مدونات

الحرب الهجينة الجديد والتحوّل الهادئ لطبيعة الصراع المعاصر

رميصاء عبد المهيمن
"حروب العصر الراهن لم تعد تُخاض على الأرض فحسب، بل في العقول وعلى الشاشات أيضا"- جيتي
"حروب العصر الراهن لم تعد تُخاض على الأرض فحسب، بل في العقول وعلى الشاشات أيضا"- جيتي
شارك الخبر
يشهد العالم اليوم مرحلةً انتقالية دقيقة لم تعد فيها الحروب مقتصرة على المواجهات العسكرية المباشرة أو الاشتباكات الحدودية التقليدية، بل تحوّلت إلى منظومة متكاملة من الأدوات المتشابكة التي تعتمدها الدول وفق سياقاتها السياسية والاجتماعية والأيديولوجية الخاصة، حيث تتداخل القوة الصلبة مع أدوات السرد الخطابي، والتكنولوجيا المتقدمة، والإعلام، والهوية، والنفوذ غير المباشر ضمن ما بات يُعرف بـ"كتيّب الحرب الهجينة الجديد". وفي هذا السياق، تشير التقديرات الاستراتيجية إلى أن أكثر من عشر دول باتت توظف هذا النموذج بدرجات متفاوتة في سياساتها الأمنية والخارجية، بحيث يُدار الصراع في آنٍ واحد على ميادين القتال، وفي المحافل الدبلوماسية، وفي تشكيل الرأي العام العالمي، عبر الإعلام التقليدي والمنصات الرقمية وشبكات التواصل الاجتماعي.

وتُعدّ الحرب على غزة مثالا صارخا على هذه الديناميكية المركبة، إذ لم يقتصر الصراع على البعد العسكري ضمن رقعة جغرافية محدودة، بل امتد ليشمل ضغوطا دبلوماسية، ونقاشات قانونية وأخلاقية، وتدفّقا هائلا للمحتوى الرقمي المرتبط بالأزمة الإنسانية،
يُدار الصراع في آنٍ واحد على ميادين القتال، وفي المحافل الدبلوماسية، وفي تشكيل الرأي العام العالمي، عبر الإعلام التقليدي والمنصات الرقمية وشبكات التواصل الاجتماعي
حيث أفادت تقارير صادرة عن الأمم المتحدة ومؤسسات دولية أخرى بأن المواد المتداولة رقميا حول هذا الصراع حققت مليارات الانطباعات، ما يؤكد أن حروب العصر الراهن لم تعد تُخاض على الأرض فحسب، بل في العقول وعلى الشاشات أيضا.

وفي جنوب آسيا، يوظف الخطاب القومي المرتبط بالأمن القومي في الهند عبر وسائل الإعلام المطبوعة والمرئية والرقمية بوصفه أداة لتعزيز التماسك الداخلي وإيصال رسائل إقليمية محسوبة، في حين تشير تحليلات صادرة عن مراكز أبحاث غربية إلى أن حرب المعلومات، وأنظمة المراقبة الرقمية، وإدارة السرديات القائمة على البيانات باتت مكونات ثابتة في البنية الهجينة لهذا النهج.

أما في الشرق الأوسط، فتبرز إيران كنموذج آخر للحرب الهجينة طويلة الأمد من خلال شبكات النفوذ غير المباشر، والتحالفات الإقليمية، والخطاب الأيديولوجي، وهو ما تصفه مؤسسة بروكينغز بأنه استراتيجية منخفضة الكلفة وعالية الاستمرارية.

وفي السياق ذاته، تعتمد تركيا مزيجا من التكنولوجيا العسكرية المتقدمة، ولا سيما الطائرات المسيّرة، إلى جانب الدبلوماسية النشطة والسرد الإعلامي، لتعزيز حضورها الإقليمي.

وفي قلب هذا المشهد المعقّد، برز الذكاء الاصطناعي بوصفه عنصرا صامتا لكنه بالغ التأثير في معادلات الصراع الحديثة، إذ تشير بيانات معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام إلى أن الاستثمارات العالمية في تطبيقات الذكاء الاصطناعي ذات الصلة بالأمن والدفاع تشهد نموا سنويا يتراوح بين 20 و25 في المئة، مع توسّع استخدام الخوارزميات، وتحليل البيانات الضخمة، وأنظمة المراقبة الذاتية، وإدارة الاتجاهات السردية عبر المنصات الرقمية.
في قلب هذا المشهد المعقّد، برز الذكاء الاصطناعي بوصفه عنصرا صامتا لكنه بالغ التأثير في معادلات الصراع الحديثة
كما تشكّل الحروب بالوكالة جزءا محوريا من هذا الكتيّب الهجين، حيث تتيح للدول تحقيق مكاسب استراتيجية دون الانخراط في مواجهة مباشرة، عبر فاعلين إقليميين أو أطراف غير دولية، ما يؤدي في كثير من الأحيان إلى تحويل الصراع من معركة قصيرة الأمد إلى حالة مزمنة من عدم الاستقرار.

وتلعب وسائل الإعلام بمختلف أشكالها دورا تكميليا في هذه المنظومة، إذ تتيح الصحافة المطبوعة الوصول إلى دوائر صنع القرار والنخب الفكرية، بينما تُحدث القنوات المرئية أثرا عاطفيا سريعا، وتعمل المنصات الرقمية وشبكات التواصل الاجتماعي على تشكيل الرأي العام بوتيرة متسارعة، لتمنح الحرب الهجينة ساحتها الكاملة. غير أن جوهر هذه الصورة لا يكمن في عدد الأدوات المستخدمة بقدر ما يتمثل في الغاية النهائية منها، إذ لم يعد الهدف تحقيق نصر سريع وحاسم، بل إعادة تشكيل البيئة الإدراكية ومسارات اتخاذ القرار على نحو يجعل الصراع حالة دائمة وغير مرئية في آنٍ واحد. وهنا تتحول الحرب الهجينة من مجرد استراتيجية أمنية إلى تحدٍ فكري وسياسي عميق يمس بنية النظام الدولي، ومفهوم السيادة، وآفاق الاستقرار الجماعي.

Rumaisa@byrumaisa.com
www.byrumaisa.com
التعليقات (0)

خبر عاجل