قضايا وآراء

الحدود المشتعلة بين باكستان وأفغانستان: منطق القوة أم مسؤولية الأمة في درء البغي؟

محمد كرواوي
"الجذر العميق للصراع يتجاوز الظرف الأمني المباشر"- جيتي
"الجذر العميق للصراع يتجاوز الظرف الأمني المباشر"- جيتي
يشكل التصعيد العسكري بين باكستان وأفغانستان في تشرين الأول/ أكتوبر 2025 لحظة مفصلية في تاريخ التفاعلات الأمنية في جنوب آسيا، إذ تجاوز حدوده الجغرافية إلى ما هو أعمق من نزاع حدودي عابر، ليكشف عن مأزق بنيوي يربط الإرهاب بالسيادة، والجغرافيا بالهشاشة المؤسسية، والدولة بحدود نفوذها الفعلي. فقد شهدت مناطق تشامان-سبين بولدك وكورم اشتباكات عنيفة امتدت أسبوعا كاملا، استُخدمت فيها المدفعية والطيران، قبل أن يعلن الطرفان وقفا مؤقتا لإطلاق النار مدته 48 ساعة في الخامس عشر من تشرين الأول/ أكتوبر، بعد سقوط عشرات القتلى والجرحى من الجانبين. هذه الهدنة القصيرة لم تعبر عن نهاية أزمة، بل عن اعتراف متبادل بأن الحرب لم تعد أداة ضبط بل صارت خطرا وجوديا على الطرفين.

تستند القراءة الميدانية إلى معطى أول يتعلق بطبيعة الجماعات العابرة للحدود، وعلى رأسها تنظيم تحريك طالبان باكستان (TTP) وداعش خراسان. فهذه الكيانات وجدت في البيئة الأمنية الأفغانية بعد 2021 فضاء ملائما لإعادة التموضع، مستفيدة من ضعف المراقبة الميدانية ومن هشاشة البنية الاستخبارية في كابول. وتؤكد تقارير الأمم المتحدة أن نشاط هذه الجماعات يمثل اليوم أخطر مصدر تهديد للأمن الباكستاني، إذ تنطلق منها هجمات متكررة على أهداف عسكرية داخل إقليم خيبر بختونخوا وبلوشستان.
وقف النار المعلن في منتصف أكتوبر لم يكن سوى محطة اختبار لإرادة ضبط التوتر، فهو يعكس إدراكا متبادلا بأن الاستمرار في التصعيد سيفضي إلى نتائج عكسية: إضعاف الردع، وتفكك التحالفات الإقليمية، واستنزاف الاقتصادين الهشين في البلدين. لكن الهدنة وحدها لا تكفي ما لم تتحول إلى إطار منظم للتنسيق الحدودي
من هذا المنطلق حاولت إسلام آباد تبرير ضرباتها الجوية داخل الأراضي الأفغانية بأنها تدخل في إطار الرد الوقائي على مصادر الخطر. أما كابول فاعتبرت تلك الضربات عدوانا صريحا على السيادة الوطنية وخرقا لقواعد القانون الدولي، مؤكدة أن مكافحة الإرهاب لا تبرر انتهاك الحدود ولا المساس بالأراضي الأفغانية. وهكذا أصبح الإرهاب لغة مشتركة للاتهام المتبادل، يُستخدم لتبرير القصف كما يستخدم لتعبئة الرأي العام.

غير أن الجذر العميق للصراع يتجاوز الظرف الأمني المباشر، ليعود إلى المسألة التاريخية المزمنة المسماة خط دوراند. فبينما ترى باكستان في هذا الخط حدا دوليا شرعيا ورثته عن التقسيم الاستعماري، ترفض أفغانستان الاعتراف به باعتباره قسمة فرضها الخارج ولا تعبر عن الهوية القبلية المشتركة التي تتجاوز الحدود. هذا الخلاف التاريخي جعل من الجغرافيا ساحة للتنازع الاستراتيجي، ومن كل حادث حدودي اختبارا لمشروعية الدولة. لذلك تتحول المناوشة الميدانية بسرعة إلى أزمة سيادة، ويغدو التفاوض حول هدنة أشبه بمحاولة ترميم تاريخ لم يحل بعد.

تتقاطع هذه الإشكالات مع أزمة الحكم في أفغانستان بعد استعادة طالبان السلطة سنة 2021، حيث فشلت الحركة في بناء مؤسسات قادرة على استيعاب التعدد العرقي والسياسي، أو على بسط سيطرة حقيقية على أطراف البلاد. فبين فراغ الشرعية الدولية وضغط الاقتصاد المنهار، تجد كابول نفسها عالقة بين خطاب السيادة ومحدودية القدرة، الأمر الذي يسهل على الجماعات المسلحة التحرك دون رقابة فعالة.

وفي الجهة المقابلة، تمر باكستان بمرحلة اضطراب سياسي واقتصادي خانق، وتواجه تصاعدا في الهجمات الداخلية وفي الاحتقان الاجتماعي على خلفية الأوضاع المعيشية، مما يجعل السلطة العسكرية والمدنية معا تميلان إلى توجيه الأنظار نحو الخارج بوصفه مصدر الخطر، وإلى استخدام الرد العسكري كوسيلة لاستعادة الثقة الداخلية. وهكذا يلتقي الضعف البنيوي للطرفين في إنتاج توتر مستمر يغذيه الخوف المتبادل أكثر مما تغذيه إرادة الحرب.

إن وقف النار المعلن في منتصف تشرين الأول/ أكتوبر لم يكن سوى محطة اختبار لإرادة ضبط التوتر، فهو يعكس إدراكا متبادلا بأن الاستمرار في التصعيد سيفضي إلى نتائج عكسية: إضعاف الردع، وتفكك التحالفات الإقليمية، واستنزاف الاقتصادين الهشين في البلدين. لكن الهدنة وحدها لا تكفي ما لم تتحول إلى إطار منظم للتنسيق الحدودي. فالمطلوب هو إنشاء قناة اتصال عسكرية استخبارية دائمة تحت إشراف دولي تتيح تبادل المعلومات حول تحركات الجماعات المتطرفة،
الاشتباكات الأخيرة لا يمكن قراءتها كمجرد مواجهة عسكرية، بل بوصفها إنذارا استراتيجيا بضرورة الانتقال من منطق القوة إلى منطق الإدارة المشتركة للنزاع. فالحروب التي تخاض على خطوط التاريخ لا تنتهي بالانتصار بل بالتسوية، والحدود التي تدار بالمدافع تصبح مع الوقت حدودا للخسارة المتبادلة
وتضبط قواعد الاشتباك في مناطق التماس بما يمنع الانزلاق إلى مواجهة مفتوحة. كما ينبغي توسيع الحوار إلى مستوى دبلوماسي قانوني يعيد بحث ملف الحدود في ضوء المصالح الاقتصادية المشتركة لا في ضوء الروايات التاريخية المتنازعة.

من منظور أوسع تمثل هذه الأزمة فرصة لإعادة التفكير في مفهوم الأمن الإقليمي ذاته، فالتعامل مع الحدود باعتبارها جدارا عازلا لم يعد ممكنا في زمن تتداخل فيه الجغرافيا بالتجارة والهجرة والطاقة. إن الأمن في جنوب آسيا لم يعد يقاس بمدى السيطرة العسكرية، بل بمدى القدرة على بناء منظومة تعاون عقلانية توازن بين مكافحة الإرهاب واحترام السيادة، وبين ضرورات الاقتصاد ومتطلبات الاستقرار، وأي تجاهل لهذا التحول سيبقي المنطقة رهينة دوامة اشتباك متكرر يعيد إنتاج أسبابه كل مرة بأسماء جديدة.

وعليه، فإن الاشتباكات الأخيرة لا يمكن قراءتها كمجرد مواجهة عسكرية، بل بوصفها إنذارا استراتيجيا بضرورة الانتقال من منطق القوة إلى منطق الإدارة المشتركة للنزاع. فالحروب التي تخاض على خطوط التاريخ لا تنتهي بالانتصار بل بالتسوية، والحدود التي تدار بالمدافع تصبح مع الوقت حدودا للخسارة المتبادلة. وإذا كان الطرفان ينتميان إلى أمة واحدة يجمعها الدين واللغة والمصير، فإن اقتتال الطائفتين من جسد الأمة الإسلامية يوجب على الدول الإسلامية كافة أن تتدخل تدخلا حازما وعقلانيا لإصلاح ذات البين، التزاما بمبدأ العدل ورفض البغي، ووفاء لواجب الأخوة الذي يحرم سفك الدم بين المسلمين. وإذا لم يُفعل هذا الواجب الجماعي في الوقت المناسب، فإن جنوب آسيا ستظل مسرحا لتنازع داخلي يضعف الأمة من داخلها ويفتح الباب أمام القوى الأجنبية لتصوغ مستقبلها بغير إرادتها.
التعليقات (0)