قضايا وآراء

زيارة البابا إلى لبنان: رمزية تتجاوز اللحظة.. ماذا عن الجنوب؟

محمد موسى
"الجنوب ليس جغرافيا عابرة، بل مساحة تختزن آلام الحروب والانقسامات ومقاومة الاحتلال ومعاناة الناس بين خطوط النار"- إكس
"الجنوب ليس جغرافيا عابرة، بل مساحة تختزن آلام الحروب والانقسامات ومقاومة الاحتلال ومعاناة الناس بين خطوط النار"- إكس
شارك الخبر
تشكل الزيارة المرتقبة لقداسة البابا إلى لبنان أكثر من محطة بروتوكولية أو حدث ديني، فهي عودة الروح إلى وطن بُني على فكرة العيش المشترك، وتأكيد أن هذا البلد الصغير ما زال يحتفظ برسالته في زمن تتسارع فيه الانقسامات، وتتراجع فيه مساحات الحوار، حتى بات الشرق كله يبحث عن نافذة يطل منها على الأمل. زيارة البابا تأتي في لحظة دقيقة يمر فيها لبنان بمرحلة انتقالية على المستويات السياسية والاقتصادية والروحية، وتعيد التأكيد على قيم المحبة والانفتاح التي حملتها الكنيسة عبر تاريخها، وعلى العلاقة التاريخية بين الكرسي الرسولي ولبنان الذي اعتبره الفاتيكان منذ عقود.. لبنان أكثر من وطن.. إنه رسالة.

إن البعد الأول لهذه الزيارة يكمن في إعادة التوازن الروحي لشعب يرزح تحت ضغط الأزمات، وفي طمأنة المسيحيين اللبنانيين والشرقيين بأن حضورهم ليس تفصيلا في معادلة الشرق، بل حجر زاوية في هوية المنطقة ومستقبلها. أما البعد الثاني، فهو سياسي-إنساني، يتمثل في رغبة الفاتيكان الواضحة في دعم الاستقرار، ودفع القوى اللبنانية إلى إعادة بناء الدولة على قاعدة الشراكة واحترام الكرامة الإنسانية،
حضور البابا في الجنوب سيشكل منعطفا أخلاقيا ورسالة عالمية بأن الأرض التي عانت كثيرا تستحق أن تعيش بسلام، وأن حماية الإنسان هنا أولوية تتجاوز كل الاصطفافات
وهو ما يشكل جزءا من رؤية البابا الحالية تجاه الشرق، حيث تتقدم الاعتبارات الإنسانية على أي حساب آخر. لكن أهم ما يمكن أن تحمله الزيارة هو البعد الثالث: زيارة الجنوب اللبناني. فالجنوب ليس جغرافيا عابرة، بل مساحة تختزن آلام الحروب والانقسامات ومقاومة الاحتلال ومعاناة الناس بين خطوط النار.

حضور البابا في الجنوب سيشكل منعطفا أخلاقيا ورسالة عالمية بأن الأرض التي عانت كثيرا تستحق أن تعيش بسلام، وأن حماية الإنسان هنا أولوية تتجاوز كل الاصطفافات. إن هذه الزيارة، لو حصلت، ستنقل الجنوب من ساحة تُقرأ عسكريا وسياسيا إلى ساحة تُقرأ إنسانيا وروحيا، وسيكتسب لبنان حينها قيمة إضافية تُثبت أنه ليس بلدا ينتظر الحلول من الخارج، بل مركزا لإنتاجها.

وانطلاقا من هذا البعد، تبرز أهمية إطلاق مبادرة سلام فاتيكانية من رحم هذه الزيارة، مبادرة لا تقف عند الحدود اللبنانية، بل تمتد نحو غزة وسائر مناطق النزاع في الشرق، على قاعدة واحدة: حماية المدنيين، ووقف نزيف الحروب، وتخفيف معاناة ملايين المتعبين من مسلمين ومسيحيين. يمكن لهذه المبادرة أن تحمل عنوانا كبيرا: "حق الشعوب في الحياة"، وأن تكون إطارا أخلاقيا جامعا تعيد عبره الكرسي الرسولي وضع الشرق على خريطة الاهتمام الدولي من زاوية إنسانية لا سياسية فقط.

الفاتيكان، بما يمتلك من قوة رمزية وأخلاقية، قادر على جمع أطراف متباعدة، وعلى مخاطبة الضمائر في زمن باتت فيه لغة السلاح تتقدم على لغة الحق. إن مثل هذه المبادرة إذا أُطلقت من لبنان، وبصوت البابا، فإنها ستعيد الاعتبار إلى الدور التواصلي الذي لطالما لعبه هذا البلد، وستمنح أهله فرصة ليكونوا شركاء في مسار سلام وضعه التاريخ أكثر من مرة على أكتافهم، كما ستعيد للمنطقة ثقة مفقودة بأن الحوار لا يزال ممكنا، وأن صوت الرحمة أقوى من ضجيج المدافع.

تبقى الحقيقة الثابتة في خاتمة هذا المسار: إن قيمة المشرق كله تكمن في العيش المشترك بين مكوناته الإسلامية والمسيحية. ففي هذه الأرض التي شهدت ولادة الرسالات، لا يمكن لأي مشروع سلام أن ينجح إذا لم يقم على احترام التنوع وعلى الإيمان بأن مستقبل المنطقة هو مستقبل الجميع معا، لا مستقبل طائفة أو جماعة واحدة. زيارة البابا إلى لبنان هي اللحظة المناسبة لإعادة تثبيت هذه الحقيقة، وللتذكير بأن الشرق المتعب لا ينهض إلا حين يلتقي أبناؤه على كلمة واحدة: إنسانية الإنسان أولا.
التعليقات (0)

خبر عاجل