قضايا وآراء

التهجير.. الهذيان والمراهقة السياسية

"اتسمت قرارات وأمنيات ترامب وحليفه نتنياهو بكثير من الإدهاش والغرابة والجرأة"- الأناضول
بدا دونالد ترامب في المؤتمر الصحفي مع نتنياهو متجهما مرتبكا، بينما ظهر نتنياهو مبتسما واثقا؛ وهو ما يشير إلى أن نتنياهو استطاع أن يحصل على وعود لم يكن يحلم بها في عهد بايدن. فعلى ما يبدو فإن نتنياهو أخذ ترامب إلى مربع الأطماع الصهيونية، ونجح في التأثير عليه، فقد كان جاهزا لتقديم الكثير لنتنياهو، ويبدو لي أن نتنياهو كان قادرا على اللعب بعقل ترامب وجره حيث مصالح الكيان، لا مصالح الولايات المتحدة.

وقد اتسمت قرارات وأمنيات ترامب وحليفه نتنياهو بكثير من الإدهاش والغرابة والجرأة، بل الوقاحة في أعلى مستوياتها؛ فقد بدا أن ترامب يأخذ قراراته نيابة عن الأمم المتحدة والعالم، وعن الشعب العربي والفلسطيني، وكأنه رب هذا الكوكب، يديره كيف يشاء، فها هو يتحدث عن امتلاك قطاع غزة باعتباره مزرعة ورثها عن أبيه! ثم يدعو إلى ضرورة أن يستولي الكيان على أجزاء من الضفة، بدعوى أن إسرائيل بلد صغير، ويجب أن يتغير هذا الوضع وتتسع رقعته بما يتناسب وحاجاته..!

يعتقد ترامب أو يتصور أن على العالم كله أن يخضع لرؤاه، وأن كلمته يجب أن تسمع وأن تعليماته وقراراته الهوجاء يجب أن تنفذ، ثم يحس بأنه أساء التقدير فيتراجع جزئيا أو كليا؛ مبررا ذلك بأسباب مضحكة

لكن من الذي فوّض ترامب للتصرف نيابة عن 7 مليارات إنسان في هذا الكوكب، يقص ويخيط كما يشاء؟ وهل هو قادر على تنفيذ وعوده وأضغاث أحلامه، بدون أن يجد مواجهات دولية وعربية وفلسطينية لقراراته التي لن يستطيع تنفيذها وسيبدأ بالتراجع عنها، كما فعل بعد رفض مصر والأردن استقبال المهجرين المفترضين من قطاع غزة، ومن الضفة الغربية التي لم يسمها صراحة، بل أوحى بذلك في سقطات لسانه؛ فادعى موافقة دول أخرى على استقبالهم، وهو تراجع سريع عن مخططاته الهوجاء، كذلك فقد صرح بعد ذلك بالقول: "لست مستعجلا"، وهو ما يؤشر على معرفته بصعوبة تحقق ما يفكر به.

ففي حين قرر ابتداء أن يرحل فلسطينيي غزة إلى الأردن ومصر، وفيما يبدو كان ثمة رفض أردني مصري في العلن على الأقل، فقد تنازل ترامب مباشرة عن فكرة الترحيل للأردن ومصر، قائلا إنه يمكن ترحيلهم إلى دول أخرى رحبت باستقبالهم، ولا أدري إن كانت تلك حقيقة أم أكذوبة من أكاذيبه التي تنتظم أداءه المرتبك منذ اللحظة الأولى لتقلده منصب الرئاسة، بل منذ فوزه قبيل التنصيب..

يعتقد ترامب أو يتصور أن على العالم كله أن يخضع لرؤاه، وأن كلمته يجب أن تسمع وأن تعليماته وقراراته الهوجاء يجب أن تنفذ، ثم يحس بأنه أساء التقدير فيتراجع جزئيا أو كليا؛ مبررا ذلك بأسباب مضحكة كما حدث في ولايته الأولى حول صفقة القرن..

إن المدعو ترامب الذي لا يخيفنا كما يخيف حكامنا، يردد أسطورة كوشنر زوج ابنته، الذي كان تحدث عام 2022 عن الموارد الطبيعية في قطاع غزة ومياهه الإقليمية، وهو بذلك يفضح مخططاته وأطماعه ليس في غزة وحسب، بل يطالب بضم كندا إلى الولايات المتحدة لتصبح الولاية الواحدة والخمسين، وبناء جدار بين الولايات المتحدة والمكسيك، وقد كان رد رئيسة المكسيك كلوديا شينباوم صادما ومزلزلا على مخططات ترامب. وفي تصريحات صادمة أخرى قال بأن بلاده تحتاج جزيرة جرينلاند من أجل الأمن القومي، ثم تحدث عن مدّ سيطرته على قناة بنما.. وقام بتغيير اسم "خليج المكسيك" إلى "الخليج الأمريكي"، وإن دلت تصرفات ترامب وقرارته على شيء؛ فإنما تدل على توحش إمبريالي فج، يعود بثوب الحرب العالمية الثانية، ورائحة هيروشيما وناجازاكي..

هذه التصريحات التي بدت كأنها تصدر عن فرعون عالمي جديد، غير قابلة مطلقا للتنفيذ، وستصبح أضحوكة تاريخية، يتندر بها العالم عبر الأجيال؛ فحتى لو فعل ما يخطط له بالقوة العسكرية، وهو أمر مستبعد، فإنه لن يستطيع البقاء آمنا في أية بقعة يستولي عليها، فالعالم تغير، والوعي بالدور الأمريكي الشرير بات واضحا للعميان، وخصوصا بعد العدوان على قطاع غزة..

الشعب الفلسطيني شعب عصي على الاستسلام؛ فإما النصر وإما الشهادة، ولن يستطيع ترامب ولا غيره اللعب بإرادته وصموده الذي غير وجه التاريخ، ووضع القضية الفلسطينية على رأس اهتمامات العالم شعوبا وحكومات؛ فما يفكر فيه ترامب وصديقه المدلل نتنياهو ليس أكثر من وهم

إن حلم ترامب بإنهاء الصراع في الشرق الأوسط بدون أي اعتبار للعرب أو الفلسطينيين، لن يتم مطلقا إلا في حال تم القضاء على من تبقى من فلسطينيين في غزة والضفة الغربية.. إنها محاولات هشة فاشلة لعقد صفقات بين الكيان المحتل والولايات المتحدة وأطراف عربية يعوزها العقل والحكمة، لا الهلوسة وأحلام الأضغاث، ويجدر بترامب أن يفهم بأن الفلسطينيين ليسوا الهنود الحمر، ولن يكونوا..

ومن المثير للضحك أن يدعي ترامب بأنه ظل لشهرين يدرس خطة تهجير الفلسطينيين، وواضح أنه مدلس محترف، فمن ظل شهرين يدرس خطة التهجير، لا يقول مرة "يخرجون لإعادة التعمير ثم يعودون"، ومرة يقول: "يخرجون ولا يعودون"، فهذا التخبط يؤشر على خفة ورعونة، وعدم تخطيط، ثم يؤشر على استهانة كبيرة بالعرب والفلسطينيين، وعلى دوغماتية مقيتة..!

إن ثمة احتمالين لتصريحات ترامب، الاحتمال الأول: أن تصريحاته مجرد خيالات وألاعيب تطغى عليها المراهقة السياسية وقلة الخبرة، والثاني: أنها أطروحات مقصودة من شأنها أن تخلق واقعا وهميا، يجعل هذه الأحلام قابلة للمناقشة والمداولة، بهدف التأثير على الوعي، ووضع الفلسطينيين في موضع المدافع، بدلا من المبادر العنيد، بناء على نظرية سياسية تسمى "نظرية الدخان والمرايا" (Smoke and Mirrors) التي تهدف إلى تشتيت الانتباه عن الحقائق على الأرض، ومحاولة تحويل الوهم إلى حقيقة في أذهان البشر، بحيث يتم تداولها كأمر قابل للتنفيذ..

وفي المجمل، فإن فكرة ترامب غير قابلة للتنفيذ، وهي أقرب إلى المستحيل منها إلى الممكن، حتى إن صحفا عبرية عدت أفكار ترامب بشأن غزة غباءً وهذياناً، وبلا معنى، ووصفوها بالهراء. وبناء على ذلك فالمطلوب عدم التركيز على هذه القضية وترك الحديث عنها، إلا من باب التندر والسخرية، لا أكثر ولا أقل..

وبقي أن نقول بأن الشعب الفلسطيني شعب عصي على الاستسلام؛ فإما النصر وإما الشهادة، ولن يستطيع ترامب ولا غيره اللعب بإرادته وصموده الذي غير وجه التاريخ، ووضع القضية الفلسطينية على رأس اهتمامات العالم شعوبا وحكومات؛ فما يفكر فيه ترامب وصديقه المدلل نتنياهو ليس أكثر من وهم غير قابل للتنفيذ اليوم وغدا وبعد غد..