مقالات مختارة

الشرع في البيت الأبيض: خلاصات حبالى يلدنَ كلّ عجيب

صبحي حديدي
سانا
سانا
حتى يثبت العكس (وقد يحدث هذا بالفعل، خلال زمن يقصر أو يطول، فتتكشف معطياته سرّاً أو علانية أو بمزيج منهما)؛ أخذ الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أكثر مما أعطى، أو تردد أنه سوف يعطي، خلال زيارة مدوية الأصداء، دراماتيكية في قليل أو كثير، ناجحة؛ وجلية المغانم، أيضاً، في رصيد السلطة الانتقالية وسوريا الجديدة أوّلاَ، ثمّ في حسابات البيت الأبيض وهذه الإدارة الأمريكية تحديداً وتالياً.

وثمة، في تلمّس ما قد يصحّ من عناصر ضمن خلاصة كهذه، سلسلة مستويات تتفاوت قِيَمُها على الجانبين، دمشق مثل واشنطن، وليست البتة ضئيلة الأصداء ما وراء المحيط وصولاً إلى المتوسط؛ إقليمياً في الشرق الأوسط، ودولياً في أوروبا الغربية، واستثمارياً في أربع رياح الأرض ربما، ولا استثناء للكرملين والنطاق الروسي عموماً أيضاً.
هنا بعض تلك المستويات:

1 ـ العلاقات السورية ـ الإسرائيلية، حيث كان منتظَراً، لدى أصدقاء دولة الاحتلال في واشنطن أسوة بالمتشككين في السلطة الانتقالية أو خصومها أو منتقدي سلوكها الإجمالي إزاء الاعتداءات والتوغلات والتدخلات الإسرائيلية في الجولان المحتل والجنوب السوري عموماً ومشروع حكمت الهجري الانفصالي في محافظة السويداء خصوصاً؛ أن تذهب رغائب ترامب من الشرع إلى ما هو أبعد من مفاوضات أمنية سورية ـ إسرائيلية تجدد اتفاقية سعسع 1974؛ وإلى صيغة ما، تمهيدية أو واضحة الإشارة، نحو انضمام دمشق إلى اتفاقيات أبراهام التطبيعية.

واتكاءً على ما صدر، أو رشح وتسرب، من أقوال ترامب نفسه وكبار مساعديه، ثمّ تصريحات الشرع نفسه خلال وقائع البيت الأبيض، أو الحوار مع «فوكس نيوز» والـ»واشنطن بوست»؛ أنّ حصيلة الموقف تبلورت في المعادلة التالية: سوريا تختلف عن الدول التي انخرطت في اتفاقيات أبراهام في جانب أوّل هو حدودها مع الاحتلال (بمعنى أنّ دمشق ليست أبو ظبي أو المنامة أو الرباط أو الخرطوم)؛ وفي جانب ثانٍ هو أنّ الاحتلال الإسرائيلي في هضبة الجولان يتواصل منذ 1967، وشهد لاحقاً خروقات احتلالية في المنطقة العازلة ومحيط جبل الشيخ والقنيطرة وتخوم محافظة درعا. اتفاقية أمنية محدّثة، إذن، وليس تطبيعاً أو اتفاقية سلام؛ ولم يكن بلوغ هذه السقوف مع ترامب، صديق دولة الاحتلال الصدوق، مغنماً يسير الانتزاع، والحقّ يُقال.

وفي جانب آخر، لم تصدر عن الكتل الكبرى لمجموعات الضغط المناصرة لدولة الاحتلال في الولايات المتحدة، ردود أفعال معادية أو ساخطة أو عاتبة على استقبال الشرع في البيت الأبيض، وكذلك على انعدام الحدود الدنيا التي ترى تلك المجموعات أنه توجب على ترامب استحصالها من الرئيس الانتقالي لصالح الاحتلال. لعلّ السبب الأوّل يعود إلى مناخ الترصد والضغط الذي يسود اليوم لدى الإدارة الأمريكية تجاه سلوك رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو بصدد سوريا الجديدة؛ وبالتالي فإنّ «البراغماتيين» من قادة مجموعات الضغط لم يخالفوا الإدارة في هذه المقاربة. أو أنّ السبب الآخر يمكن أن يكون رغبة (شاعت على نطاق واسع في واشنطن!) مفادها منح الشرع فضيلة الشكّ في أنه، بالفعل، لم يعد جهاديّ التوجّه في النظرة إلى دولة الاحتلال.

2 ـ مستوى العقوبات الاقتصادية و«قانون قيصر»: في الوسع المساجلة، استناداً إلى المعطيات الراهنة ومن دون استبعاد تطورات أخرى معاكسة أو حتى نقيضة؛ أنّ هذا الملفّ صنع المغانم الأثمن لزيارة الشرع إلى واشنطن؛ سواء تلك التي سوف تصيب الشعب السوري ومعيشته وحدود رفاهيته الإنسانية الدنيا، لأنها أساساً تشمل اقتصاد البلد وتنميته والشروع في إعادة بناء ما يُتاح الابتداء به، كما تنطوي على آفاق استثمار محلية وعربية وعالمية. الخزانة الأمريكية أعلنت تعليق عقوبات «قانون قيصر» لفترة 180 يوماً، كما أوضحت مصادر البيت الأبيض أن الإدارة دعت أعضاء الكونغرس المؤثرين، أنصار التحفظ على عقوبات «قيصر» تحديداً، إلى العمل على رفعها. ولم يكن اجتماع الشرع مع أحد كبار هؤلاء، بريان ماست الذي يحدث أيضاً أنه رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب وبين الأشدّ مناصرة لدولة الاحتلال، سوى مؤشر مبكر على نوايا ترامب في هذا الملفّ.

ولم يكن من دون مغزى خاصّ، مكمّل للملفّ ذاته ولكنه أيضاً حمّال معنى مستقلّ، أنّ الإدارة الأمريكية نشطت (على نحو غير مسبوق، في واقع الأمر!) لاستصدار قرار من مجلس الأمن الدولي يرفع العقوبات الأممية عن الشرع؛ وهو إجراء تفاخر به وزير الخارجية أسعد الشيباني، من زاوية أنّ سوريا نجحت في توحيد مجلس الأمن الدولي! وهذا مغنم شخصي، قبل أن يكون حكومياً، يتوّج مشواراً كان الشرع خلاله قد قطع، في أقلّ من 12 شهراً، مسافات دبلوماسية شاسعة ولافتة تماماً، من دمشق إلى الدوحة وأنقرة والرياض وعمّان والقاهرة وموسكو ونيويورك وبيليم؛ تضمنت اجتماعات مع قادة دول، والمشاركة في قمم عربية واستثمارية، وإلقاء كلمة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وحضور قمة المناخ للمرّة الأولى لأي رئيس سوري، والتفاوض مع صندوق النقد الدولي…

3 ـ مستوى صناعة الصورة وتجسيد التحولات، وفي المقام الأوّل تلك التي نقلت شخصية المقاتل الثوري أبو محمد الجولاني، العضو في منظمات وفصائل جهادية وإسلامية مثل «القاعدة» و«جبهة النصرة» و«هيئة تحرير الشام»… إلى أحمد حسين الشرع، رجل الدولة الذي طوى في داخله شخصية قائد الفصيل، والرئيس الانتقالي الذي لا يلوح أنّ تحولاته الجذرية والجوهرية المتسارعة يمكن أن تُفهم، أو تُهضم وتُصدّق، بدرجات عالية من اليُسر والوثوق والمصداقية. كانت هذه حاله مع الشعب السوري، عبر التنوّع الوفير في فئاته الاجتماعية والدينية والمذهبية والإثنية، وسواء تحمّس له سواد أعظم من سوريين أنسوا فيه منقذاً من عذابات 54 سنة استبداد وجرائم حرب وفساد ونهب «الحركة التصحيحية»؛ أو تشككت في خياراته، وانتقدته وعارضته، فئات أخرى ذهبت تطلباتها منه أبعد من هذه الأجندة الإصلاحية أو تلك الاشتراطات المثلى في السياسة والاقتصاد والاجتماع والحقوق؛ أو طبّل له أنصار شعبويون، ليسوا سوى الوجه الأول من عملة تحمل على الوجه الثاني تطبيل رفض طائفياً أو إثنياً أو مناطقياً…

وقارئ تعليقات قرّاء الـ»واشنطن بوست» الأمريكية على حوار الصحيفة مع الشرع، وقد تجاوزت 250 تعليقاً حتى تاريخ كتابة هذه السطور، لن يفوته إدراك ميزان مقارب لذاك الذي ساد في سوريا بعد دخول الشرع إلى دمشق منتصراً، وتنصيبه رئيساً انتقالياً: الدهشة إزاء هذه التحولات، والإقرار بأن زمن الإنجاز كان قياسياً، والتساؤل عن صدقية المتغيرات العميقة التي عصفت وتعصف بشخصيته، و… التفاؤل بمستقبل أكثر إشراقاً يستحقه الشعب السوري. ولم يكن عجيباً أن أيّ تعليق جادّ لم يتوقف (كما فعلت جمهرة من المعلقات والمعلقين على شاشات العرب المختلفة) عند تفصيل دخول الشرع إلى البيت الأبيض من المدخل التنفيذي، وليس من البوّابة المعتادة؛ في مقابل تثمين، خالطته الدهشة أيضاً، لمشاهد مخالفة الشرع تعليمات موكبه الأمنية، وخروجه من سيارته للسلام على سوريين احتشدوا لتحيته أمام جادّة البيت الأبيض.

وكانت صفة «التاريخية» هي التي شاعت على الألسن والتغطيات الصحافية، ليس لأنّ الشرع كان بالفعل أوّل رئيس سوري، انتقالي دائماً، يدخل البيت الأبيض منذ استقلال البلد سنة 1946، فحسب؛ بل، أغلب الظنّ، لاعتبارات أخرى ظهر بعضها، ويظلّ بعضها الآخر خافياً. فالخلاصات المقبلات، وليس الليالي وحدهنّ كما ذكّرنا الإمام الشافعي: حبالى، مثقلات، يلدنَ كلّ عجيب!

القدس العربي
التعليقات (0)