قضايا وآراء

فلسطين.. الحقيقة التي لا يمكن اغتيالها

لؤي صوالحة
"حاول الاحتلال أن يجعل من الموت عادة، لكن الفلسطيني جعل من الحياة مقاومة"- جيتي
"حاول الاحتلال أن يجعل من الموت عادة، لكن الفلسطيني جعل من الحياة مقاومة"- جيتي
في تاريخ كل أمة لحظاتٌ تَصنع امتحانها الأخلاقي، وتضعها أمام مرآتها الحقيقية. وبالنسبة للعرب، كانت تلك اللحظة -وما زالت- اسمها فلسطين.

ليست فلسطين مجرد أرضٍ محتلة أو قضية سياسية، بل هي، منذ وعدٍ خُطّ بحبرٍ باردٍ قبل أكثر من قرن، الجرح الذي لم يتوقف عن النزيف، هي المحكّ الذي يُقاس به الصدق من الزيف، والرجولة من الادّعاء، هي صوت الضمير الإنساني الذي ظلّ يُطارد العالم وهو يتظاهر بالعمى.

اليوم، وبعد كل ما جرى من حروبٍ ومجازرٍ ومؤتمراتٍ وقراراتٍ لم تُنفّذ، نجد أنفسنا أمام سؤالٍ أكبر من السياسة: هل لا يزال في العالم مكانٌ للعدالة؟ وهل لا يزال في الإنسان ضميرٌ يمكن أن ينتفض حين يرى طفلا يُقتل في حضن أمّه؟

الأرض التي تُعيد تعريف الكرامة

من غزة التي تشتعل كجمرةٍ في خاصرة البحر، إلى نابلس التي تُقيم الليل على صوت الرصاص، ومن جنين التي تقف بين الأنقاض وتقول "لن نركع"، إلى طولكرم التي تُطارد حلمها في وجه الجدار؛ تتجلّى فلسطين اليوم كأعظم امتحانٍ للإنسانية في هذا العصر.

لقد حاول الاحتلال أن يجعل من الموت عادة، لكن الفلسطيني جعل من الحياة مقاومة. حاولوا أن يزرعوا الخوف في القلوب، فزرع الفلسطيني في كل بيتٍ زيتونة. أرادوا أن يُطفئوا صوته، فحوّل كلماته إلى أغنيةٍ تتوارثها الأجيال.

هكذا صمد الفلسطيني، لا لأنّه يحبّ الموت، بل لأنّه يعشق الحياة التي تستحقّ أن تُعاش بكرامة. هو لا يحمل السلاح ليقتل، بل ليقول: "أنا هنا، ولن أُمحى".

حاول الاحتلال أن يجعل من الموت عادة، لكن الفلسطيني جعل من الحياة مقاومة. حاولوا أن يزرعوا الخوف في القلوب، فزرع الفلسطيني في كل بيتٍ زيتونة. أرادوا أن يُطفئوا صوته، فحوّل كلماته إلى أغنيةٍ تتوارثها الأجيال

في وجه العدوّ والعالم

لم تكن فلسطين يوما تواجه عدوّا فقط، بل تواجه نظاما عالميا كاملا، يرى في القوة حقّا، وفي المظلومية ضعفا. ومن المؤلم أن العالم، الذي بنى نظرياته على العدالة وحقوق الإنسان، هو نفسه الذي يُغمض عينيه أمام أكبر مأساة أخلاقية في القرن الحادي والعشرين.

كم من طفلٍ وامرأةٍ ورجلٍ سقطوا تحت القصف؟ وكم من بيتٍ هُدم، ومدرسةٍ أُحرقت، ومستشفى ضُرب؟ ومع ذلك، يبقى السؤال في عيون الفلسطيني لا يموت: إلى متى يُكافأ القاتل ويُعاقَب الضحية؟

لكنّ الفلسطيني، رغم كل هذا العمى العالمي، لا ينهار، بل ازداد صلابة. عرف أنّ العالم قد يخذله، لكن الأرض لا تخذل أبناءها، وأنّ الدمّ، مهما طال الزمن، يُثمر حرية لا تُقهر.

غزة.. دروسٌ في المعجزة

في غزة، تتجلّى المعاني كلها في مشهدٍ واحد: مدينةٌ محاصرة من البحر والسماء واليابسة، لكنها تقف كل صباحٍ لتقول للعالم: "نحن باقون". فيها تُرى الأمهات يخرجن من بين الركام وهنّ يحملن أطفالهن ويبتسمن، ليس لأنّ الألم أصبح عادة، بل لأنّ الإيمان بالحياة أقوى من كل دمار.

غزة ليست مدينة تُقصف، بل فكرة لا تُقهر. هي مدرسةٌ تُدرّس كيف يمكن للإنسان أن يظلّ إنسانا في لحظةٍ يُجرد فيها من كل شيء، ومن يتأملها، يدرك أن هناك نوعا من القوة لا تُقاس بعدد الصواريخ، بل بعدد القلوب التي ترفض الانكسار.

الضفة.. الساحات التي تُنبت الرجولة

في مخيم نور شمس، في جنين، في بلاطة، في طولكرم، كل حجرٍ هناك له ذاكرة، وكل زقاقٍ يعرف اسم شابٍ سقط وهو يبتسم. في الضفة لا تُقاس البطولة بعدد البنادق، بل بعدد القلوب التي تصمد رغم الجدران، وبعدد الأمهات اللواتي يودعن أبناءهن وهنّ يرفعن رؤوسهن إلى السماء.

إنّ ما يجري في الضفة ليس اشتباكا عابرا، بل هو فعلُ وعيٍ جمعيٍّ يكتب فصول الملحمة القادمة. شعبٌ وُلد ليحمل الفكرة، وفكرةٌ كُتبت لتنتصر، فما من قوةٍ في الأرض تستطيع أن تُقهر أمة إذا قررت أن تحيا بشرف، ولو كان الثمن حياتها.

العالم بين العجز والادعاء

العالم اليوم يعيش ازدواجية فاضحة؛ يُدين الظلم حين يكون بعيدا عنه، ويُبرره حين يكون المظلوم فلسطينيا، يتحدث عن الحرية وهو يبني الأسوار، ويُنادي بحقوق الإنسان وهو يُسلّح القاتل.

ليس المطلوب من هذا العالم أن يتباكى، بل أن يتوقف عن المشاركة في الجريمة. فكلُّ قنبلةٍ تُلقى، وكلُّ قرارٍ أُجهض في مجلسٍ أو مؤتمر، وكلُّ صمتٍ في وجه مجزرة؛ هو خنجرٌ جديد في قلب الحقيقة.

لكنّ فلسطين، وسط هذا الخذلان، وجدت طريقها. لم تعد تنتظر من أحدٍ شيئا، لأنها أدركت أن القوة الحقيقية ليست في الدعم الخارجي، بل في الإيمان الداخلي. فمن يمتلك إرادة البقاء لا يُهزم، ومن يملك ذاكرة الأرض لا يُنفى.

الشهداء.. الحضور الذي لا يغيب

في كل بيتٍ فلسطينيٍّ شهيد، وفي كل شارعٍ حكاية. يُغادرون أجسادهم، لكنهم لا يغادرون المكان. يبقون في صدى الخطى، في زقزقة العصافير، في رائحة التراب بعد المطر. إنّ الشهادة في فلسطين ليست موتا، بل هي حياةٌ أخرى تكتمل فيها المعاني التي عجز الأحياء عن التعبير عنها.

إنهم لا يموتون لأنهم يريدون الموت، بل لأنهم يريدون للحياة أن تظلّ ممكنة. هم الذين يوسّعون المعنى حين تضيق اللغة، ويُعيدون للكرامة مكانتها حين تُهان.

حين يكتب طفلٌ اسم أبيه الشهيد على جدارٍ مهدّم، فهو لا يرث الحزن، بل يرث البطولة، وحين ترفع أمٌّ صورة ابنها أمام عدسات العالم، فهي لا تطلب تعاطفا، بل ترفع علما.

درس التاريخ الذي لا يُنسى
من رحم هذا الخراب يولد الغد، الغد الذي لا تُرسم ملامحه في مكاتب السياسة، بل تُكتب على جدران غزة المهدّمة، وفي شوارع جنين، وفي ضحكات الأطفال الذين يركضون رغم الخطر

لقد تعاقبت على فلسطين جيوشٌ وإمبراطوريات، حاولت جميعها أن تطفئ هذا الضوء الصغير الذي يسكنها، لكنهم جميعا رحلوا، وبقيت هي. فلسطين التي غزاها الزمن فغلبته، التي حاصرها الحديد فكسرت حصارَه بالدم والذاكرة.

إنّ التاريخ لا يرحم الذين يتخلّون عن مبادئهم، ولا ينسى الذين يصمدون حتى النهاية. وفي كتاب التاريخ، سيسجَّل أن هذا الشعب -رغم الجوع والدمار- ظلّ واقفا كجبلٍ لا ينحني، يُعلّم العالم أنّ الحقّ لا يُقاس بالقوة، بل بالقضية التي تحمله.

الغد الذي يُصاغ من الرماد

لن تظلّ فلسطين إلى الأبد تحت الركام، فمن رحم هذا الخراب يولد الغد، الغد الذي لا تُرسم ملامحه في مكاتب السياسة، بل تُكتب على جدران غزة المهدّمة، وفي شوارع جنين، وفي ضحكات الأطفال الذين يركضون رغم الخطر.

سيأتي اليوم الذي يُفتح فيه البحر لأهل غزة دون إذن، وتُزرع فيه كروم العنب في طولكرم بلا خوفٍ من الجدار، ويعود الأذان من القدس فيسمعه العالم كلّه. ذلك اليوم لن يُمنح، بل سيُنتزع كما تُنتزع الحياة من بين أنياب الموت. فالشعوب التي تتعلّم كيف تموت واقفة، هي وحدها التي تستحق أن تعيش حرّة.

وفي الختام يا فلسطين، يا أيقونة الأرض وضمير السماء، يا اسما لا يشيخ ولا يُمحى، لقد كنتِ على مدى قرنٍ من الزمان ميزان العدل في هذا العالم، وها أنتِ اليوم من جديد تكتبين امتحانه الأخير. لن تُطفئك المجازر، ولن تُسكتك الحواجز. فأنتِ الفكرة التي لا تُقهر، والقضية التي لا تُنسى، والنور الذي لا يُطفأ، ولو اجتمع على إخماده ظلام الأرض كلّه.

فلسطين.. أنتِ الحقيقة التي لا يمكن اغتيالها. وما دام فيكِ طفلٌ يصرخ "أنا هنا"، وفيكِ أمٌّ ترفع رأسها رغم الجرح، وفيكِ أرضٌ تشهد بالدم أن الحقّ لا يموت؛ فسيبقى العالم، مهما أدار وجهه عنك، يعود إليكِ في النهاية، ليعترف بأنكِ -وحدكِ- كنتِ الحقّ في زمنٍ ضاع فيه كلُّ معنى للحق.
التعليقات (0)