مقالات مختارة

أمريكا وأنظمة الاستبداد العربية: عَوْد على بدء

جيتي
حتى إشعار آخر، قريب ربما ويرتبط بموعد تنصيب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة، لم تتخذ الإدارة الأمريكية موقفاً من انهيار نظام «الحركة التصحيحية» يختلف جوهرياً عن الموقف الإجمالي الذي انتهجته دول مثل فرنسا أو ألمانيا أو بريطانيا؛ وطبع أيضاً نظرة الاتحاد الأوروبي، في المستوى الدبلوماسي على الأقل. تخفيف العقوبات بمعدلات نسبية كان مؤشراً أمريكياً ملموساً من إدارة الرئيس الحالي جو بايدن، اقتفت أثره وعود أوروبية يُنتظر أن تكون منطقها النسبي أوسع وأكثر ميلاً إلى أصعدة أخرى غير الملفات الإنسانية.

وقد يصحّ قبول الافتراض القائل بأن الفترة الانتقالية قبيل التسليم والتسلّم تضفي على مشهد المواقف الأمريكية طرازاً طبيعياً من التباطؤ والمقاربة التدريجية.

نطاق تاريخ المواقف الأمريكية من الأنظمة العربية الحديثة والمعاصرة، وهو الأكثر احتشاداً بالدلالات والقرائن، يفضي إلى خلاصات أخرى غير تلك التي تساجل بأنّ الإدارات الأمريكية سعيدة بما شهدته الشوارع العربية من انتفاضات؛ أو أنها حزينة إزاء الانتكاسات ومظاهر الثورة المضادة هنا وهناك ولا تتوانى عن مساعدة الشعوب في مشاريعها الديمقراطية، كما يسير الزعم الرسمي.

ومن حيث المبدأ، واتكاء على تجارب الشعوب مع الولايات المتحدة، خير للعون الأمريكي ألا يأتي أبداً، من أن يأتي منطوياً على أجندات لا تخدم، في المقام الأوّل، إلا المصالح الأمريكية؛ وتبدأ مفاعيله الأولى من خدمة الطاغية، وإسباغ صفة «وطنية» و«مقاوِمة» على موقفه إزاء أنساق التدخل الخارجي.

طريف أننا لم نعدم، ولا نعدم اليوم أيضاً، مَن فلسف تلك الانتفاضات على نحو تبسيطي، سطحي وتسطيحي تالياً، يجيّرها لصالح واحد من اثنين: إمّا (كما فعل وزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد) الرئيس الأسبق جورج بوش الابن، بسبب غزواته في أفغانستان والعراق، وما صنعته من فيروسات ديمقراطية انتقلت شرقاً وغرباً؛ أو (كما فعل آخرون كثر) أوباما نفسه، ويده التي امتدت وانفتحت وانبسطت في خطبة جامعة القاهرة. كان نادراً، في المقابل، وهو نادر اليوم أيضاً، أن يخرج من صفوف هؤلاء محلل واحد يرى أنّ بعض السبب في اندلاع تلك الانتفاضات كان السياسة الخارجية الأمريكية، على امتداد عقود طويلة في الواقع؛ سواء لجهة انحيازاتها العمياء إلى جانب إسرائيل، أو سكوتها عن سلطات الاستبداد والفساد ومساندتها مباشرة حين تقتضي الضرورة.

توجّب، والحال هذه، أن ينتظر العالم العربي المزيد من فصول «عصور الظلام» الأمريكية» تجاه قضايا التحرر والديمقراطية وحقوق الإنسان، وأن ينتظر في هذه الأيام أيضاً قياساً على ما يحدث في مصر وتونس واليمن وليبيا؛ على وتيرة تشبه كثيراً ما ناقشه كتاب «عصور الظلام في أمريكا: الطور الأخير من الإمبراطورية» الذي كان عمل موريس بيرمان الصاعق الثاني، بعد الأوّل الأشهر: «أفول الثقافة الأمريكية» الذي صدر سنة 2000، وأثار عواصف سجال لم تهدأ حتى اليوم. والرجل، استناداً إلى انتقال السياسة الخارجية الأمريكية من تخبط إلى آخر، رجّح انتقال الحضارة الأمريكية من طور الأفول إلى عصر الظلام الفعلي؛ فذكّرنا بأنّ حالاً مشابهة واجهت الإمبراطورية الرومانية، فصّل القول فيها المؤرّخ البريطاني شارلز فريمان في كتابه اللامع «انغلاق الذهن الغربي».

وفي فصل فريد، بعنوان «محور السخط: إيران، العراق، إسرائيل» دشّنه باقتباس شديد المغزى من السناتور والمؤرّخ الروماني الشهير كورنيليوس تاسيتوس: «يخلقون الأرض اليباب ويطلقون عليها تسمية السلام» ساجل بيرمان بأنّ زلزال 11/9 كان نتيجة حتمية للسياسات الأمريكية في الشرق الأوسط، خصوصاً في فلسطين والعراق وإيران. منابع السخط هذه تشمل الانقلاب الأمريكي في إيران (الذي عُرف باسم «عملية أجاكس» وأسقط رئيس الوزراء الشرعي محمد مصدّق سنة 1953)؛ والتدخّل الأمريكي في شؤون العراق منذ الستينيات وحتى التعاون العسكري والأمني مع نظام صدّام حسين في أثناء الحرب العراقية الإيرانية؛ وبينهما، وقبلهما وبالتزامن معهما، الانحياز الأمريكي المطلق لدولة الاحتلال الإسرائيلي.

ولم يوفّر بيرمان تمثيلاً طريفاً لحال التعامي الأمريكي، الرسمي والشعبي على حدّ سواء، إزاء السخط المتعاظم ضدّ السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط: أشبه برجل مصاب بصداع مزمن، ولكنه يؤمن أنّ العلاج الوحيد هو الاستمرار في ضرب رأسه بمطرقة! وفي فصل آخر بالغ العمق، عنوانه «الإمبراطورية تتداعى» ناقش بيرمان مدرسة التفكير التي تقول بأنّ حلّ معضلات أمريكا لا يأتي إلا من داخل أمريكا، على غرار «نظرية البندول» وتوفّر حلقات تصحيح ذاتي على امتداد التاريخ الأمريكي؛ وأنّ إيقاع هذا التاريخ هو الفعل/ ردّ الفعل والمقولة/ المقولة المضادّة. لكنّ الحال، خصوصاً في رئاستَيْ بوش الابن، بلغت ذروة غير مسبوقة في استجلاب ردود الأفعال المتعددة، المتغايرة وغير المتناسبة دائماً مع الفعل الواحد.

إنها قوّة عظمى كانت تسير حثيثاً نحو الهاوية بسبب من عجوزات في التجارة لا يمكن ضبطها، وميزانيات مدينة على نحو خرافي لا سابقة له، وعملة آخذة في الانهيار دولياً، و«هوية سلبية» تتغذى على الحرب ضدّ الأمم الضعيفة، وثقافة شبه بلهاء تعيش على التلفزة والإعلام الضحل، والتعليم الفاشل أو التبسيطي في المدارس والجامعات، وجنون الاستهلاك، والصحافة الأسيرة، والحقوق المدنية الضائعة، واللوبيات التي تسيّر الكونغرس، ووزارة العدل التي تعيد كتابة القوانين الدستورية على هواها… يكتب بيرمان: «نحن مجتمع قدره محتوم لأنّ الجمهور ذاته لم يعد ناشطاً أو واعياً، وهو لا يكفّ عن إعادة انتخاب الأناس أنفسهم الذين يتولّون نسف الحرّيات».

«نحن في طور من التقلّب وانعدام الثبات، غير مسبوق» يقول دافيد غوردون أحد مؤلفي تقرير أمريكي حكومي رسمي عن أحوال العالم، أعدّه «مجلس الاستخبارات القومي» الجهة المعنية بوضع صانعي السياسات في صورة الأخطار التي تنتظر قراراتهم. أهمّ ما في ذلك التقرير أنّ توازن القوّة القادم في ميدان الاقتصاد سوف ينتقل إلى آسيا (الصين والهند خصوصاً)؛ وصحيح أنّ أمريكا سوف تظلّ القوّة الكونية الأعظم، إلا أنّ «موقع القوّة النسبي الذي تتحلّى به سوف يتآكل أكثر فأكثر» حسب التقرير.

والعالم هذا سوف يتعرّض للكثير من الأخطار الأمنية، لأنّ ارتباط البشر عبر الإنترنت وشبكات العولمة سوف يخلق «جماعات افتراضية» تفرز مختلف الأشكال الجديدة الصانعة لسياسة الهويات، فتزيد من تعقيدات قدرة الدول على الحكم، وإمكانية المنظمات الدولية في التدخّل. وبالطبع، لم يهمل التقريرُ التأكيدَ على العامل الأهمّ ربما: «الإسلام السياسي، بصفة خاصة، سوف يكون له تأثير كوني ملموس (…) وسيلمّ شمل المجموعات الإثنية والقومية المتباعدة، ولعله سوف يخلق سلطة تتجاوز الحدود القومية». وبمعزل عن الحديث الغائم حول «الجماعات الافتراضية» رغم أنها ليست مواقع الإنترنت الاجتماعية التي لعبت دوراً محورياً في حشد متظاهري الانتفاضات العربية؛ لم يتضح أنّ مؤلّفي التقرير كانوا ينتظرون معجزة في تونس، أو في مصر، أو في ليبيا، أو في سوريا…

ذلك لأنهم، في المقابل، كانوا يعتبرون نظام حسني مبارك صمّام أمان استراتيجي، يحفظ الركيزة الأولى للسياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط: السلام مع إسرائيل. وكانوا، وما يزالون، يعتبرون أنظمة الخليج محور الركيزة الثانية: توفير النفط والغاز والطاقة الرخيصة، فضلاً عن احتضان القواعد العسكرية. وأمّا نظام القذافي، أسوة بأشقائه طغاة العرب، فهو خير مساعد في الركيزة الثالثة، أو ما تطلق عليه الإدارة الأمريكية تسمية «الحرب على الإرهاب»: إذا عزّت السجون غير الشرعية على أرض أمريكا، أو ضاق معتقل غوانتانامو، فلنا في أمثال القذافي والأسد خير معين، وخير سجّان!

القدس العربي