قضايا وآراء

صفقة ترامب بين النصر الاستراتيجي للمقاومة وسردية الكيان الصهيوني

مصطفى خضري
"تحملت الحاضنة الشعبية تكلفة تحطيم سردية العدو"- جيتي
"تحملت الحاضنة الشعبية تكلفة تحطيم سردية العدو"- جيتي
في مسرح السياسة الدولية، هناك لحظات نادرة تنقلب فيها الطاولة بشكل دراماتيكي، حيث تتحول الخطوة التي صُممت لتكون "الضربة القاضية" إلى "طلقة مرتدة" تصيب صاحبها في مقتل. ما نشهده اليوم في دراما "صفقة ترامب" ليس مجرد جولة مفاوضات أخرى، بل هو تجسيد حي لهذه المفارقة الاستراتيجية: كيف يمكن لطرف محاصَر ومستنزَف أن يستخدم "فن المناورة" ليحاصر خصمه الأقوى في زاوية لم يكن يتخيلها؟

فن المناورة واستغلال الفرص

إن رد المقاومة المشروط لم يكن مناورة معزولة، بل كان استغلالا بارعا لسياق دولي فريد. فطبيعة الخطة الغامضة، مقترنة بأسلوب ترامب القائم على الصفقات الشخصية، أتاحت للمقاومة فرصة لإخراج الخطة من الجمود و"تسييلها" لتصبح مقترحا قابلا للتفاوض، ومن ثم تحويل الضغط عليها إلى أداة لعزل الكيان الصهيوني ووضع الإدارة الأمريكية في موقف حرج.

رد المقاومة المشروط لم يكن مناورة معزولة، بل كان استغلالا بارعا لسياق دولي فريد. فطبيعة الخطة الغامضة، مقترنة بأسلوب ترامب القائم على الصفقات الشخصية، أتاحت للمقاومة فرصة لإخراج الخطة من الجمود و"تسييلها" لتصبح مقترحا قابلا للتفاوض، ومن ثم تحويل الضغط عليها إلى أداة لعزل الكيان الصهيوني ووضع الإدارة الأمريكية في موقف حرج

لقد كان ردا بمثابة مكبس هيدروليكي سياسي، حوّل الضغط الدولي الهائل المسلط عليه إلى قوة مركزة ومضاعفة، وجهها بدقة متناهية لتحاول ضرب نقطة الضعف القاتلة لدى الخصم: التناقض بين بقاء نتنياهو السياسي ونرجسية حليفه الأمريكي. السؤال الاستراتيجي لم يعد "هل ستقبل المقاومة بالصفقة؟"، بل أصبح: "كيف سينجو الكيان الصهيوني من الصفقة التي صممها بنفسه؟".

النصر الاستراتيجي في حرب الوعي

قبل فهم المناورة الدبلوماسية، يجب أن ندرك أن المقاومة لا تفاوض من موقع "الكاميكازي اليائس"، بل من موقع "المناور المنتصر" الذي نجح في تحقيق نصر استراتيجي أعمق من أي نصر مادي: النصر في حرب الوعي. لقد كان "طوفان الأقصى" هجوما جراحيا استهدف "الميتافيزيقيا الصهيونية"؛ تلك الثلاثية المقدسة: "الجيش الذي لا يُقهر"، و"الأرض الموعودة كملاذ آمن"، و"ادعاء التفوق الأخلاقي للشعب المختار".

لقد حطمت المقاومة صورة الجيش، وزرعت الشك الوجودي في فكرة الملاذ الآمن، والأهم من ذلك، أجبرت الرد الصهيوني الوحشي على كشف وجهه الحقيقي أمام العالم، محطما سردية "الضحية" و"الديمقراطية الوحيدة". هذا "النصر في حرب السرديات" هو المكسب الأثمن الذي لا يمكن المقايضة عليه.

التداعيات الإقليمية وتغير موازين القوى

إن هذه المناورة لم تحدث في فراغ، بل جاءت في سياق تحولات إقليمية كبرى. فقد ساهمت في:

1- كشف حدود النفوذ الأمريكي المطلق في المنطقة: حيث ظهر جليا أن القدرة الأمريكية على فرض حلول أحادية الجانب قد تراجعت بشكل لافت، وأن "الوسيط المتواطئ" لم يعد قادرا على حسم الصراع لصالح حليفه دون اعتبار لإرادة الشعوب وتوازنات القوى الجديدة.

2- تعزيز تحالفات المقاومة عبر المحور الإقليمي: فقد أظهرت الأزمة متانة التحالفات الإقليمية للمقاومة، حيث تمكنت من توحيد جهود محور المقاومة في مواجهة المشروع الصهيو-أمريكي، مما عزز قدرتها على المناورة والضغط.

3- إعادة تعريف معادلات القوى لصالح فكرة المقاومة: فلم تعد المعادلة تقوم على موازين القوى العسكرية التقليدية فقط، بل أصبحت تقوم على قوة الإرادة والقدرة على التحمل، وإعادة تعريف مفهومي القوة والضعف في الوعي الجمعي للأمة.

وهذه التداعيات الإقليمية لم تكن لتحقق هذا الأثر لولا النصر في حرب الوعي الذي مهّد الأرضية لها.

انقلاب الوسيط المتواطئ

من موقع هذا النصر المعنوي، جاء رد المقاومة على "الفخ المنصوب". فكما كشفت تقارير موثوقة، قام نتنياهو وترامب بتعديل الخطة سرا لجعلها غطاء للاحتلال الدائم. هنا، قامت المقاومة بما يمكن تسميته "مناورة القبول التفكيكي"؛ هي لم تقل "نعم" للصفقة، بل قالت "نعم" لـ"روح" الصفقة التي تم تسويقها للعالم، بينما تركت "شيطان التفاصيل" السامة لمرحلة لاحقة.

بهذه الخطوة، حققت ثلاثة أهداف بضربة واحدة: نزع فتيل الضغط، وعزل الخصم، والأهم من ذلك، شق صف الحلفاء عبر تحويل الوسيط المتواطئ إلى أداة ضغط على الطرف الآخر.

بعثرة أوراق الكيان الصهيوني

في تل أبيب، استُقبل رد المقاومة كصدمة كهربائية. الموقف داخل الكيان الصهيوني الآن هو أشبه بـ"رقصة ديك مذبوح": حركة عشوائية وعنيفة تكشف عن ارتباك استراتيجي كامل بين يمين متطرف يهدد بإسقاط الحكومة، ومؤسسة أمنية تدرك استحالة مواصلة الحرب، ومعارضة تطالب بقبول الصفقة فورا.

هذا الوضع يذكرنا بـ"أزمة السويس" عام 1956، فالتاريخ يعلمنا أن القوة العسكرية، مهما بلغت، تصبح عديمة القيمة عندما تفقد غطاءها السياسي.

كتم أبواق الخصم الموتورة

هنا، تظهر أبواق موتورة تردد رواية الخصم، متسترة بدعوى "الواقعية"، والتي تقول: "هذه مجرد مناورة، والكيان الصهيوني قوي بما يكفي لتجاهلها". هذا المنطق الساذج يتجاهل أن القوة نسبية، وأن الحروب لا تُحسم بالقوة وحدها، وأن الجبهة الداخلية هي "كعب أخيل" الكيانات القائمة على الانتخابات. إن القول بأن الكيان الصهيوني يمكنه "تجاهل" هذا الواقع الجديد هو قراءة سطحية تتجاهل التفاعلات الدولية والإقليمية التي صنعها طوفان الأقصى.

التضحية من أجل المستقبل

لكن هذا النصر الاستراتيجي لم يأتِ مجانا، لقد تم شراؤه بثمن باهظ ومؤلم، دُفع من دماء وأرواح أهل غزة. لقد تحملت الحاضنة الشعبية تكلفة تحطيم سردية العدو. من رحم هذه المأساة، يولد منطق استراتيجي أعمق: احتمالية التضحية بالكثير من "قوة التنظيم" الحالية من أجل "بقاء وتجدد فكرة المقاومة".

لقد أدركت قيادة المقاومة أن قوتها الحقيقية لا تكمن في عدد صواريخها، بل في قدرتها على إلهام جيل جديد، عبر غرس فكرة أن المقاومة ممكنة وأن العدو ليس قدرا محتوما، وقد أثبت قادتها، وبشكل عملي أمام الأجيال الجديدة؛ أنهم مثل أعلى في التضحية.

من "إدارة التوحش" إلى "حصاد الوعي"

لقد بدأ الكيان الصهيوني هذه الحرب تحت استراتيجية "إدارة التوحش"، لكنه انتهى إلى حصاد نتيجة لم يتوقعها. قد ينجح في تدمير بعض قدرات "حماس التنظيم"، لكنه بفعلته هذه، قد صنع آلافا من "حماس الفكرة".

إذا كانت الحسابات السياسية التقليدية تقيس النجاح والفشل في حدود الزمن القصير والمتوسط، فإن منطق المقاومة يستدعي زمنا تاريخيا أطول وأعمق

والدليل الأكثر سطوعا على ذلك هو أن هذه المناورة السياسية البارعة، التي حيّرت العالم، لم تأتِ فقط من القادة المخضرمين المتبقين، بل جاءت أيضا من قيادات شابة تم تصعيدها في خضم المعركة بعد استشهاد الكثير من قادة الصف الأول والثاني.

هذا يثبت أن حماس لم تكن مجرد تنظيم، بل كانت "مدرسة" حقيقية نجحت في تخريج أجيال جديدة من المفكرين الاستراتيجيين والمفاوضين، القادرين على حمل الراية بنفس الكفاءة والذكاء. لقد فشل العدو ليس فقط في قتل الفكرة، بل في تدمير "آلية إنتاج العقول" التي تحملها. لقد خلق جيلا جديدا من المقاومين الذين قد لا ينتمون تنظيميا لحماس، لكنهم جميعا ينتمون إلى "وعي السابع من أكتوبر".
 
لعل البعد الأكثر عمقا في هذه المعادلة الاستراتيجية هو البعد الزمني الذي يتحول من صراع لحظي إلى مسيرة تاريخية ممتدة. فإذا كانت الحسابات السياسية التقليدية تقيس النجاح والفشل في حدود الزمن القصير والمتوسط، فإن منطق المقاومة يستدعي زمنا تاريخيا أطول وأعمق.

لقد تحول الصراع من سباق للسرعة إلى سباق للتحمل، فبينما كان الكيان الصهيوني يسابق الزمن لتحقيق نصر سريع يبرر وجوده، أصبح الزمن الآن هو العامل الذي يفضح تناقضاته الوجودية. وهذا هو الإنجاز الاستراتيجي الأكبر للمقاومة: تحويل الصراع من حرب الساعات والأيام إلى معركة الأجيال والعقود.

فالزمن، الذي كان يُظن أنه حليف المشروع الصهيوني، ها هو يتحول إلى خندق من خنادق المقاومة، حيث تتدفق مياه التاريخ لتروي شجرة المقاومة التي غُرست في تربة الوعي الجمعي للأمة.

وهنا نعود إلى المفارقة التي بدأنا بها: ففي اللحظة التي ظن فيها الكيان الصهيوني أنه يوجه "الضربة القاضية" للمقاومة، كان في الحقيقة يوجه "قبلة الحياة" لروحها في الأجيال القادمة. وهذا هو التعريف الأعمق للنصر الاستراتيجي.
التعليقات (0)

خبر عاجل