أفكَار

من معاني جامع الجزائر.. صمود الأمة بثوابتها المقدسة في الماضي والحاضر

تبقى العربية المحفوظة من خالقها بالذكر في كل البلاد الإسلامية مع الإسلام الحضاري بمنزلة القطبين (السالب والموجب) في الطاقة الكهربائية.
في مثل هذا اليوم من السنة الماضية، تم في الجزائر تدشين أكبر معلم حضاري في ساحة الأمة الإسلامية، يتميز بخصائص فريدة من نوعها تأتي على رأسها منارته التي تناطح السحاب في السماء، بكل عزة وكبرياء على ارتفاع  يبلغ 265 مترا، وهي بذلك تعد أطول أو أعلى مئذنة في العالم حتى الآن. تضم في طوابقها الثلاثة والأربعين التي تتراوح مساحة كل طابق منها ما بين (400 ـ 600) متر مربع، تضم مطعما مطلا على مناظر مختلفة من العاصمة، وفوقه متحف الحضارة الإسلامية ومركز للأبحاث، وعدة  مرافق حيوية مشهدية بديعة تسر الناظرين، وتثلج صدور كل المؤمنين. 

يقع جامع الجزائر الأعظم بكل مرافقه المتنوعة المتكاملة التي تتطلبها كل مناحي الحياة العصرية التعبدية والتكوينية العلمية لأكثر من ثلاثة عشر تخصصا في الدراسات العليا، التي لها علاقة بالإنسان في كل أبعاده المادية والروحية، ومكتبة رقمية على أحدث النظم العصرية تسع مليون كتاب في مختلف التخصصات العلمية. يتربع الجامع  على مساحة إجمالية تفوق 30 هكتارا.

إنه عاصمة صغرى في عاصمة كبرى، يتوسطها المسجد الذي يعد تحفة معمارية نادرة المثال، وهو من حيث سعة استيعاب المصلين، يعد الثالث من نوعه بعد الحرمين الشريفين في مكة والمدينة المنورة. إنه باختصار، مفخرة الأمة بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى، كما عبر عنه مئات كبار الزوار من الشخصيات العالمية (العلمية والسياسية والديبلوماسية والإعلامية) في سجله الذهبي، ويعبر عنه كذلك بكل رمزية ذلك الرقم القياسي لعدد الشهداء في سبيل الدين والوطن وكسر قيود العبودية لغير الله، الذي أصبح علما في التاريخ  المعاصر على اسم هذا البلد العربي المسلم الأصيل، الذي أنجز هذا المعلم الحضاري المرموق بين حواضر الأمة الإسلامية، في جل القارات المعمورة فوق الكرة الأرضية.



وإن الذي يهم التركيز على ذكره هنا، هو أن هذا البلد المسلم الكيان والوجدان العربي اللسان والبيان  سيظل كذلك، بإذن الله، وإرادة كل المخلصين من أبنائه العاملين المخلصين المتوارثين لراية الجهاد، المتواصل خلفا عن سلف ضد مخلفات الاحتلال السابق ومناورات الاستحلال اللاحق، الذي يعد أخطر من الاحتلال التقليدي ذاته في بعض المجالات، التي تتطلب رجالات ومواهب وإمكانات في مستوى التحديات، التي تظهر في كل مرحلة من مراحل الحياة، وقد تختلف في وسائل الكفاح ونوعية الرجال والسلاح، حسب مستجدات كل حالة بين الاحتلال والاستقلال الذي لم يأت بيسر ولا من فراغ بكل تأكيد، وإنما سبقته أعمال رجال وأجيال متعاقبة في الزمان والمكان.

وإن هذا الوطن (القارة) الذي أراد الغازي الفرنسي أن يفصله عن كيان أمته ويلحقه بكيانه، ليكرر تجربة الأندلس ومأساتها في الأمة المحمدية، كما تمثل ذلك في تنظيمه احتفالا كبيرا في الجزائر العاصمة، بمناسبة الذكرى المئوية الأولى لفصل العضو الأصيل عن جسم الأمة التي كتب لها الخلود برسالتها في الوجود، رغم الأقوام الوافدين عليها من مختلف الأصول البشرية والديانات السماوية والوضعية غزاة وفاتحين مستقرين وعابرين.

ولأهمية  ذلك الحدث التاريخي في نظرهم، حضر رئيس دولة الاحتلال ذاته من فرنسا الأم (كما كانت تسمى!؟)، ليشرف بنفسه على ذلك الاحتفال الشهير الذي حمل فيه المستوطنون الغزاة نعشا يرمز إلى موت الإسلام ولغة القرآن في (الجزائر الفرنسية)، حسب مخططهم الاستئصالي الشنيع، منطلقين من مسجد كتشاوة الذي كان قد حول قبل قرن من ذلك التاريخ إلى كاتدرائية لأهل الصليب، في يوم حزين عصيب طلب فيه القائد العسكري من الخطيب أن يخبر المصلين (من على منبره في آخر كلمة يقولها في حياته قبل عزله وفصله)، بأنه ابتداء من ذلك اليوم لن يعبد إله في هذا المكان غير المسيح!!؟؟ وأنزل الهلال من على السارية ورفع الصليب فوق المئذنة العالية!!

فقام الإمام الجليل المجاهد محمد بن لكبابطي متوجها إلى المصلين بقوله: (أيها الإخوة المؤمنون... ولئن تغيرت عبادة الله في مساجدنا، فإن الله لن يتغير في قلوبنا). وقد زجر ونفي من وطنه ليلقى ربه في مدينة الإسكندرية بأرض الكنانة، رحمه الله في الخالدين السابقين واللاحقين.

وقد أعقبت ذلك القول المأثور في اليوم المشهود مجزرة رهيبة، ذهب ضحيتها الآلاف من المسلمين في ساحة الشهداء الحالية بالعاصمة، تخليدا لتلك الذكرى الأليمة التي لم يمحها الزمان من القلوب والآذهان حتى الآن وإلى آخر الزمان.

ونظرا لأن الله لم يتغير في قلوب أبناء هذا الوطن المسلم الصادق الإيمان، الذي لا يتردد أبناؤه الأصلاء في قول الحق أمام حبال المشانق وفوهات البنادق، فلم تمض على ذلك الحدث المشؤوم سوى عشرة أشهر حتى صدح الإمام العتيد الوارث الجديد للرسالة الأبدية للأمة المحمدية في هذا البلد المجاهد الصامد، بقوله المدوي كالزلزال في وجه قادة الاحتلال:

شعب الجزائـر مسلــم                 وإلـى العروبـة ينتسب
من قال حاد عن أصلـه               أو قال مـات فقد كذب
أو رام إدمــاجـــا لـــه                 رام المحـال من الطلــب

هذا القول الذي ظل يمثل خارطة الطريق للحركة الوطنية حتى تفجير ثورة التحرير الكبرى في الفاتح من نوفمبر (تشرين الثاني) سنة 1954 كما هو معلوم، التي أتت هي الأخرى برئيس الجمهورية الفرنسية الخامسة الجنرال شارل دوغول، تيمنا وأملا في إنقاذ فرنسا من جهاد الجزائر مثلما أنقذها من الاحتلال الألماني في الحرب العالمية الثانية سنة 1944.

ومن أخطر مناورات هذا الجنرال المعروفة والمكشوفة، رفعه لشعار (الجزائر الجزائرية) بدل (الجزائر الفرنسية)، بعد أن يئس من فرنسة الجزائر وتنصيرها على نهج أجداده الأولين، كما يئس الكفار من أصحاب القبور.

علما أنه مثلما لا يوجد (فرنسا الفرنسية) ولا (ألمانيا الألمانية)، فلا يوجد كذلك (الجزائر الجزائرية) الخرساء الصماء، دون نطق وانتماء إلى أمة حية مرتبطة بوحي السماء!! فشعب الجزائر مسلم فعلا (باعتراف المحتل ذاته)، ولكنه إلى العروبة ينتسب وليس إلى فرنسا أو أوروبا ينتسب، بدينه ولسان ثقافته الجامعة المانعة لغالبية أفراد شعبه المسلم الموحد الوجدان، بالقرآن روحا ولسانا، بلادا وعبادا، جهادا واستشهادا!! وإن الانتماء أو الانتساب العربي هنا أساسه اللغة المتبناة للدولة السيدة والشعب الناطق بها، في الفكر والشعور والوجدان والمعبر عن سيادته الفعلية بها في الدستور والميدان، عبر الإدارة الوطنية والمؤسسات العلمية والمدرسية ككل البلاد العربية الخارجة عن التبعية للهيمنة  الأجنبية.

 واللغة كعنوان للسيادة ومرآة للسياسة، هي التي تعطي اسم الشعب واسم الدولة كقاعدة وليس كاستثناء.
وذلك شأن كل عصور الحضارة الإسلامية الموحدة الوجدان بالايمان والناطقة بلسان القرآن على امتدادها عبر القرون، التي شيدها العلماء المسلمون كلهم من جميع أقطار الأمة  (بلسان عربي مبين في كل البلدان حتى سقوط الخلافة على يد أحد أكبر المفسدين المندسين في صفوف حكام المسلمين إلى حين).

وشأن الجزائر وكل بلاد المغرب العربي في ذلك، شأن نصف مليار مسلم ناطق بالعربية من خليج عمان إلى المحيط الأطلسي ونهر السنغال.

وأقول من هذا المنطلق الوحدوي للأمة الواحدة؛ "إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ" أن ما يميز الفرد الجزائري المسلم عن الغازي الفرنسي المسيحي في الجزائر، التي أرادها المحتل الفرنسي أن تكون فرنسية، ولن تكون كذلك حتى يتكاَمل فيها تغيير اللسان مع تغيير دين التوحيد بدين الصلبان، ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، فيقيض للأمة المجاهدة من أبنائها الأصلاء الذين لم يتغير الله في قلوبهم، كما أوصاهم إمامهم المجاهد محمد بلكبابطي في ذلك اليوم المشهود، الذي حول فيه مسجد كشاوة إلى كاتدرائية لعاصمة الجزائر "الفرنسية" قبل ذلك الحدث الشنيع بمئة عام.


الشيخ محمد مأمون القاسمي الحسيني عميد الجامع الأعظم مع الكاتب أحمد بن نعمان

وظلت فرنسا اللائكية طوال وجودها العسكري والإداري المباشر في الجزائر، تقبل من الجزائري أن يكون (فرنسيا مسلما)، بعد أن فشلت في تنصيره، ولكن ما ظلت ترفضه بإصرار وما تزال تحاربه حتى الآن بكل تعصب وعنصرية، هو صفة الانتماء العربي الإسلامي للجزائر الذي تريد التحايل عليه وتجاوزه كما قلنا بمغالطة (الجزائر الجزائرية)، حتى بعد  توقيف القتال وتقرير المصير على هذا الأساس الهوياتي، كما هو واقع الحال، وذلك لتفادي الصفة العربية التي هي أساس قيام جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ذاتها، بعد حادثة ادعاء فرنسا لموت الإسلام والعربية في الجزائر سنة 1930 كما أسلفنا، وقيام ثورة التحرير المجيدة على هذا الأساس، كما جاء حرفيا في بيان تفجيرها بالنسبة للأهداف المسطرة لها، فيما يتعلق باسترجاع السيادة والهوية الوطنية بثوابتها الجوهرية المقدسة، وهي:

أولا ـ "إقامة الدولة الجزائرية الديمقراطية الاجتماعية ذات السيادة في إطار المبادئ الإسلامية".


ثانيا ـ "تحقيق وحدة شمال أفريقيا في إطارها الطبيعي العربي الإسلامي". وهنا الإعلان الصريح عن الانتماء الطبيعي والهوية الوطنية ذات الأصل الثقافي (العربي اللسان المسلم الوجدان)، وليس العرقي الذي ينفيه البيان في بند ثالث يقول: "احترام جميع الحريات الأساسية دون تمييز عرقي أو ديني".

ونلاحظ عدم وجود كلمة "لغوي" في البند، وهو ما يعني صراحة أن البيان الوحدوي السيادي يقر حرية الاعتقاد (لا أكراه في الدين)، ولكنه يرفض التعدد اللغوي؛ لأنه الفيصل القاطع في السيادة، وإن التلاعب فيه أو التلاعب به يؤدي حتما إلى ما لا يقبل التعدد على الإطلاق، ألا وهو الهوية الوطنية لوحدة الشعب والوطن؛ لأن الإنسان يمكن أن يكون عربيا مسيحيا أو مسلما فرنسيا، ولكنه لا يمكن أن يكون (مسلما مسيحيا أو عربيا فرنسيا) في الوقت ذاته من ناحية الانتماء أو الانتساب، كما يسميه الإمام ابن باديس في خريطة طريق التحرير والاستقلال السالف الذكر، وهذا هو معنى كلامه الصريح الفصيح، الذي يوضحه البيان الخالد الذي يطلب من فرنسا في بند خاص رابعا: "الاعتراف بالجنسية الجزائرية بطريقة علنية ورسمية، ملغية بذلك كل القرارات والقوانين التي تجعل من الجزائر أرضا فرنسية التاريخ والجغرافيا واللغة والدين والعادات للشعب الجزائري".

ونعتقد أن هذا الرفض القاطع للجنسية الفرنسية وهويتها اللغوية والدينية والثقافية من قادة الثورة، وعلى رأسهم مخها المفكر وحكيمها المدبر محمد العربي بن مهيدي، تلميذ مدرسة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، يدل دلالة قاطعة على أن للجزائر هوية وطنية وشخصية متميزة تتكامل فيها كل المقومات التاريخية والجغرافية واللغوية والثقافية التي تجعلها غير فرنسية، ومن ثمة تطالب بالحرية والاستقلال المشروع، خلافا لسكانها على أرضها كمرسيليا وتولوز وبوردو، الذين لم يطالب أي واحد منهم بالاستقلال عن باريس، ولن يطالبوا بذلك أبدا لاتفاق الجنسية مع مقومات الهوية في فرنسا بخلاف الجزائر، التي كانت تعد في الأوراق الرسمية فرنسية، ولكنها في الواقع ظلت تعد نفسها مسلمة عربية (وليست مسلمة فرنسية)، كما كان يعدها المحتل في الأوراق الرسمية والخرائط، المدرسية.

وعلى هذا الأساس، قامت ثورة الشعب الجزائري على الاحتلال الذي عمل طوال وجوده في البلاد على استبدال (الجزائر الفرنسية) بالجزائر المسلمة العربية، فباءت كل مساعيه بالفشل الذريع، ويكفي دليلا على ذلك أن المكان الذي خطط له تحت قيادة (الكاردينال لافيجري) كي يكون منطلقا لتنصير الشعب الجزائري وفرنسته إلى الأبد (كما كان يتوهم!؟)، هو المكان ذاته الذي أصبح اسمه المحمدية بعد الاستقلال نسبة إلى محمد النبي الأكرم، والذي شيد فيه وعلى أنقاضه هذا المعلم الحضاري الإسلامي الأعظم، الذي يمثل بكل مرافقه الحضارية المتكاملة المذكورة أعلاه صورة مصغرة للجزائر الوطن، في المكان ذاته الذي كان قد شيد فيه الكاردينال مركزا لإطلاق عملية تنصير الأجيال تحت سيف الترهيب والترغيب مع بداية ظلم  وظلام الاحتلال.

 وقد خلفه الضابط المنصر المتعصب لدين أمته (الأب شارل دوفوكو)، الذي انطلق نحو الجنوب الجزائري في مهمته التنصيرية وقد صرح في مستهل عمله (الرسالي التبشيري) الممنهج لبناء الإمبراطورية الفرنسية المسيحية في القارة الأفريقية، بأن الجزائر لا يمكن أن تصير فرنسية حتى تصبح مسيحية، حيث يقول في رسالة خاصة لصديقه الدوق (فيتس جيمس) سنة 1912، يقول له؛ "إنني أعتقد أنه إذا لم نستطع تحويل المسلمين بالتدريج عن دينهم وحملهم على اعتناق المسيحية، فإن النتيجة الحتمية هي تكون روح قومية جديدة تؤدي إلى طردنا من الإمبراطورية الاستعمارية في شمال إفريقيا!؟ إن الروح الوطنية العربية والبربرية سوف تنمو في صفوف الطبقة المثقفة، التي تستعمل الإسلام كسلاح فعال لإثارة الجماهير في إمبراطوريتنا!! إن السبيل الوحيد لضمان عدم طردنا من هذه الإمبراطورية، هو أن نجعل سكان البلاد فرنسيين، والسبيل الوحيد لذلك هو جعلهم مسيحيين".

والجدير بالملاحظة، أن هذا المبشر الكبير والخطير قد قضى أربع سنوات وهو يبشر المسلمين في جبال الهجار، إلى أن قتله المجاهدون الأحرار سنة 1916. وقد صدقت نبوءته بعد موته، حيث لم تمض إلا خمسون سنة بالضبط من تحرير الرسالة المذكورة، حتى كانت حرب التحرير قد انتهت بتوقيف القتال وتقرير المصير والاستقلال، وخرج الشعب الجزائري الذي لم يتغير الله في قلبه يصيح من أعماقه بكل فخر واعتزاز، منشدا أغنيته المعبرة والمؤثرة التي تقول في مطلعها: "يا محمد مبروك عليك الجزائر رجعت إليك !!؟! ".

ومن علامات الخيبة التي مني بها أمثال هذا المبشر على غرار سلفه (الكاردينال لافيجري)، أنه بعد أن قضى أربع سنوات يدعو المسلمين الجزائريين إلى الدين الجديد، متكلفا التخلق بالسلوك الحسن المحبب للسكان بطبيعة الحال، وفي انتظار أن يجني ثمار جهده في تنصير الأهالي، قال له أحدهم: "والله إنك لرجل طيب أيها الأب الفاضل، ولا ينقصك في رأينا إلا اعتناق الإسلام مثلنا!!!"، ولكنه أبى وقد قتل على دينه وما يزال قبره مزارا لأتباع ملته من كل حدب وصوب!؟!! ومما يؤكد كلام هذا المنصر بعد سنين من مصرعه على أيدي المجاهدين، هو ما صرح به رئيس وزراء فرنسا (منديس فرانس) في عز ثورة الجهاد في الجزائر، حيث قال في خطاب له منشور في جريدة لوموند الفرنسية بتاريخ 7/5/1956؛ "إننا نعتقد أن سياستنا هي الوحيدة التي تستطيع إدامة الوجود الفرنسي في الجزائر، وإذا ما قدر لنا سوء الطالع أن نفقد الجزائر، فإننا سنفقد معها جميع أجزاء الإمبراطورية". وإذا قال بعضهم بأن اللغة المقصودة في البيان النوفمبري أعلاه هي البربرية وليست العربية، فإننا نحيلهم على شعار الثلاثية المقدسة المطبوع على بطاقات كل مناضلي حزب الشعب الجزائري، مفجر ثورة الجهاد دون منازع في كل أرجاء الوطن، وهو: "الجزائر وطننا، الإسلام ديننا؛ العربية لغتنا". وهو الشعار ذاته الذي وضعه الإمام ابن باديس عقب الذكرى المئوية الأولى للاحتلال، كما سبقت الإشارة في مستهل هذا المقال.

والمهم هنا، هو أن يتحقق الهدف بقطع النظر عن الجيل الذي يحققه، ولكل جيل فضله في أية مرحلة من مراحل تحقيقه في التاريخ الوطني للأمة. وهذا ما قاله الإمام ابن باديس ذاته، بما لا يترك مجالا لأي تأويل لكلماته االصادعة كالرعد والساطعة كالبرق، عن اللغة المقصودة في البيان والدين المقصود في نصه، حيث يقول حرفيا؛ "إن هذا الشعب له لغته وهي العربية، ودينه وهو الإسلام، ووطنه وهو الجزائر... إنكم لا تعرفون شيئا عن هذا الشعب، وتريدون كل مرة وبجرة قلم أن تستبدلوا بحضارته حضارة أخرى، وبمقوماته مقومات أخرى، وبتاريخه تاريخا آخر، وهذا مستحيل!؟".

قارنوا نص هذا الكلام بالبند الرابع الذي أوردناه آنفا من البيان الخالد، وأوجدوا كلمة واحدة في هذا البند خارجة عما سطره الإمام بيمناه قبل ذلك بعقود، لتدركوا معنى (الباديسية النوفمبرية) في أجلى صورها الوطنية والقومية.

فلماذا لا يقول الجنرال دوغول صاحب مغالطة (الجزائر الجزائرية) عن بلاده (فرنسا الفرنسية)؟ مع أنها كانت وثنية وترومنت لسانا بعد أن تمسحت دينا ووجدانا، كما يعترف هو نفسه في كتابه (الأمل) الذي كتبه وهو على رأس الدولة الفرنسية في جمهوريتها الخامسة، التي أتت به وبها الثورة الجهادية المجيدة. يقول فيه: "ستبقى الجزائر فرنسية مثلما أصبحت فرنسا رومانية".


الشيخ محمد مأمون القاسمي الحسيني عميد الجامع الأعظم مع الكاتب أحمد بن نعمان

وهل يمكن لفرنسا أن تكون فرنسية بغير اللغة الفرنسية (الرومية كما نقول عندنا بالعامية العربية أو "ثاروميث" بالبربرية التي تطلق على المرأة واللغة الفرنسية في الوقت ذاته !!!؟)، و هل تبقى الجزائر فرنسية (كما قال) بغير اعتماد اللغة الفرنسية، رغم تقرير المصير والاستقلال الذي ما يزال يتطلب التحصين والاستكمال في مجال السيادة ضد الاستحلال!؟!؟ علما أن هذه اللغة التي فرضت علينا "كغنيمة حرب" في الاستحلال، رغم تقرير المصير والاستقلال بعد أن كانت جريمة حرب إبادة جماعية للهوية الوطنية في ليالي الاحتلال، ومن أجلها قامت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بعد الذكرى المئوية لموت الإسلام والعربية (حسب ظن المحتل الواهم!!). وقد قامت الثورة المباركة من تلك المبادئ ذاتها نصا وروحا، كما أوضحنا آنفا. والنص أمام كل مواطن غير أمي حرفيا أو بليد عقليا أو منحرف عقديا ووطنيا.

وهو ما يجعل المسؤولية مضاعفة على الوطنيين المسلمين (قولا وفعلا)، من رجال الثقافة والسياسة والسيادة الحاليين، للدفاع عن هذه اللغة الوطنية والدينية بعد ستة عقود من توقيف القتال، باعتبار أن اللغة الوطنية والرسمية هي الفيصل الأول في الهوية الوطنية دون منازع؛ لأنها هي التي تعطي الصفة أو الاسم الرسمي للدولة الوطنية كقاعدة وليس كاستثناء! وبهذا الموجب، أصبحت الجزائر (الفرنسية سابقا) عضوا فاعلا في جامعة الدول العربية لاحقا، التي لا يجمع أعضاءها إلا اللسان العربي، ولو زال هذا اللسان من الاستعمال الرسمي والشعبي، لأصبحت هذه الجامعة في خبر كان مثل الأندلس منذ زمان.

فلا وجود لفرنسا دون اللغة الفرنسية، ولا ألمانيا دون الألمانية ولا إسبانيا ولا إيطاليا ولا إيران ولا تركيا ولا رومانيا، ولا روسيا ولا أوكرانيا دون الروسية والأكرانية، بدليل قيام الحرب الطاحنة الحالية بين البلدين منذ سنين، بسبب اختلاف اللسان بالذات بين سكان أوكرانيا الشرقية (في دومباص) وأوكرانيا الغربية  (في كييف)، رغم وحدة الكنيسة (الأرثودوكسية) واختلاط السكان بالتزاوج منذ قرون!!

ومما يؤكد العلاقة (الربانية العضوية) بين الإسلام والعربية، تعهد الله بحفظها وجعلها هي العليا، وعليها ستقوم الساعة في الدنيا.


                        أحمد بن نعمان يستعرض مجسما لمكونات الجامع الأعظم

وتبقى العربية المحفوظة من خالقها بالذكر في كل البلاد الإسلامية مع الإسلام الحضاري بمنزلة القطبين (السالب والموجب) في الطاقة الكهربائية، فدونهما لا حرارة  ولا ضياء ولا تقدم ولا بقاء  للحضارة  التي شيدها الأسلاف الموحدون لعدة قرون في الأندلس والبلاد المشرقية والمغربية، ولا أمل في بعثها من جديد دون سيادة اللغة العربية، كما كانت في عصورها الذهبية.

وهذا هو معنى قول الإمام ابن باديس (شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب)، ولا عروبة دون إسلام ولغة عربية قرآنية فصيحة للمتعلمين، وتبقى اللهجات العامية الشفوية (العربية والبربرية) تؤدي  وظيفتها الاجتماعية الضرورية في أوساط الشعب من الأميين حرفيا، أو المعوقين ذهنيا، والمعقدين نفسيا.

مع العلم أن وضع كل الفرنسيين من حيث التحول اللغوي من الأمية إلى اللاتينية والمسيحية هو مثلنا تماما في كل بلاد المغرب والمشرق العربيين، حيث تعربت هذه الشعوب لسانا وثقافة وانتماء وحضارة بعد إسلامها الصادق كما قلنا، وعلمت أبناء أوروبا في جامعاتها العالمية بقرطبة وبجاية وفاس والزيتونة وتلمسان والقيروان باللغة العربية وحدها لعدة قرون، وحتى الطب كان يدرس بالعربية من كتاب القانون في جامعة السوربون.

وإذا كان الإسلام لا يكره الناس على اعتناقه، فلا يجبرهم كذلك على تبني لسانه.

ولكن المسلم الصادق الذي غير ما في قلبه من الكفر والشرك إلى الإيمان بإرادته الحرة،  كخالد وطارق  وبلال وصهب وسلمان، فلا يوجد ما يمنعه عقلا وشرعا من إتقان لسان القرآن إذا كان صادق  الإيمان بالفعل، بعيدا عن القومية العنصرية والعصبية القبلية الجاهلية المترسبة في أذهان بعض الفئات، التي قد تدعي الإسلام في الظاهر وتخفي الكفر والشرك والوثنية العنصرية في الباطن.

فكيف تحل فرنسا لنفسها الانتماء اللساني والعقدي إلى الحضارة الإغريقية الرومانية، وتحظر علينا انتماءنا نحن إلى حضارتنا العربية اللسان المسلمة الوجدان، عبر العديد من القرون المتعاقبة في الزمان والمكان، حتى حل على أمتنا قرن الخيانات والردات المتتالية المكرسة بالانقلابات العسكرية على حساب الشرعية الشعبية والثورية؟

والذي يجادل في مبادئ البيان كما فصلنا الحديث فيه قبل حين، هو يجادل في الاستقلال الوطني ذاته الناتج عن تطبيق هذا البيان بأغلى الأثمان، التي ليس لها مثيل في علمنا من ناحية الكم في عدد الشهداء والنوع، في شدة قمع الثورات المتتالية ضد الاحتلال عبر الأجيال المتعاقبة على الجهاد من معارك سيدي فرج والحراش والبليدة عند الاحتلال سنة 1830، وحتى توقيف القتال عبر كل التراب الوطني في التاسع عشر من شهر مارس (آذار) سنة 1962، ونحن على ذلك من الشاهدين الثابتين على المبادىء التي عاهدنا عليها الله وأسلافنا  الأولين في الوطن  والدين.

وإن جامع الجزائر الأعظم كما هو قائم، ليمثل بحق كل هذه المعاني السامية، مجتمعة في مرافقه  المتكاملة الوظائف الحيوية، كتكامل وظائف أعضاء الجسد الواحد في الأمة حتى يأتيها  اليقين المحتوم والمعلوم بعد حين.