative - BRI)، التي أطلقتها الصين في 2013، كونها تهدف إلى بناء شبكة من البنية
التحتية البرية والبحرية تربط آسيا بأوروبا وأفريقيا، وترتكز على التمويل الصيني والقدرة
التشييدية العالية، وهو ما جعلها أداة الصين لتوسيع نفوذها الاقتصادي والسياسي دون
صدام عسكري.
وثانيها: مجموعة
البريكس (BRICS) التي تضم: البرازيل، وروسيا،
والهند، والصين، وجنوب أفريقيا، وقد انضمت إليها دول أخرى مثل مصر والسعودية لاحقا،
وهي تمثل كتلة اقتصادية مضادة لمجموعة السبع (G7)، وتهدف إلى تقليل الاعتماد على الدولار، وتأسيس بنك تنمية بديل لصندوق
النقد الدولي، حيث يمثل البريكس اليوم أكثر من 40 في المئة من سكان العالم، وأكثر من
25 في المئة من الناتج العالمي.
وثالثها: الممر
الاقتصادي الصيني-الباكستاني (CPEC)، الذي
يعد جزءا من مبادرة الحزام والطريق، ويربط غرب الصين بميناء جوادر الباكستاني، ليكون
هو استثمارات الطاقة، والبنية التحتية، والنقل. فسلاسل الإمداد تجعل من باكستان شريكا
استراتيجيا للصين، وتعيد تشكيل الجغرافيا الاقتصادية في جنوب آسيا.
ورابعها: التحالفات
الإقليمية البديلة مثل "ASEAN+3"،
والاتحاد الاقتصادي الأوراسي، ومجموعة شنغهاي، التي تؤسس لنظام تجاري إقليمي جديد يتجاوز
الدولار كعملة مرجعية، ويبنى على قاعدة احترام المصالح السيادية لا فرض الإملاءات الدكتاتورية.
في كلمات..
حين يصبح الاقتصاد أداة لتحرير القرار، وتُبنى العلاقات على المصالح المتبادلة لا القروض
المشروطة، تتحقق السيادة الحقيقية. وهذا هو جوهر المعركة الاقتصادية في الحرب العالمية
الثالثة، وعالم ما بعد الهيمنة الأمريكية.. حيث لحظات التحول الاستراتيجية، هي لحظة
الارتقاء من الغفلة إلى اليقظة، ولحظة الانتقال من النكوص إلى التخطيط، ولحظة قول "لا"
في وجه صمت النخبة وسقوط الهيبة، ولحظة السيادة للأمة التي تصنع وتتخذ القرار، وتملك
أدوات السيادة الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية والتكنولوجية.. والأيام دول.