كتب

هل يمكن أن تكون الديمقراطية مسلمة؟ قراءة في أطروحة مارش والغنوشي

يغدو كتاب "حول الديمقراطية المسلمة" أكثر من مجرد كتاب؛ إنه بيان حضاري في زمن الانكسار، ومحاولة فكرية جريئة لإعادة بناء الجسور بين القيم الكونية والخصوصيات الثقافية..
يغدو كتاب "حول الديمقراطية المسلمة" أكثر من مجرد كتاب؛ إنه بيان حضاري في زمن الانكسار، ومحاولة فكرية جريئة لإعادة بناء الجسور بين القيم الكونية والخصوصيات الثقافية..
شارك الخبر
الكتاب : حول الديمقراطية المسلمة: نصوص وحوارات
المؤلف: أندرو ف. مارش
منشورات جامعة أكسفورد  سنة 2023
 عدد صفحاته 310

تعيش الدول العربية والإسلامية منذ عقود صراعًا فكريًا وسياسيًا بين التقاليد الدينية ومتطلبات الحداثة السياسية، خاصة بعد موجة الثورات الشعبية التي اجتاحت المنطقة بين 2010 و2011. هذا الصراع تجلى بشكل واضح في تونس، حيث أعادت الثورة تشكيل المشهد السياسي وفتحت المجال لنقاشات معمقة حول العلاقة بين الإسلام والديمقراطية، بين المرجعية الدينية وحقوق الإنسان، وبين الدولة والمواطنة.

في هذا السياق، يمثل كتاب أندرو مارش On Muslim Democracy: Essays and Dialogues جهدًا معرفيًا مركبًا، يجمع بين نصوص ومقالات لراشد الغنوشي وحوار فلسفي تحليلي يجريه مارش، بهدف تفسير تطور الفكر الإسلامي السياسي من مرحلة “الديمقراطية الإسلامية” إلى ما يسميه “الديمقراطية المسلمة”. يقدّم الكتاب نموذجًا فكريًا يحاول تجاوز الإشكالات التقليدية في فكر الإسلام السياسي: التوتر بين السلطة الدينية والمدنية، الصراع بين التقاليد الشرعية ومتطلبات التعددية، والمفارقة بين الالتزام بالقيم الإسلامية والمرونة اللازمة لبناء مؤسسات ديمقراطية حقيقية.

قبل الثورة التونسية، ركز فكر الغنوشي على مفهوم “الديمقراطية الإسلامية” لربط المبادئ الإسلامية بالمواطنة وحقوق الأفراد، مع التأكيد على الشورى باعتبارها آلية شرعية للمساءلة السياسية، وكانت هذه المرحلة أكثر طابعًا إيديولوجيًا مع محدودية التطبيق العملي.
الهدف من هذه الورقة هو تقديم قراءة نقدية معمقة للكتاب، تسلّط الضوء على أطره الفكرية، مفاهيمه المركزية، وإسهاماته في الفكر السياسي المعاصر، مع تقييم نقاط القوة والقيود العملية، وربطه بالتجربة التونسية وما بعد الثورة، لتوضيح إمكانية تطبيق مفهوم “الديمقراطية المسلمة” في واقع متغير ومعقد. كما تسعى الورقة إلى استكشاف جدلية العلاقة بين الحرية الفردية والالتزام الديني، والتحديات الفكرية والسياسية التي تواجه تطبيق هذا النموذج في السياقات العربية والإسلامية المختلفة.

الخلفية الفكرية

قبل الثورة التونسية، ركز فكر الغنوشي على مفهوم “الديمقراطية الإسلامية” لربط المبادئ الإسلامية بالمواطنة وحقوق الأفراد، مع التأكيد على الشورى باعتبارها آلية شرعية للمساءلة السياسية، وكانت هذه المرحلة أكثر طابعًا إيديولوجيًا مع محدودية التطبيق العملي. بعد أحداث 2011، تحول الغنوشي نحو مفهوم “الديمقراطية المسلمة”، الذي يهدف إلى جعل النظام أكثر مرونة وتوافقًا مع التعددية، بحيث يمكن للمبادئ الإسلامية أن تتفاعل مع القوانين الدستورية والحقوق العالمية دون الإضرار بالمرجعية الدينية.

هذا التحول الفكري يتقاطع مع أعمال آصف بيات حول Post-Islamism، حيث ترى الحركات الإسلامية بعد الثورات الشعبية أن عليها تجاوز الإطار الدعوي نحو قبول التعددية وحقوق الإنسان، مع الحفاظ على المرجعية الدينية كإطار قيم. كما يقارن هذا التحول بأعمال أوليفييه روا حول صعوبات تطبيق الإسلام السياسي، ويضعه ضمن سياق الأدبيات الغربية في الديمقراطية، بما يشمل مفاهيم سيادة الشعب، الحريات الفردية، ومؤسسات الدولة الحديثة.

رحلة تطور الغنوشي الفكري توضح محاولة التوفيق بين قيم الإسلام ومبادئ الحداثة السياسية، مع تحليل مراحل زمنية محددة قبل وبعد 2011، مبينًا كيف تغيرت رؤيته للحرية، المواطنة، وسيادة الشعب. ومن ناحية أخرى، توفر التجربة التونسية بعد الثورة أرضية حية لاختبار هذه الأفكار، إذ تمثل واقعًا متعدد الأبعاد سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا، مع تحديات تتعلق بالانقسامات السياسية، الأزمات الاقتصادية، وضغوط المجتمع المدني.

علاوة على ذلك، يمكن ربط هذه الخلفية الفكرية بالمقاربة التاريخية للشورى في الإسلام، مثل تجربة الخلفاء الراشدين، كمثال على التوازن بين المبادئ الدينية والمسؤوليات السياسية، وربطها بتحليل الغنوشي المعاصر لفهم كيفية توظيف التراث الإسلامي في صياغة نموذج ديمقراطي مرن ومتكامل.

تحليل النصوص

يحتل تحليل النصوص في كتاب On Muslim Democracy موقعًا مركزيًا، إذ يتيح فهم التحول من “الإسلام السياسي المعياري” إلى “الإسلام الديمقراطي التأويلي”، أي من خطاب يدور حول “مشروعية الحكم باسم الإسلام” إلى رؤية تجعل الإسلام إطارًا أخلاقيًا ضمن نظام سياسي مدني تعددي.

يستند أندرو مارش في قراءته إلى مقالات الغنوشي، خاصة تلك التي كتبها بعد الثورة التونسية، والتي تظهر فيها بوضوح محاولة التوفيق بين الإسلام كهوية دينية، والديمقراطية كنظام للحكم، من دون الوقوع في ثنائية الإقصاء أو الذوبان.

عد أحداث 2011، تحول الغنوشي نحو مفهوم “الديمقراطية المسلمة”، الذي يهدف إلى جعل النظام أكثر مرونة وتوافقًا مع التعددية، بحيث يمكن للمبادئ الإسلامية أن تتفاعل مع القوانين الدستورية والحقوق العالمية دون الإضرار بالمرجعية الدينية.
في هذه النصوص، يعيد الغنوشي بناء مفهوم الحرية من داخل المرجعية الإسلامية. فهو لا يراها مجرد حرية فردية ليبرالية كما في التصور الغربي، بل حرية مسؤولة تتقاطع مع مفهوم “العبودية لله”، بحيث تكون الحرية الحقيقية هي تحرر الإنسان من الاستبدادين: استبداد السلطة، واستبداد الهوى.

وهذا التأويل يجعل الحرية الإسلامية ـ في نظر مارش ـ نموذجًا فريدًا لأنها تربط بين البعد الأخلاقي والبعد السياسي للحرية، بما يعيد صوغ المواطنة كتكليف قيمي لا كامتياز قانوني فقط.

يلاحظ مارش أن الغنوشي في هذه المقاربة ينتقل من "الحرية كحق" إلى "الحرية كواجب"، أي أن ممارسة الحرية لا تنفصل عن مسؤولية الفرد في بناء الصالح العام، وهي رؤية تقارب ما عبّر عنه جون رولز في مفهوم “العدالة كإنصاف”، لكن بمرجعية دينية لا علمانية.

أما مفهوم الشورى، فيعدّ من أبرز المحاور التي يتوقف عندها الكتاب.

يرى الغنوشي أن الشورى تمثل البنية الإسلامية المقابلة لمفهوم “السيادة الشعبية”، إذ تتيح للأمة المشاركة في صنع القرار ومساءلة الحاكم، لكنها ليست آلية تقنية فقط، بل قيمة روحية وسياسية.

ويقرأ مارش هذا المفهوم قراءة فلسفية دقيقة، معتبرًا أن الشورى في فكر الغنوشي تحولت من "نظام تراثي للمبايعة" إلى "مبدأ دستوري للتداول والمساءلة"، أي أنها انتقلت من دائرة النص الديني إلى فضاء العقد الاجتماعي.

بهذا الفهم، تصبح الشورى وسيلة لتأسيس المجال العمومي الذي تحدّثت عنه حنة أرندت، لكنها هنا تستمد شرعيتها من الجماعة لا من الدولة، ومن القيم لا من الإكراه القانوني.

ويتوسع مارش في تحليل مفهوم السيادة في فكر الغنوشي، وهو من أكثر المفاهيم حساسية في الفكر السياسي الإسلامي.

فبينما كانت الأدبيات التقليدية تعتبر أن السيادة لله، يرى الغنوشي أن "السيادة لله، والسلطة للأمة"، وهو تمييز جوهري يسمح ببناء نظام مدني يعبّر عن إرادة الشعب دون مصادمة المرجعية الدينية.

يحلل مارش هذا التحول على ضوء الفلسفة الحديثة، فيربطه بمفهوم "التعاقد السياسي" لدى لوك وروسو، مؤكدًا أن الغنوشي يقدّم صيغة وسطية تجعل من الشريعة مرجعًا قيمًا لا سلطة فوق دستورية، أي أنها تهدي الفعل السياسي دون أن تتحكم فيه.

ومن خلال هذه القراءة، يبيّن مارش أن "الديمقراطية المسلمة" عند الغنوشي ليست مجرد دمج بين قيم الإسلام وآليات الديمقراطية، بل منهج تأويلي يعيد تفسير النصوص الدينية لتستجيب لمقتضيات الزمن.

فمثلاً، في مقالات الغنوشي حول الدولة المدنية، نجد تفكيكًا لثنائية "الديني/السياسي"، حيث يؤكد أن الدولة ليست دينية بالمعنى الثيوقراطي، ولا علمانية بالمعنى الغربي، بل “دولة مدنية بمرجعية إسلامية”، أي أن القيم الإسلامية تشكّل ضمير المجتمع، بينما تتولى المؤسسات المنتخبة صياغة القوانين وتنفيذها.

يصف مارش هذا التصور بأنه محاولة لتأسيس "حداثة غير مقلّدة"، تقوم على تأصيل مفاهيم الحداثة في بنية الإسلام نفسه، وهو ما يسميه "الحداثة المؤمنة".

ويتعمق الكتاب كذلك في تحليل مفهوم المصلحة والمقاصد، وهما من الركائز النظرية في فكر الغنوشي.

فالغاية من الحكم في نظره ليست تطبيق الشريعة بوصفها منظومة نصية جامدة، بل تحقيق مقاصدها في الحرية والعدالة والكرامة.

وهذا ما يجعل الديمقراطية المسلمة إطارًا لتحقيق المقاصد من خلال أدوات مدنية.

يرى مارش أن هذا الانتقال من “نص الشريعة” إلى “روح الشريعة” يشبه الانتقال من القانون الطبيعي إلى القانون المدني في الفكر الغربي الحديث، إذ يحرّر النص من جمود التفسير ويمنحه حركية زمنية.

وفي تعامله مع مسألة المواطنة، يلاحظ مارش أن الغنوشي يستخدم مصطلح “المواطنة الجامعة” كمفهوم بديل للتمييز بين المسلم وغير المسلم، مؤكدًا أن الانتماء للوطن والمجتمع هو أساس الحقوق والواجبات، بينما يظل الدين مكوّنًا هوياتيًا لا شرطًا للانتماء السياسي.

يستند الغنوشي في ذلك إلى مقاصد القرآن في التكريم والمساواة، ويرى أن الإسلام أرسى مبكرًا مفهوم “الحرية الدينية” التي تتيح للإنسان أن يختار دون إكراه.

ويفسّر مارش هذا التوجه بأنه محاولة لتجاوز الثنائية التي طالما أرّقت الفكر الإسلامي: "الهوية مقابل المواطنة"، معتبرًا أن الغنوشي يميل نحو مفهوم “الهوية المواطنية”، أي هوية مشتركة تتسع للتنوع ضمن إطار أخلاقي جامع.

ومن الجوانب اللافتة في تحليل مارش، قراءته للتحول اللغوي في نصوص الغنوشي. فهو يشير إلى أن الغنوشي، منذ 2011، قلّل من استخدام المفردات التي تحيل إلى الصراع بين "الإسلاميين والعلمانيين"، واستبدلها بلغة “الشراكة والتوافق”، وهو تحول دلالي يعكس نضجًا سياسيًا وفكريًا، ويعبّر عن استيعاب لضرورات بناء المجال الديمقراطي.

ويعتبر مارش أن هذا التحول اللغوي لا يقل أهمية عن التحول المفهومي، لأن اللغة هي التي تصوغ المخيال السياسي وتؤسس لشرعية جديدة.

وفي السياق ذاته، يتوقف مارش عند المفهوم العملي للسلطة والمعارضة في فكر الغنوشي، مبينًا أن الديمقراطية المسلمة تتطلب توازنًا بين الشرعية الانتخابية والشرعية الأخلاقية.

فالسلطة لا تُمارس باسم التفويض المطلق، بل في إطار رقابة المجتمع المدني ومحاسبة الناخبين، والمعارضة ليست عدوة للدولة بل جزء من مشروع الإصلاح.

هذا الفهم يذكّر بمفهوم "الفضاء العمومي" عند هابرماس، حيث تكون السياسة حوارًا لا صراعًا، لكنه هنا مشروط بمرجعية قيمية تمنع انزلاق الحرية إلى الفوضى.

يمثل الكتاب إسهامًا فكريًا مهمًا في توضيح كيفية تحقيق التوازن بين المرجعية الدينية والحقوق الديمقراطية، مع التركيز على الحرية، المواطنة، وسيادة الشعب. يوفر الدمج بين المقالات والحوار الفلسفي أدوات مفاهيمية لفهم تطور الفكر الإسلامي السياسي ومرونة الحركات الإسلامية أمام تحديات الحداثة والديمقراطية.
ويختم مارش تحليله بالقول إن فكر الغنوشي يقدّم للغرب "نموذجًا تأويليًا للديمقراطية الدينية" لا يهدف إلى أسلمة الديمقراطية ولا إلى دعلنة الإسلام، بل إلى إقامة جسر تأويلي بين المجالين، بحيث يصبح الإسلام مصدرًا للمعنى الأخلاقي والديمقراطية وسيلة للتنظيم السياسي.

إنه لا يقدّم بديلاً للديمقراطية الليبرالية بقدر ما يسعى إلى إغنائها برؤية روحية ومعنوية، تجعل الحرية أداة للإصلاح لا للهدم، والمواطنة التزامًا لا امتيازًا، والشريعة نداءً للمصلحة لا أداة للهيمنة.

وهكذا يتحول تحليل النصوص عند مارش إلى أكثر من مجرد مقارنة بين مفاهيم، بل إلى تجربة فكرية حوارية تكشف عن دينامية الإصلاح الإسلامي من الداخل، وعن إمكانية إنتاج نموذج ديمقراطي من رحم المرجعية الإسلامية، يزاوج بين الإيمان والحرية، بين النص والعقل، بين الروح والمؤسسة.

التقييم التطبيقي

يمثل الكتاب إسهامًا فكريًا مهمًا في توضيح كيفية تحقيق التوازن بين المرجعية الدينية والحقوق الديمقراطية، مع التركيز على الحرية، المواطنة، وسيادة الشعب. يوفر الدمج بين المقالات والحوار الفلسفي أدوات مفاهيمية لفهم تطور الفكر الإسلامي السياسي ومرونة الحركات الإسلامية أمام تحديات الحداثة والديمقراطية.

مع ذلك، يبقى الجانب التطبيقي محدودًا، فالكتاب يركز على النظرية أكثر من التطبيق العملي، خصوصًا في ظل الانقسامات السياسية، الأزمات الاقتصادية، والتحديات الأمنية في تونس وما حولها. اللغة الأكاديمية العميقة قد تحد من وصول الأفكار إلى الجمهور العام، مما يقلل من تأثيرها المباشر على السياسات. كما يثير مفهوم "الديمقراطية المسلمة" تساؤلات حول الفارق بين الرؤية النظرية والتطبيق السياسي الفعلي، لا سيما في مواجهة الواقع المعقد والمتغير بسرعة.

ربط الأفكار بالتجربة التونسية بعد الثورة يظهر نقاط القوة والقيود العملية لهذه الرؤية، مع إمكانية الاستفادة من التجارب المقارنة في المنطقة لتحديد العوامل المؤثرة في نجاح أو فشل التطبيق، بما يشمل الأطر القانونية والمؤسساتية، واستعداد المجتمع المدني لقبول التغيير، وقدرة الأحزاب السياسية على تبني الإصلاحات المطلوبة.

الخاتمة

يقدّم كتاب أندرو مارش ـ On Muslim Democracy ـ نموذجًا فكريًا متقدمًا لفهم العلاقة بين الإسلام والديمقراطية. من خلال دمج مقالات الغنوشي مع الحوار الفلسفي، يوفر الكتاب رؤية شاملة حول كيفية تحقيق توازن بين المرجعية الدينية والحقوق الديمقراطية، مع التركيز على الحرية، المواطنة، وسيادة الشعب.

يمثل الكتاب إسهامًا مهمًا في الفكر السياسي الإسلامي المعاصر، ويوفر قاعدة معرفية للباحثين لفهم تطور الحركات الإسلامية ومرونتها الفكرية أمام تحديات الحداثة والديمقراطية. ومع ذلك، يظل التطبيق العملي محدودًا ويحتاج إلى بنى مؤسساتية قوية وضمانات دستورية واضحة، بينما اللغة الأكاديمية المعمقة تحد من وصول الأفكار إلى الجمهور العام.

الخاتمة

يُمكن القول إنّ كتاب حول الديمقراطية المسلمة لا يقدّم مجرّد تأملات فكرية أو اجتهادات نظرية في مسألة الإسلام والديمقراطية، بل يشكّل مختبرًا فلسفيًا وحضاريًا يلتقي فيه الشرق والغرب عند نقطة سؤال كبرى: كيف يمكن أن نكون أحرارًا ومسلمين في آن واحد، دون أن نُختزل في ثنائيات "الحداثة أو الدين"، "الشورى أو الديمقراطية"، "الغرب أو الإسلام"؟

هذه الثنائية التي شكلت محور الصراع الحضاري في القرنين الماضيين، يسعى الغنوشي ومارش إلى تجاوزها لا عبر التلفيق أو التوفيق، بل عبر إعادة بناء مفهوم الحرية ذاته على أساس مزدوج: إيماني وإنساني، شرعي وعقلاني.

إنّ قوة هذا العمل تكمن في أنه يمزج بين الخطاب الفقهي والخطاب الفلسفي في تفاعل خلاق. فالغنوشي ينطلق من تجربة واقعية ــ تجربة الإسلاميين في السلطة والمعارضة، وتجربة الحركة الإسلامية في مواجهة الاستبداد ــ ليصل إلى بلورة مفاهيم دستورية حديثة مستمدة من النص الإسلامي ذاته. أما مارش، القادم من خلفية فلسفية غربية متشبعة بهابرماس وأرسطو ورولز، فيعمل على تفكيك المفاهيم واستنطاقها بلغة الأخلاق السياسية الحديثة.

وهكذا يتحول الحوار بين الرجلين إلى جدلية معرفية بين النص والوضع، بين التجربة والمرجعية، بين الإيمان والعقل.

من زاوية تحليل النصوص، يظهر أن الغنوشي لا يعيد إنتاج خطاب "الأسلمة" الكلاسيكي للحداثة، بل يسعى إلى تحرير الديمقراطية من مركزيتها الغربية عبر ردّها إلى جوهرها الإنساني: كرامة الإنسان، المشاركة، العدالة، والمساءلة. فحين يقول إن "الشورى هي روح الديمقراطية"، لا يقصد أن الإسلام سبق الغرب، بل أن الحرية أصل في الإنسان، وأن اختلاف الصياغة لا يعني اختلاف المقصد.

وهذا التحليل يكشف أن الغنوشي يتحرك ضمن نسق تأويلي مزدوج: نصي / تاريخي من جهة، ومقاصدي / كوني من جهة أخرى. بينما يقوم مارش بمهمة المقارنة النقدية التي تُظهر إمكان ترجمة القيم الإسلامية إلى لغة فلسفية معاصرة دون أن تفقد أصالتها.

أما من حيث المرجعية الفكرية، فإن الكتاب لا يمكن فهمه إلا في ضوء التحولات الكبرى في الفكر الإسلامي السياسي بعد الربيع العربي. فالغنوشي يكتب من موقع التجربة التي اصطدمت بحدود الدولة الحديثة، ويعي أن الديمقراطية ليست مجرد آليات انتخابية، بل ثقافة قيمية تحتاج إلى تأصيل روحي. ومارش بدوره لا يخفي إعجابه بقدرة الفكر الإسلامي على إنتاج مفاهيم أصيلة حول المجتمع المدني والدولة الأخلاقية، لكنه يظل متسائلًا عن قدرة هذه المفاهيم على الصمود في عالم يهيمن عليه منطق الدولة الوطنية الحديثة.

تفتح هذه القراءة آفاقًا نظرية جديدة لفهم العلاقة بين الدين والسياسة في المجال الإسلامي، إذ تقترح تجاوز نموذج "العَلمانية القسرية" كما تجاوز "الثيوقراطية المغلقة"، نحو ديمقراطية مؤمنة تُعيد الاعتبار للبعد القيمي دون الوقوع في التوظيف الأيديولوجي للدين.

وهنا تحديدًا تكمن القيمة الإضافية للكتاب: فهو يدعو إلى أخلاق سياسية جديدة تُزاوج بين الفاعلية الديمقراطية والمرجعية الإسلامية، بين الواجب والحق، بين الحاكمية والمواطنة.

في أفق البحث العلمي، يُقدّم هذا العمل أرضية خصبة لإعادة التفكير في علم السياسة المقارن من منظور غير غربي، كما يفتح الباب أمام دراسات جديدة حول إمكان “توطين الحداثة” في العالم الإسلامي على أسس مقاصدية. فهو يدعو ضمنيًا إلى مدرسة فكرية ثالثة، لا تكتفي بالجدل حول "تطبيق الشريعة" أو "فصل الدين عن الدولة"، بل تبحث في إعادة بناء الدولة ذاتها كفضاء أخلاقي للحرية والتكافل.

في النهاية، يعلّمنا هذا الكتاب أنّ الديمقراطية ليست نصًا جاهزًا يُستورد، ولا عقيدة تُفرض، بل هي سيرورة روحية وتاريخية تستلهم من كل ثقافة ما يُعيد للإنسان حريته وكرامته.
فالإسلام، في قراءة الغنوشي، ليس ضد الديمقراطية بل هو شرط إمكانها في المجتمعات التي ترى في الحرية وجهًا من وجوه العبودية لله. ومارش، وهو يحاور هذا المنطق من داخل فلسفة الحداثة، يثبت أن الحوار بين الحضارات ليس شعارًا أكاديميًا بل رهانًا وجوديًا على مستقبل الإنسان الحر.

هكذا يغدو كتاب "حول الديمقراطية المسلمة" أكثر من مجرد كتاب؛ إنه بيان حضاري في زمن الانكسار، ومحاولة فكرية جريئة لإعادة بناء الجسور بين القيم الكونية والخصوصيات الثقافية، بين النص والمجتمع، بين الفيلسوف والمجتهد. وهو بهذا المعنى مساهمة أصيلة في مشروع طويل المدى لتأسيس فكر إنساني كوني منفتح، تُسهم فيه المرجعية الإسلامية لا بوصفها بديلاً عن الغرب، بل شريكًا في صياغة أفقه الأخلاقي الجديد.
التعليقات (0)