في العلاقات الدولية بشقيها العلاقات المدنية والعلاقات العسكرية، تصبح ضخامة الاستعراضات العسكرية ذات دلائل مهمة ورسائل استشرافية نحو المستقبل. وهي إعلان واضح المعالم بأن هناك قوة تتشكل، وأن هذه القوة من أجل هدف ما، ستحققه وتفرضه على بقية العالم.
هكذا كانت الغاية من الاستعراض العسكري
الصيني، الذي اُقيم بحضور الرئيس الصيني شي جي بينغ، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وزعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون مؤخرا. فلم تشهد الصين أي عرض عسكري بهذا الحجم منذ عام 2019، حيث كان أهم ما فيه هو عرض سلاحها النووي الاستراتيجي لأول مرة. وإذا كانت التعليقات الصينية تدور حول إن الغاية من الاستعراض الضخم هو لحماية مصالح الصين الشرعية، وتأمين سيادتها الوطنية وسلامة أراضيها، فإن الغرب ذهب بعيدا في تأويل الحدث، في أنه رسائل تهديد للولايات المتحدة، بل إن الرئيس الأمريكي دونالد
ترامب، سارع إلى اتهام الصين وروسيا وكوريا الشمالية بالتآمر على بلاده، وأن هذه الدول الثلاث يحدوها الأمل في تجاوز النفوذ الأمريكي.
يقينا أن المرحلة الحالية التي يمر بها العالم، هي محطة تنافسية بين الأحادية القطبية، ومحاولات إنشاء ما يسمى بالتعددية القطبية، ويبدو أن روح وفلسفة هذه التعددية تعتمد بالأساس على الصين وروسيا والهند أيضا، أكثر من أية دول أخرى. وأن المراقب اللبيب يجد من دون جهد، أن العلاقات الدولية تسير بتؤدة نحو محور الشرق، مغادرة ببطء محور الغرب، هذا ما تحمله عبارات الخطب التي يلقيها الزعيمان الصيني والروسي.
وإذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية تعتمد على ما يسمى بالقوة الذكية، التي بدأت بها منذ غزو واحتلال العراق، والتي تعني الجمع ما بين القوة الصلبة والقوة الناعمة، فإن الاستعراض العسكري الصيني مؤخرا قد تجاوز هذه القوة الذكية. فقوة الصين الذكية اليوم تجمع ما بين القوة الصلبة والقوة الناعمة والقوة اللزجة أيضا. فالرسالة الصينية اليوم بدت واضحة جدا، فهي لا تخاف أحدا بعد اليوم، وليس هناك من هو قادر على خرق سيادتها وحرمة أراضيها ومياهها وأجوائها، وهذه هي رسائل القوة الصلبة. أما القوة اللزجة فهي تعني الروابط الاقتصادية التي تربط بكين بالعديد من دول العالم.
الرسالة الصينية اليوم بدت واضحة جدا، فهي لا تخاف أحدا بعد اليوم
كما تعني القروض والمساعدات والاستثمارات، التي يحرص صانع القرار الصيني على تقديمها الى دول كثيرة. وما تنامي بنك التنمية العالمي، إلا إشارة واضحة على هذا التوجه. أما قوتها الناعمة فيمكن لمسها بوضوح في اللغة التي تتحدث بها مع العالم، وفي تعاملها مع الأحداث الدولية في كل مكان.
لقد تفاجأ العالم من حجم وضخامة العتاد العسكري الصيني، الذي تم استعراضه، واكتشف أن الصين تنتج مُعدات متطورة جدا، وأن غايتها ليس توجيه رسائل ردع لهذا الطرف أو ذاك، بل المسألة فيها أكثر من دلالة. فلا شك أن هناك استعراضا بأن الصين أصبحت قوة عسكرية متطورة، بمقاييس الزمن الحالي، وتتبع ذلك رسالة بأن عتادها العسكري موثوق فيه، ويمكن اقتناؤه. ويبدو واضحا اليوم أن هناك العديد من الدول باتت تُقبل على اقتناء السلاح الصيني، خاصة أنه خال من الشروط التي تمس سيادة الدول، كما هي الحالة في السلاح الغربي المُصدّر خارجيا.
إذن سوق الأسلحة الصيني سوف يزدهر ويتعزز بهذا الاستعراض، كما أن بكين تريد أن تقول للغرب جميعا، إنه ليس الولايات المتحدة الأمريكية وحدها هي من تنفق أكثر من 800 مليار دولار على ميزانية البنتاغون، فالصين اليوم تزيد من حجم إنفاقها العسكري، خاصة إنفاقها على التطوير التكنولوجي العسكري، وهذا هو العنوان الجديد الذي يمتزج بين العتاد العسكري التقليدي الصيني، وما تنتجه بكين الآن من أسلحة في غاية التطور لجلب أنظار العالم.
إن الأوضاع الاستراتيجية في العالم، لم تعد دائما في صالح الغرب بين أمريكا الشمالية والغرب، كما كان الحال قبل عقد أو يزيد من الزمن، بل يبدو أن الثقل يتحول نحو الشرق. صحيح يبقى الإنفاق العسكري الأمريكي هو الأول، متجاوزا بقية الدول بما فيها الصين وروسيا وعدد كبير من دول أوروبا.
لكن المسألة ليست فقط في الإنفاق على مستوى المؤسسات العسكرية ووزارات الدفاع، بل يجب النظر الى طبيعة ما يحدث الآن في مجال الصناعات العسكرية. فالفجوة التي كنا دائما نؤمن بها بين التكنولوجيا العسكرية الأمريكية، التي كانت تبتعد مسافات عما تنتجه روسيا، أو ما تنتجه الصين، أخذت هذه الفجوة تتقلص، لذا فإن هذا الاستعراض العسكري هو بمثابة عرض تجاري وعرض استراتيجي أيضا. من هنا يمكن فهم سبب امتعاض الرئيس الأمريكي من الاستعراض العسكري الصيني. فكل خططه كانت تتمحور حول نقطة أساسية وهي أننا الأقوى في العالم، وننتج أقوى الأسلحة وأكثرها تطورا. بينما جاء الاستعراض العسكري الصيني ليقول له نحن قادمون في هذا المجال أيضا، وهذا سينعكس بصورة مباشرة على العلاقات الأمريكية الصينية بمزيد من التدهور.
إن الموقف الأمريكي والغربي المتفاجئ من العرض العسكري الصيني، يعطي فكرة بأنه لم تكن لديهم المعلومات الكافية عن مستوى الحركية الصينية في مجال التطوير العسكري، لذلك صُدموا من مستوى الإنجاز والتطور الذي لم يكونوا يتوقعونه. كما انعكس هذا الشعور على المستوى السياسي، وبات الغرب يعتقد أن هذا الاستعراض هو تمهيد لضم جزيرة تايوان، على غرار ما فعلته روسيا حين ضمت جزيرة القرم في عام 2014، ثم الأقاليم الأربعة الأخرى في عام 2022، التي كانت ضمن الجغرافية الأوكرانية، حيث وضعتها في صيغة دستورية وفرضت الأمر الواقع على الجميع. إذن لماذا لا يذهب الصينيون في الاتجاه نفسه، خاصة أن البحر والجو والبر كلها مُلك أيديهم؟ فهل التوقعات الغربية ستكون حقيقة قريبا؟
وماذا عن النقاط الاستراتيجية الأخرى ومنها بحر الصين الجنوبي، ومناطق في القارة الآسيوية تسعى الصين إليها؟ أم أن كل هذه الأمور مؤجلة في الوقت الحاضر في العقل السياسي الصيني، لأنه يؤمن بنظرية هنري كيسنجر التي تقول بحاجة الدول الكبرى إلى الصبر الاستراتيجي والغموض، وصولا إلى لحظة الحقيقة؟
إن ما لا يمكن غض الطرف عنه في الوقت الحاضر هو أن المحور الشرقي، الذي تمثله كل من الصين وروسيا والهند وكوريا الشمالية، يتقدم الصفوف الآن ويفرض حضوره السياسي والعسكري، لكن القفز الى إمام ليس بلا كلف سياسية وعسكرية وأمنية واقتصادية. فالولايات المتحدة الأمريكية والغرب عموما ما زالوا متمسكين بنظرية تفوق الغرب على الشرق، وأن الشرق ملك الماضي أما الحاضر والمستقبل فهو غربي وسيبقى كذلك.
القدس العربي