قرار مجلس الأمن الأخير بشأن
الصحراء لا
يندرج ضمن دائرة القرارات الروتينية التي تعارف عليها المتابعون لملف هذا النزاع
الممتد منذ منتصف السبعينيات، بل يمثّل لحظة فاصلة تُعيد رسم موازين القوى في
المنطقة المغاربية وتضع حدًا عمليًا لمرحلة كاملة اتّسمت بالانتظار، وتعطي للمغرب
امتيازًا دبلوماسيًا واضحًا بعدما نجح في تثبيت مبادئ رؤيته للحل في قلب المقاربة
الأممية.
في المقابل، يجد خصوم الرباط أنفسهم أمام
واقع جديد يتطلب إعادة النظر في رهانات عقود، كما تكشف المنطقة المغاربية عن هشاشة
بنيوية في قدراتها الدبلوماسية ومحدودية استعدادها لصناعة حلول ذاتية لقضاياها
المصيرية.
منذ انسحاب إسبانيا من الصحراء عام 1975، ظل
هذا الملف واحدًا من أطول النزاعات السياسية في العالم العربي وإفريقيا. تعاقبت
قرارات الأمم المتحدة وتعددت الجولات التفاوضية وتدخل الوسطاء، إلا أن سقف التطور
العملي بقي منخفضًا بفعل التباينات الحادة بين الأطراف، وعدم توافق رؤيتها لمفهوم
تقرير المصير ومعنى السيادة وحدودها.
ومع تأسيس بعثة الأمم المتحدة (MINURSO) عام 1991، رسخ
المجتمع الدولي مرحلة وقف إطلاق النار الطويلة، وظل الأمل قائمًا لتنظيم استفتاء
يحدد مستقبل الإقليم. لكن عقودًا من التجربة أثبتت أن هذا الخيار ظل نظريًا في
جوهره؛ تصطدم حظوظه بالوقائع السياسية والديمغرافية والجيوسياسية، وتتعقّد آلياته
في تفاصيل تقنية لا يكاد يجمع حولها طرفان.
في هذا الفراغ، تمكنت الرباط منذ عام 2007
من طرح مبادرة الحكم الذاتي كصيغة عملية تمنح الإقليم صلاحيات واسعة تحت مظلة
السيادة
المغربية. البداية كانت مغربية محضة، لكنّها سرعان ما تحولت إلى مبادرة
دولية مفضَّلة بفضل عمل متواصل وصبور، ونسج تحالفات استراتيجية، وتعزيز مشاريع
التنمية في الأقاليم الجنوبية، وتقديم سردية متماسكة تستند إلى خطاب الاستقرار
والتكامل الإقليمي والانفتاح على الشراكات الدولية. هذا المسار، الذي قد يراه
البعض بطيئًا، هو الذي أثمر اليوم، عبر القرار الأممي، تحوّلًا واضحًا في اللغة
الدولية: من التمسّك باستفتاء غير قابل للتطبيق إلى تأكيد على حل سياسي عملي يستند
إلى الحكم الذاتي.
هذا النجاح المغربي ليس وليد الصدفة، ولا
نتاج قوة ظرفية، بل ثمرة سياسة خارجية اعتمدت على تراكم تدريجي، وقراءة دقيقة
لموازين القوى، واستفادة ذكية من التحولات الجيوسياسية العالمية، سواء في العلاقات
مع أوروبا أو مع الولايات المتحدة أو مع إفريقيا، فضلًا عن استثمار زخم الاعتراف
الأمريكي بسيادة المغرب على الصحراء أواخر 2020. هكذا استطاع المغرب أن يبني شرعية
دبلوماسية مضاعفة: شرعية قانونية قائمة على مبادرة معتمدة أمميًا كأرضية تفاوضية
جدية، وشرعية سياسية مدعومة بواقع تنموي متطور على الأرض.
لا يعني القرار الأممي نهاية الملف، لكنه مؤشر واضح على نهاية مرحلة وبداية أخرى. المغرب يدخلها بيدٍ عليا وثقة متنامية، الجزائر مطالبة بإعادة التفكير في خياراتها دون انفعال أو إنكار، وتونس مدعوة للخروج من حالة المتفرج وإعادة بناء سياستها الخارجية على أسس المصلحة الوطنية، لا ردود الفعل الظرفية.
في المقابل، وجدت الجزائر نفسها أمام لحظة
صعبة. دعمها المستمر لجبهة البوليساريو، واستثمارها السياسي والإعلامي والدبلوماسي
في هذا الملف لعقود، لم يُفضِ إلى النتيجة المتوخاة. ومع تبدّل البيئة الدولية، لم
تعد اللغة التقليدية حول تقرير المصير قادرة على فرض نفسها بذات الزخم السابق، بل
تحولت إلى خطاب دفاعي أكثر منه هجوميًا. وفي حين تحاول الجزائر اليوم إعادة صياغة
مواقفها وتكييف أدواتها، فإن القرار الأممي الأخير يضع أمامها تحديًا استراتيجيًا:
كيف تُعيد قراءة موقعها في المنطقة دون أن تبدو وكأنها تخسر معركة قيادية طالما
قدّمتها كجزء من هويتها الإقليمية ودورها التاريخي؟
غير أنّ الانعكاسات لا تطال الرباط والجزائر
فقط. تونس، الدولة التي كانت تاريخيًا متوازنة في مواقفها تجاه الملف، وجدت نفسها،
منذ استقبال الرئيس قيس سعيّد لقيادة جبهة البوليساريو في قمة «تيكاد 8» عام 2022،
في موقع دبلوماسي ملتبس أضر بعلاقتها مع المغرب دون أن يمنحها بالمقابل موقعًا
متقدمًا في المعادلة الإقليمية.
اليوم، تتعامل تونس مع واقع اقتصادي ضاغط،
وقيود مالية خارجية، وتحديات سياسية داخلية، تجعل قدرتها على لعب دور إقليمي فاعل
شبه معدومة. هذه الوضعية تظهر جلية في هذا السياق: القرار يُصنع في نيويورك،
والدور التونسي يكاد يغيب، بينما تتشكل توازنات جديدة دون مشاركة تونسية مؤثرة.
الأهم من ذلك أنّ هذا المشهد يكشف واقعًا
مريرًا أوسع: غياب نظام مغاربي قادر على إدارة أزماته بنفسه. فبعد ستة عقود من
الاستقلالات الوطنية، لا تزال المنطقة عاجزة عن خلق آلية جماعية لحل نزاع يرتبط
مباشرة بمستقبلها وأمنها وتكاملها الاقتصادي. والع consequence هي أن القوى الدولية تجد الفرصة لتكون صاحبة
الكلمة الأخيرة في مسائل تخصّ المنطقة أكثر من أي طرف آخر. هذه ليست مجرد خسارة
سياسية؛ إنها خسارة لمشروع كان يمكن أن يكون تكتلًا إقليميًا قويًا في إفريقيا
والمتوسط، ومختبرًا حقيقيًا للتكامل العربي.
لا يعني القرار الأممي نهاية الملف، لكنه
مؤشر واضح على نهاية مرحلة وبداية أخرى. المغرب يدخلها بيدٍ عليا وثقة متنامية،
الجزائر مطالبة بإعادة التفكير في خياراتها دون انفعال أو إنكار، وتونس مدعوة
للخروج من حالة المتفرج وإعادة بناء سياستها الخارجية على أسس المصلحة الوطنية، لا
ردود الفعل الظرفية. أما المغرب العربي ككل، فإما أن يراجع ارتباكاته ويستعيد
القدرة على التفكير الجماعي، أو يواصل دفع ثمن التفكك، تاركًا الآخرين يرسمون
مستقبل أقاليمه وحدوده وموازينه.