أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن اكتشاف احتياطيات كبيرة من العناصر الأرضية النادرة في منطقة "بيلك أوفا" التركية. هذه العناصر، التي توصف غالباً بـ "فيتامينات الصناعة الحديثة"، تُستخدم في صناعات حيوية مثل الإلكترونيات المتقدمة والطائرات المسيرة والسيارات الكهربائية.
يُعد هذا الاكتشاف مهماً على المستوى الاقتصادي لتركيا، حيث قد يساهم في تقليل اعتمادها على الاستيراد وتطوير صناعاتها التكنولوجية المحلية، في سباق يتطلب المعرفة العلمية والقدرة التقنية لكسر الاحتكار
الصيني الذي يهيمن على سوق هذه المعادن منذ عقود.
ما هي العناصر الأرضية النادرة وأهميتها؟
تشمل العناصر الأرضية النادرة 17 معدنًا في الجدول الدوري، مثل النيوديميوم والسيريوم والديسبروسيوم، والتي تدخل في صناعة المغناطيسات فائقة القوة والبطاريات الحديثة والمحركات الكهربائية.
وفي حديث لـ"عربي21" صرح البروفيسور نزيه علي، أستاذ علوم الجيولوجيا المصري، أن المشكلة ليست في ندرة هذه العناصر بل في صعوبة استخراجها ومعالجتها. فهي غالبًا ما تكون مختلطة مع معادن أخرى، مما يجعل فصلها عملية معقدة تتطلب معدات خاصة وخبرة فنية دقيقة.
اظهار أخبار متعلقة
للتوضيح يقول علي، "يتواجد عنصر السيريوم بنسبة 65 جزءًا في المليون، بينما تبلغ نسبة الذهب 0.004 جزء في المليون. الفارق الأساسي أن الذهب غالبًا ما يكون موجودًا في عروق نقية يسهل استخراجها، بينما تحتاج العناصر الأرضية النادرة لتقنيات فصل دقيقة ومعقدة. وتوضح الدراسات العلمية أن التركيب الإلكتروني لهذه العناصر يجعل ذراتها محصورة داخل الشبكة البلورية، مما يزيد من صعوبة فصلها".
ويصف الدكتور نزيه لـ"عربي21" عملية الاستخراج بأنها أشبه بـ "انتزاع شخص محشور وسط حشد متماسك"، وهو ما يفسر سيطرة الصين على هذا المجال لسنوات طويلة.
احتياطيات تركيا والسياق العالمي
وفقاً للبيانات الرسمية التركية، تحتوي منطقة "بيلك أوفا" على حوالي 694 مليون طن من الخام. تشير هذه الأرقام إلى إمكانية دخول تركيا قائمة أكبر المنتجين عالمياً، والتي تتصدرها الصين حالياً باحتياطيات هائلة تليها دول مثل فيتنام والبرازيل وروسيا.
ومع ذلك، فإن الطريق من الاكتشاف إلى الإنتاج الفعلي مليء بالتحديات. إذ أن عمليات الاستخراج والمعالجة صعبة وتقتصر على عدد قليل من الدول التي تمتلك الإمكانيات التقنية والمالية، بينما تضطر دول أخرى للتعاون مع شركات متخصصة لمعالجة خاماتها.
بِيلِك أوفا: الكنز التركي الذي يقلق العالم
في عام 2022، أعلنت وزارة الطاقة والموارد الطبيعية التركية عن اكتشاف احتياطي محتمل من الخام المحتوي على العناصر الأرضية النادرة في منطقة بيلك أوفا بمحافظة إسكي شهير، يُقدّر بحوالي 694 مليون طن. وكشف البيان الرسمي للوزارة آنذاك أن المادة الخام المكتشفة تحتوي على 10 عناصر نادرة من أصل 17 عنصراً معترفاً بها في هذا المجال.
وتشير التقديرات التقنية إلى أن نسبة الأكاسيد القابلة للاستخراج فعلياً تتراوح بين 0.2% و2% من إجمالي الكمية المُعلنة، ما يعادل قرابة 14 مليون طن من أكاسيد
المعادن النادرة. وهذا الاحتياطي يُضع تركيا -نظرياً- في المرتبة الثانية عالمياً من حيث حجم الاحتياطيات بعد الصين.
وفي منتصف أكتوبر 2025 أعلن الرئيس رجب طيب أردوغان خلال اجتماع للحكومة في أنقرة عن طموح بلاده لأن تكون ضمن أكبر خمسة منتجين لهذه المعادن على مستوى العالم.
اظهار أخبار متعلقة
وتُظهر بيانات هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية خريطة توزع احتياطيات العناصر الأرضية النادرة globally، حيث تحتل الصين المرتبة الأولى بلا منافس باحتياطيات تقدر بنحو 44 مليون طن متري، تليها فيتنام في المركز الثاني بحوالي 22 مليون طن متري، ثم البرازيل وروسيا بحوالي 21 مليون طن متري لكل منهما، فالهند بنحو 6.9 مليون طن متري، وأستراليا بحوالي 4 مليون طن متري.
التعاون الدولي والشراكات التقنية
مشروع استخراج ومعالجة المعادن النادرة يتطلب شراكات استراتيجية مع دول تمتلك خبرة تقنية واسعة، مثل الصين وتايوان واليابان وكوريا الجنوبية. ويرى الكاتب الصحفي والمحلل السياسي إيهاب كيالي في تصريح لـ"عربي21" أن هذا المشروع يحتاج أيضا إلى تمويل من دول الخليج العربي لتغطية تكاليف استخراج وفصل المعادن، بالإضافة إلى تسويقها عالميًا.
هذا التوجه يضع تركيا في قلب معادلة جيوسياسية معقدة. فهي تحتاج للشراكات الفنية والمالية، لكنها تواجه احتكار الصين لهذه المعادن، وتردد الغرب في التعامل معها بشكل مستقل، بسبب التحفظات الأمنية والجيوسياسية.
التحديات والهيمنة الصينية
تواجه تركيا في هذا المجال عدة تحديات، أبرزها الهيمنة الصينية الشبه كاملة على السوق، حيث تتحكم الصين بما يقارب:
70% من التعدين العالمي للعناصر الأرضية النادرة.
90% من عمليات الفصل والمعالجة.
93% من صناعة المغناطيسات فائقة القوة.
وترفض الصين نقل
التكنولوجيا، مكتفيةً بالسماح فقط باستيراد الخام. الغرب أيضًا لم يظهر ترحيبًا كاملًا؛ فروسيا رفضت التعاون بسبب انتماء تركيا لحلف الناتو، بينما الولايات المتحدة تتأرجح بين رغبتها في كسر الاحتكار الصيني وخوفها من منح تركيا السيطرة التكنولوجية على هذه المعادن.
تاريخيًا، أدركت الصين مبكراً أهمية هذه الموارد، حيث يُنسب للزعيم الصيني دنغ شياو بينغ قوله عام 1992: "الشرق الأوسط يملك النفط، أما الصين فتمتلك العناصر الأرضية النادرة". ومنذ ذلك الحين، طورت الصين قدراتها لتبلغ موقعاً استراتيجياً مهيمناً.
ولكن ما يعزز من الموقف التركي، وفق تصريح الكاتب إيهاب كيالي لـ"عربي21"، أن تركيا تسعى بجدية نحو بناء شراكات مع دول لديها خبرات في التصنيع الدقيق لتلك المعادن؛ فهي تحاول التعاون مع اليابان وكوريا، فضلًا عن ميزة تواجدها في حلف الناتو ومغازلتها لكل من دول الاتحاد الأوروبي وأمريكا، ولكل من يريد تقليل الهيمنة الصينية على هذه العناصر المهمة.
المشروع الوطني التركي
ردًا على الحصار التكنولوجي، أطلقت تركيا مصنع بيلك أوفا التجريبي بطاقة إنتاجية تبلغ 1200 طن خام سنويًا. الهدف الرئيسي للمشروع هو توطين التكنولوجيا وضمان إمداد الصناعات التركية، من الطائرات المسيرة إلى السيارات الكهربائية، بالمواد الخام اللازمة، دون الاعتماد على الصين.
لكن الخبير المهندس محمد تورون، الرئيس السابق لغرفة مهندسي المناجم في تركيا، يحذر في تصريح لجريدة جمهوريات المعارضة من أن "الثروة الحقيقية تكون حيث يوجد المال والمعرفة والتكنولوجيا"، ويشير إلى أن الفصل الخاطئ للعناصر النادرة قد يؤدي إلى أضرار بيئية جسيمة.
اظهار أخبار متعلقة
وبينما ترى الحكومة التركية في المشروع فرصة لتعزيز مكانة تركيا الجيوسياسية والاقتصادية، تعتبر المعارضة أن المشروع وهم وترويج سياسي، قد يجر البلاد إلى مفترق طرق. ويصف بعض أعضاء المعارضة المشروع بـ "التعدين الاستعماري"، محذرين من تكرار تجربة أوكرانيا، حيث سيطر الغرب على احتياطيات المعادن النادرة هناك.
ولم تتوقف المعارضة عند حد التصريحات والمقالات المهاجمة للمشروع في الصحف والمجلات التابعة لها فحسب، بل حاولت بلدية إسكيشهير الكبرى التابعة لحزب الشعب الجمهوري المعارض تعطيل المشروع، وفقًا لجريدة الصباح القريبة من حزب العدالة والتنمية الحاكم، ما أدى إلى إعراب سكان بيلك أوفا عن استيائهم من البلدية قائلين: "لا فائدة من بقاء مواردنا الجوفية تحت الأرض"، مطالبين البلدية بِتَرْك المشروع يعمل.
ويقول الكاتب الصحفي "إيهاب كيالي "لـ"عربي21": "إن المعارضة التركية تهدف أكثر إلى المناكفة السياسية وكسب الأرضية الانتخابية، وليست معنية بمصلحة البلاد الاستراتيجية في هذه القضية".
مشددًا على أن سباق المعادن النادرة هو "سباق المستقبل"، وأن تركيا تحاول أن تجد لها موطئ قدم، مؤكدًا أننا قد نشهد قريبًا منظمة "أوبك المعادن النادرة" تضم دولًا مثل الصين وفيتنام وتركيا على غرار أوبك النفط.
السيناريوهات المستقبلية للمشروع
◼ النجاح الكبير: تطوير تقنيات محلية وشراكات استراتيجية قوية، مع إنتاج كامل ومستدام. ويُقدر الاحتمال بنحو 30%.
◼ النجاح المحدود: إنتاج جزئي مع الاعتماد على التكنولوجيا الأجنبية، مع احتمالية 50%.
◼ الفشل التام: العقبات المالية والتكنولوجية تفوق القدرات الحالية، باحتمال 20%
ويشير الدكتور نزيه إلى أن نجاح المشروع يعتمد على توفر إرادة سياسية قوية وخبرة تقنية محلية وشراكات دولية، إضافةً إلى دعم مالي مستدام، ويضيف أن تركيا إما أن تعتمد على مشروع وطني وتمضي منفردةً في إكمال الصناعة بالاعتماد على الذات، وهذا السيناريو قد يتأخر تحقيقه ولكنه الأَضْمَن، وربما ينضم إليه آخرون إذا ظهرت بوادره.
أما السيناريو الآخر، وفقًا لنزيه، فيتوقف على تغير الواقع السياسي في المنطقة وتوفر مشروع أممي يضم الدول المتشاركة في مثلث الصناعة، فتنضم دول عربية وإسلامية لتركيا.
وفي حال نجاح المشروع، يمكن أن تفتح أمام تركيا فرصاً واسعة تشمل تطوير صناعات محلية عالية التقنية تعتمد على المعادن النادرة، وتقليل الاعتماد على الواردات خصوصاً من الصين، وتعزيز مكانة تركيا في سوق التكنولوجيا العالمية. كما قد يمهد هذا النجاح الطريق لتشكيل تحالفات إقليمية ودولية جديدة في هذا القطاع الاستراتيجي.
المخاطر والتحديات التي تواجه المشروع
رغم الإمكانيات، تواجه تركيا تحديات متعددة تشمل التحديات التقنية المرتبطة بصعوبة فصل المعادن النادرة التي تتطلب معدات متطورة وخبرات فنية عالية، والتحديات المالية نتيجة الحاجة إلى استثمارات ضخمة لتطوير المناجم والمصانع. بالإضافة إلى ذلك، هناك تحديات جيوسياسية تتمثل في محاولة كسر الهيمنة الصينية الحالية وتردد الغرب في تقديم الدعم الكامل، علاوة على التحديات البيئية حيث أن عمليات الفصل والمعالجة قد تسبب أضراراً بيئية إذا لم تُدار بشكل صحيح.
خلاصة مستقبلية
لا تخوض تركيا عبر هذا المشروع مجرد مغامرة اقتصادية، بل تدخل في معركة سيادة تكنولوجية معقدة. كما يرى الخبير االجيولجي الدكتور نزيه علي في تحليلاته التي صرح بها لـ"عربي21" أنه "في القرن الحادي والعشرين، فالسلاح هو المعادن النادرة والتكنولوجيا. من يتحكم فيهما، يتحكم في مصير العالم".
يضيف نزيه : "نجاح تركيا في هذا المشروع نقطة تحول مهمة في اقتصادها ومكانتها الجيوسياسية، خاصة إذا استطاعت تذليل العقبات التقنية والمالية. ومع ذلك، يبقى الطريق طويلاً والنتيجة غير مضمونة في سوق تهيمن عليه قوى عظمى منذ عقود.