ما لم يقدر على تحقيقه نتنياهو بقوة السلاح في حرب شعواء امتدت سنة ونصف يريد
ترامب إنجازه بسرعة البرق عبر التهديد والبلطجة، مستغلا هشاشة الوضع العربي وخنوع أنظمته المستبدة والفاسدة.
ترامب صرح في حديث للصحفيين على متن طائرة الرئاسة الأميركية إي. فورس وان: "قلت له (العاهل الأردني) أود أن تستقبل المزيد (من سكان
غزة).. أود أن تستقبل مصر أيضاً أشخاصاً.. نتحدث عن مليون ونصف مليون شخص تقريباً، وسنقوم فقط بتنظيف كل هذا المكان”.
واضح أن قرار وقف إطلاق النار في مخططات ترامب الخفية لم يكن غير جسر عبور باتجاه تهجير سكان غزة وتحويلها إلى منتجع سياحي فاخر على ضفاف المتوسط، يتقاسم أرباحه مع قطعان المستوطنين المتطرفين المنحدرين من كل أصقاع المعمورة. وهذا يتطابق مع ما سبق وأن صرح به صهره جاريد كوشنير في فبراير 2024 بأن "ممتلكات الواجهة البحرية في غزة يمكن أن تكون ذات قيمة كبيرة".
حلم بات أقرب للمنال اليوم بعدما تفضل نتنياهو بإتمام نصف المهمة عبر نسف جل معمار غزة، ببيوتها ومستشفياتها ومدارسها وجامعاتها وجوامعها وكنائسها وكل مقومات الحياة فيها. صارت عزة إذن عقارا بكرا جاهزا للاستثمار والبيع والشراء. عقار مهجور بلا ملاك ولا حجج ملكية. أرض بلا شعب لعصابة من اللصوص يسيل لعابها للاستحواذ عليها، كما استولوا على ما قبلها في يافا وحيفا وعكا.. عقار ثمين على شاطئ البحر، بلا أصحاب ولا أسماء ولا عناوين ولا ماض ولا ذاكرة ولا تاريخ ولا معالم ولا هوية.
ذهب في خلد بعضهم أن ضغط ترامب لإنهاء القتال، إيفاء بوعد قطعه لبعض ناخبيه العرب بوقف الحروب في الشرق الأوسط. لكن ما غدا جليا هو أن ما يريده هو الانتقال من حرب ساخنة تكلف مليارات الدولارات لإشعال نيران قنابلها وذخائرها، إلى أخرى وقودها البلطجة والابتزاز السياسي. بدل الإنفاق على الحروب، تُضخ المداخيل لخزينة أمريكا، ضمن رؤية ترامب للشرق الأوسط على أنه لقمة سائغة وغنيمة حرب جاهزة. لا عجب إذن أن استهلّ عهدته الجديدة في البيت الأبيض بشفط 600 مليار دولار من السعودية، ما فتئ أن رفعها باستخفاف إلى ترليون دولار. ولا تبتعد غزة عن الخطوط العامة لنظرته الغنائمية الجشعة هذه. الشرق الأوسط ليس إلا بترولا وغازا ودولارات وعقارا ينتظر من يسرع ليلهفه قبل غيره.
ما لا يدركه المتحيل ترامب هو أن الغزي من طينة غير الطينة التي عهدها من الحكام العرب الذين يلقي عليهم أوامره بازدراء على الهاتف، وهم يرتجفون مرتعدي الأوصال يرددون بلسان وجل: "السمع والطاعة يا مولاي!"
ما يغري ترامب هو أنه إزاء منطقة بالغة الثراء من ناحية الموارد والموقع الاستراتيجي الحيوي، وبالغة الوهن والتفكك السياسي زادتها الدكتاتورية خواء وخورا. قد يطمع ترامب في موارد روسيا وأراضي الصين، لكنها بعيدة المنال، دونها قتال ودماء وجيوش جرارة. أما أرض العرب فمستباحة، سهلة هينة، لا يحتاج إلا أن يمد يده ليغرف منها ما شاء وكيفما شاء.
ما لا يدركه المتحيل ترامب هو أن الغزي من طينة غير الطينة التي عهدها من الحكام العرب الذين يلقي عليهم أوامره بازدراء على الهاتف، وهم يرتجفون مرتعدي الأوصال يرددون بلسان وجل: "السمع والطاعة يا مولاي!"..
الغزيون ليسوا من صنف السيسي ولا عبدالله ولا ابن زايد، محض بيادق تحركها أصابع على لوح شطرنج.
الغزيون بقوا منغرسين في أرضهم رغم الحمم تُصب على رؤوسهم صبا تترى على مدار 15 شهرا، 50 ألف طن من المتفجرات، أضعاف القنبلة النووية التي ألقيت على هيروشيما وناغازاكي مجتمعتين، في شريط ضيق لا يتجاوز 360 كم مربع هو الأكثر كثافة سكانية في العالم. قاتل الغزي الغزاة فوق الأرض وتحتها، في تلاحم أسطوري بين الشعب ومقاومته، حتى فرض عليهم الإذعان لشروطه وإبرام صفقة تبادل.
ما لم ينتزعه نتنياهو بالقنابل لن يفتكه ترامب بأوامره ونواهيه.
"كلا" التي لم يسمعها يوما من وكلائه المحليين في قصورهم المنيفة ستدوي في أسماعه هادرة بلسان واحد من أهل القطاع الصامدين: "لا تفريط في شبر واحد من أرضنا التي عمدتها دماء الشهداء الطاهرة وسقتها دموع الثكالى واليتامى!".
الغزاويون لن يكونوا هنود حمر الشرق الأوسط.
لن تتكرر فصول نكبة 48، التي حفرت في ذاكرة أجيال
الفلسطينيين المتعاقبة، أجيال خبرت مدونة سلوك جيش الاحتلال المتناسل من عصابات الهاغاناه، وعايشت لعبة الأمم ومؤامراتها وخدائعها لاقتلاع أصحاب الأرض، لتتقاذفهم رياح الشتات. خبر الفلسطيني مرارة
التهجير وبؤس المخيمات وما عاد يجدي معه ترغيب ولا ترهيب. يعدهم ترامب بما وُعد أجدادهم، بأن خروجهم مؤقت عابر.. قبل أن يجتاح بيوتهم قطعان المجتلبين من روسيا وأوكرانيا وألمانيا وبولونيا وخليط الأوروبيين الذين لا تربطهم بالأرض، حجرها وشجرها، صلة ولا رابطة.
سيسفه الغزيون الأساطير المعششة في رؤوس الإنجيليين المتطرفين حول حق توراتي مزعوم عمره 3 آلاف عام، ويثبتون بصمودهم أنهم أصحاب الأرض الأصليون وحراسها المخلصون، الأمناء على ماضيها وحاضرها ومستقبلها.
كما جاء بايدن، الذي لم ينفك يؤكد صدق صهيونته بمناسبة وبغير مناسبة، واندحر يجر أذيال الخزي والعار، سيرحل من بعده السمسار الأكبر، ويبقى الغزي منغرسا في أديم أرضه شامخا يعانق عنان السماء.