مقالات مختارة

المقاومة بين إرادة التحرر وزحف البلادة!

يحيى مصطفى كامل
جيتي
جيتي
من الطبيعي بعد أن «تصمت المدافع» – وإن كانت في الحقيقة لم تصمت تماماً – أن يخف الصخب والصياح نوعاً ما. أن يشرع الناجون في لعق جراحهم التي لم تزل تنزف ويُحصون شهداءهم وكم الدمار.
لا شك في أن المصاب فادح دائماً وإن بدرجاتٍ متفاوتة، والأكيد أن الحصيلة النهائية دائماً ما تفوق التصورات والانطباعات الأولية التي تتخلق تحت جحيم القصف وفي حُمى محاولات الفرار المستمرة، التشبث بالحياة وإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

من الطبيعي والمتوقع أيضاً أن ينطلق حوارٌ مجتمعيٌ واسع يشمل الطبقات والتيارات السياسية كافة، بانحيازاتها المتباينة، حيث يطرح كل طرفٍ تحليله وتصوراته لما جرى، تقييمه للدوافع وحكمه النهائي عن صواب قرار الحرب من عدمه (بفرض أن بلده أو الطرف الذي ينتمي إليه هو البادئ).
كل ذلك قد يندرج تحت عنوانٍ عريض: كشف حساب.

ونظراً لطبيعة أي حدثٍ تاريخي فإن كشف الحساب هذا لن يكون نهائياً أبداً، فمع تكشف الجديد من التفاصيل، كما يحدث دائماً وتغير المواقع والأفكار تظهر رؤى ومن ثم أحكامٌ جديدة.

كل ما سبق يندرج في إطار «الطبيعي» و «المتوقع»، مما يمكن تفهمه، تماماً كما يمكن تفهم حالة الإرهاق البدني التي من شأنها أن تشل الفلسطينيين (خاصةً سكان القطاع) والنفسي التي تشمل كل العرب بعد هذه المذبحة التي استهلكتهم عصبياً، وكشفتهم أمام أنفسهم. كشفت ضعفهم وقلة حيلتهم التي أوصلتهم إليها أنظمةٌ أقل ما توصف به الرداءة.

لكن غير الطبيعي هو أن ينصرف الناس تماماً ويبدون كما لو كانوا شرعوا في نسيان ما حدث.
في الآونة الأخيرة، حدث ما لا يسمى سوى بالانكفاء على الداخل في كل بلدٍ عربي، كأن سامراً قد انفض أو أننا كنا في دار عرضٍ نشاهد فيلم دموياً، تأثرنا به حتى بكينا وارتجفنا، لكنه لا يلبث أن يتراجع إلى خلفية وعينا كلما خرجنا إلى الهواء الطلق.

قد يعزو البعض ذلك لطبيعة الإعلام والصورة في هذه المرحلة، حيث تحمل تلك الخاصية المزدوجة: تضعك في قلب الحدث في لحظة إلا أنها سرعان ما تطمس و»تضبب» المسافة بين الحقيقة والخيال، لكنني أرى أن هناك تدبيراً وتخطيطاً أخطر وأخبث من ذلك يلعب دوراً من وراء ستار.

على ما أثبتته الشعوب العربية من عجز، فإنه لا شك ولا جدال في كون المحرقة الفلسطينية قد أججت الغضب لديها وذكرت وأكدت تلك الحقيقة/الحكمة التي تم التغاضي عنها طيلة عقود: أنه لا سلام ولا تعايش مع المشروع الصهيوني. إنه مشروع عدواني توسعي من حيث المبدأ وإن هذا الكيان لم يوجد «ليعيش في سلام» فهو قلعةٌ متقدمةٌ لمشروع نهب، فمن أين يأتيه السلام؟ هو لا يقبل سوى بالاستسلام.

لقد اختلفنا وسنختلف على السابع من أكتوبر/تشرين الأول، إلا أن الأكيد أنه زلزل وجدان المنطقة وهدد كل ترتيبات التسوية التي يتعين عليها الآن أن تتجاوز محيطاً من الدم «الطازج» الذي لم يجف بعد.

لذا، كان لا بد لهذه الحرب من أن تتوقف، نظراً للضغط الذي تضعه على الأنظمة، خاصة العربية، بما يهدد بفضح طبيعة الدور المنحط الذي تلعبه الحكومات الغربية أمام شعوبها وبانفجارٍ في الدول العربية يأتي من حيث لا يُحتسب بما قد يسقط عروشاً أو يهدد بانقلابات في حال استمرار المذبحة.

لقد وقع الكثير من الضرر في حسابات كل هؤلاء، لذا كان لا بد أن تتوقف الحرب لكي تغمر هذه الأنظمة بطبقاتها الحاكمة هذه النار المشتعلة بطوفان التشكيك من جدوى المقاومة والطعن في قادتها ودوافعهم ومصائرهم وربما إفسادهم بالعروض المغرية.

لم يدهشني شيء هذه الأيام قدر الصور التي تملأ وسائل التواصل الاجتماعي لمشاهير في ثياب فرعونية احتفالاً بالمتحف المصري الجديد، لتثور زوبعة من المقارنات والتعليقات والحنين (المدهش المضحك في الحقيقة فلا أعرف أحداً عاش هذه الحقبة!) وجدل الهوية، كأن حرباً مدمرةً لم تزل جذوتها مشتعلة، ومن ثم ثار جدلٌ آخر عن دور الكفاح المسلح في تاريخ الحركة الوطنية المصرية.
لقد أنشات الأنظمة العربية في توظيف ما تجيده وآليتها الأفضل: إغراق القضايا المصيرية في بحر البلادة

إن قِصر عمر التركيز مذهل بقدر ما هو محزن، ليس لنا أن ننصرف عن حرب غزة وشهدائها. ما زال الوقت مبكراً للغاية على هذا. فلا الدم برد ولا الثأر أُدرك ولا القضية حُلت.

لقد أنشات الأنظمة العربية في توظيف ما تجيده وآليتها الأفضل: إغراق القضايا المصيرية في بحر البلادة، وليس كالنظام المصري في هذا المضمار.
مسلسلات، كرة قدم، جواز وطلاق الفنانين، وحبذا لو تعاقب الاثنان بين الزوجين ذاتهما، مع توابل من خلافات ومشاجرات علنية تكتب الصحف عنها، وهكذا!

إن هذه البلادة الزاحفة تلقي على عاتقنا كتاباً وناشطين مسؤولية ومهمة إبقاء الذاكرة حية.
بعد أن تصمت المدافع لا بد لنا من أن نُبقي صوت الرصاص في آذان الناس ورائحة البارود في أنوفهم ومنظر الدم في عيونهم ووعيهم، وأي شيءٍ دون ذلك يرقى إلى مستوى خيانة الدم والتضحية بالفلسطينيين.

إن معركة الوعي حقيقية وهي معركة الساعة الآن، لا بد أن ندافع عن الحق العربي الفلسطيني، وحق الدم.
قد يحتج أحدهم أن ما أكتبه محض شعارات، وردي بسيط: هذه الدعاوى هي نتيجة لتسيد خطاب البلادة.

إن التحرر لن يأتي منحةً أو بصورة تلقائية، بل لا بد له من وعيٍ وإرادة، ومعركة الإرادة أمام زحف البلادة ليست بالهينة، خاصةً أمام أنظمةٍ متواطئة في الإبادة، وشعوبٍ قد ترى النسيان أسهل وأقل إيلاماً للضمير.

القدس العربي
التعليقات (0)

خبر عاجل