العنصر الجوهري الذي يميز أي مجتمع هو ثقافته، بما تتضمنه من مكونات مادية وعناصر معنوية مثل القيم والمعايير والمعتقدات. وعندما تتغير الثقافة، تتغير معها هوية المجتمع وخصائصه الأساسية. وتُسهم عوامل كالغزو الأجنبي، والتطور التكنولوجي، وانتشار الأديان، والتصنيع، والهجرة في اندلاع ما يُعرف بـ «حروب الثقافة». وتدور هذه الحروب داخل الدول وفيما بينها، ويرتكز صراعها أساسًا على القيم والمعايير والمعتقدات. وتشهد مجتمعات العالم اليوم مواجهة عميقة بين رؤى متباينة حول الأخلاق العامة، والمعتقدات الدينية، والنظام القيمي السائد.
في كثير من المجتمعات، هناك توتر حاد بين أنماط الحياة العلمانية والدينية. ففي الولايات المتحدة وأوروبا تدور حرب ثقافية واضحة بين التيارات اليسارية والمحافظة. تحاول الجماعات المحافظة (
اليمين المتطرف) الدفاع عن القيم والثقافة المسيحية، في حين تسعى الجماعات العلمانية إلى توسيع حقوق الأقليات، وتعزيز الفكر النسوي، ونشر مفاهيم متعلقة بالميول الجنسية. وتعكس القيم المحافظة التي ساهمت في فوز ترامب بالانتخابات اختلافًا جذريًا عن القيم
الليبرالية التي تدافع عنها الحزب الديمقراطي.
كما أن المجتمعات المسلمة في
الغرب تجد نفسها في موقف حرج وسط الصراع بين هذين التيارين، مما يجعلها في حالة ارتباك بشأن الموقف الذي ينبغي اتخاذه. فالجماعات اليمينية المتطرفة، على الرغم من قربها النسبي من الثقافة الإسلامية من حيث القيم الأخلاقية لكونها تنتمي إلى الديانات الإبراهيمية، تميل إلى إقصاء المسلمين واعتبارهم «آخرين» من الناحية الهويّاتية.
وعلى العكس من ذلك، فإن التيارات الليبرالية واليسارية، رغم بعدها عن القيم الإسلامية من حيث المنظومة الأخلاقية، فإنها تميل إلى تقبّل المسلمين والتعاون معهم بسبب تركيزها على حقوق الأقليات والتعددية. ولهذا يجد المسلمون أنفسهم سياسيًا أقرب إلى هذه التيارات، لكنهم يعيشون في كل انتخابات حالة من التردد والانقسام في اختياراتهم.
تزعم التيارات اليمينية المتطرفة في أوروبا أن الثقافة الإسلامية والوجود الديمغرافي المتنامي للمسلمين يشكلان “غزوًا” للقارة، وتستند إلى هذا الخطاب لتبرير سياسات الإقصاء ضد الجاليات المسلمة التي تجاوز عددها 46 مليون نسمة. وقد تصدرت أحزاب يمينية متشددة المشهد السياسي في عدة دول أوروبية، من أبرزها: Fratelli d’Italia في إيطاليا،Freedom Party of Austria (FPÖ) في النمسا، National Rally في فرنسا، Alternative for Germany (AfD) في ألمانيا، ANO 2011 في التشيك، Fidesz في المجر، وParty for Freedom (PVV) في هولندا. كما تسجل دول أوروبية أخرى تناميًا واضحًا لتأثير أحزاب مماثلة.
فيما يتعلق بقضايا مثل الحرية الجنسية، والإجهاض، وحقوق مجتمع الميم (LGBT)، تواجه الجماعات المسلمة في الغرب تحديًا كبيرًا يهدد منظومة القيم الأسرية التقليدية لديها، ولا تزال هذه المواجهة مستمرة. كما تفرض قضايا مثل التربية الجنسية في المدارس الحكومية، وتعليم نظرية التطور، ونظام التعليم المختلط (بين الجنسين) صعوبات حقيقية على العائلات المسلمة. وفي فرنسا، وبتأثير من خطاب اليمين المتطرف، تُروَّج فكرة أن الإسلام التقليدي لا يتوافق مع القيم الفرنسية، ما دفع السلطات إلى محاولة تطبيق مشروع “إسلام فرنسي” مُعاد صياغته ليتماشى مع تصورات الدولة.
في الواقع، يُعدّ الإسلام من الأنظمة الثقافية النادرة التي لم تذُب أمام قوة خارجية مهيمنة، بل تمكن من استيعابها واحتوائها كما حدث مع المغول، فبدل أن يعتنق المسلمون دين المنتصر، اعتنق المنتصرون الإسلام. واليوم تخوض الدول الإسلامية، بعد الاحتلالات الغربية، نضالًا كبيرًا للحفاظ على هويتها الثقافية في مواجهة الهيمنة الثقافية الغربية. وفي المقابل، تواجه المجتمعات الإسلامية المدّ الثقافي الجديد القادم عبر هوليوود، والإنترنت، وNetflix، والعولمة، بمقاومة هادئة وغير مباشرة، لكن مآل هذه المعركة الثقافية لا يزال غير محسوم.
كما تشهد الدول الإسلامية توترًا واضحًا بين نمطي الحياة الليبرالي والإسلامي. إذ يرى الليبراليون أن القيم الإسلامية تُعوق التنمية، ويدعون إلى تجاوزها أحيانًا بشكل مباشر وأحيانًا بأسلوب غير معلن. في المقابل، تعتبر الجماعات المتدينة نمط الحياة الغربي خطرًا كبيرًا يهدد هويتها، وتفضّل رفضه بشكل قاطع. كما أن وجود أقليات غير مسلمة داخل الدول الإسلامية، إضافةً إلى التوترات المذهبية بين السنة والشيعة في بعض الأحيان، يساهم في تأجيج حروب ثقافية داخلية.
رغم أن الدول الإسلامية تمتلك تجربة طويلة في التعايش مع الأقليات الدينية، فإن هذه الفوارق الثقافية كثيرًا ما تتحول إلى وقود يغذي الصراعات السياسية والاجتماعية. ومع أن منصات التواصل الاجتماعي ساهمت في إتاحة التعبير للجميع وإضفاء طابع أكثر ديمقراطية على الخطاب العام، فإنها في الوقت نفسه تساعد على تسريع انتشار المعلومات المضللة ومشاعر الغضب، مما يؤدي إلى تصاعد حدة الصراعات الثقافية. وبما أن إقناع طرف للآخر أمر صعب، فإن الحل يكمن في احترام حق كل طرف في الحفاظ على ثقافته، والسعي إلى التعايش المشترك بدلًا من الصراع.
الشرق القطرية