تعود
الذكرى السادسة للحراك الشعبي في
الجزائر وتعود معها أسئلة الحاضر والصدى الذي لازال يتردد لهذا الحدث التاريخي
الذي مازال يلقي بظلاله على المشهد رغم القمع والمنع ومحاولة تزوير الحقائق وليِّ
عنق الوقائع.
بدا لافتا غياب الاحتفاء الرسمي بالذكرى رغم
حديث تبون عن
الحراك الذي أنقذ الجزائر، ودسترته واعتباره محطة بارزة في تاريخ
البلاد.. وترسيمه "يوما وطنيا للأخوة والتلاحم بين الشعب وجيشه من أجل
الديمقراطية".
وللتذكير ففي بيان لرئاسة الجمهورية في 19
فبراير 2020 "أن تبون وقع مرسوما رئاسيا بترسيم يوم 22 فبراير يوما يخلد
الهبة التاريخية للشعب في الثاني والعشرين من فبراير 2019، ويحتفل به عبر جميع
التراب الوطني من خلال تظاهرات وأنشطة تعزز أواصر الأخوة واللحمة الوطنية، وترسخ
روح التضامن بين الشعب وجيشه من أجل الديمقراطية".
في مقابل هذه "السردية" تقول
الوقائع التاريخية إنه عندما انتفض الشعب الجزائري في فبراير 2019 ضد النظام
وترشيحه للرئيس المريض المقعد عبد العزيز بوتفليقة لولاية خامسة، كان رئيس أركان
الجيش آنذاك الفريق أحمد قايد صالح، يهاجم المظاهرات العارمة ويصف المتظاهرين
بـ"المغرر بهم" ويجدد دعمه لـ"فخامة الرئيس بوتفليقة"، كما
كان يكررها، ويؤكد أن الجيش سيحمي الانتخابات الرئاسية، التي كانت مقررة في أبريل
2019.
كانت هناك آمال بأن يدخل قايد صالح ومعه قيادة الجيش التاريخ باستغلال الفرصة التي وفرها الحراك لتحقيق تغيير سلمي وانتقال ديمقراطي سلس، وطي صفحة الماضي، الذي كان عنوانه حكم العسكر الفعلي منذ الاستقلال بفصوله الدامية والمؤلمة، ورعاية الفشل الاقتصادي والفساد والتورط فيه.
كان قايد صالح، الذي عينه بوتفليقة رئيسا لأركان
الجيش في 2004، ونائبا له كوزير للدفاع، في 2013، يحضر نفسه لتكرار سيناريو
الانتخابات الرئاسية لـ 17 أبريل 2014، الذي لعب قايد صالح دورا أساسيا في إخراجه
والتمثيل فيه حينها، خاصة عندما ظهر، تحت صورة الرئيس الفرنسي آنذاك فرانسوا
هولاند إلى جانب رئيس الوزراء آنذاك المسجون حاليا عبد المالك سلال، في ذلك المشهد
التمثيلي مع بوتفليقة الذي كان يعالج لثمانين يوما في مستشفى فال دوغراس العسكري،
ثم في مصحة ليزانفاليد في باريس التابعة لوزارة قدماء محاربي فرنسا!
لكن بعد أسابيع من استمرار المظاهرات
المليونية، ركب قايد صالح موجة الحراك الشعبي ـ الذي كان يصفه في اجتماع سري
وبالفرنسية بـ "ما يسمى بالحراك"، كما كشف تسجيل مسرب عنه ـ وأعطى لنفسه
دور البطولة، في سيناريو انقلابي دعائي قام فيه بسجن ما أسماها رموز
"العصابة"، التي كان في الحقيقة أحد الوجوه البارزة فيها، مثل السعيد
بوتفليقة شقيق الرئيس وعدوه اللدود الجنرال توفيق قائد المخابرات السابق ـ (الذي
سيطلق سراحه لاحقا بعد رحيل أحمد قايد صالح)ـ، وخليفته الجنرال طرطاق، وطلب من
الرئيس المريض المقعد عبد العزيز بوتفليقة الاستقالة، تحت عنوان كبير هو تحقيق
إرادة الشعب المنتفض في التغيير.
تناسى المتظاهرون، حينها، مواقف قائد الجيش،
ذراع بوتفليقة الحامي والوفي، وتهجمه على الثورة السلمية، وتوسموا خيرا فيه، وبدلا
من شعارات "ديقاج (ارحل) قايد صالح"، دوى شعار "جيش شعب خاوة خاوة
(إخوة)".
كانت هناك آمال بأن يدخل قايد صالح ومعه
قيادة الجيش التاريخ باستغلال الفرصة التي وفرها الحراك لتحقيق تغيير سلمي وانتقال
ديمقراطي سلس، وطي صفحة الماضي، الذي كان عنوانه حكم العسكر الفعلي منذ الاستقلال
بفصوله الدامية والمؤلمة، ورعاية الفشل الاقتصادي والفساد والتورط فيه.
غير أن قائد الجيش الراحل سرعان ما قاد
انقلابا على مطالب الثورة الشعبية بتغيير حقيقي، ليفرض بالقوة وببروباغندا خطيرة
مقسمة للشعب (بمنطلق عرقي خاصة) وبمنطق "فرق تسد"، استمرار النظام
العسكري نفسه بواجهة حكم مدنية جديدة له عبر انتخابات رئاسية في ديسمبر 2019 شهدت
مقاطعة شعبية كبيرة، أوصل عبرها للرئاسة عبد المجيد تبون، أحد رموز نظام الحكم،
الذي انتفض الجزائريون ضده، والذي كان وزيرا حتى قبل وصول بوتفليقة للحكم، ثم
وزيرا فرئيسا للوزراء لدى بوتفليقة، وكان يقسم حتى أن "برنامج فخامة الرئيس
بوتفليقة لن يتوقف.. أحب من أحب وكره من كره"، وكان مدعما لترشحه لولاية
خامسة.
هذا الانقلاب والخطابات الاستفزازية
المتهجمة على الحراك من قبيل "الشرذمة" و"الخونة"، التي كان
يلقيها قايد صالح من الثكنات ـ مُهجياً ومُكسرا اللغة العربية تكسيرا ـ وأحيانا
بمعدل 4 خطابات أسبوعيا، إلى جانب تهجمات مجلة "الجيش"، دفعت المتظاهرين
للرد بشعارات ضد قايد صالح والجنرالات وثم بعدها المخابرات، وحكم العسكر،
والمطالبة بـ"دولة مدنية وليس عسكرية".
وقد استمرت رعاية قيادة الجيش للوضع القائم
مع تبون وبشكل أكثر انكشافا وتم قمع الحراك، لكنه مازال يؤكد حجته رغم كل الهوس
القمعي المتواصل للسلطة ضد ناشطيه، الذين يستمر حبس المئات منهم، بينهم 4 نساء،
والمتابعات القضائية المتواصلة، التي طالت الآلاف.
ورغم القمع والمنع لا يزال الحراك رغم مرور
كل هذه السنوات، حاضرا في وجدان الجزائريين. وفي مقابل التضييق والمتابعات والاعتقالات في
الداخل التي تزايدت بالتزامن مع الذكرى السادسة للحراك، استذكر الجزائريون في
الخارج الذكرى بمسيرة لافتة في باريس.
فيما يتحدث الخطاب الرسمي عن تحقيق إنجازات خارقة اقتصادية واجتماعية وديبلوماسية في "جزائر جديدة ومنتصرة" يقول الواقع شيئا آخرا في مختلف الأصعدة الأخرى، وفي مقدمها مؤشر ظاهرة الحرقة التي زادت بشكل مأساوي بعدما توقفت تقريبا مع بدايات الحراك والآمال التي حملها.
وفيما يواصل خطاب السلطة الحديث عن تحقيق
مطالب الحراك و"تجسيد إصلاحات سياسية ودستورية" عبر 3 انتخابات خلال 6
سنوات، بينها الرئاسيات الأخيرة المقدمة في سبتمبر 2024، التي استمر عبرها تبون
لفترة رئاسية ثانية، فالواقع أن كل هذه الانتخابات (تعديل الدستور، والانتخابات
التشريعية والرئاسية) عرفت مقاطعة شعبية قياسية.
وفيما يتحدث الخطاب الرسمي عن تحقيق إنجازات
خارقة اقتصادية واجتماعية وديبلوماسية في "جزائر جديدة ومنتصرة" يقول
الواقع شيئا آخرا في مختلف الأصعدة الأخرى، وفي مقدمها مؤشر ظاهرة الحرقة (الهجرة غير القانونية) التي
زادت بشكل مأساوي بعدما توقفت تقريبا مع بدايات الحراك والآمال التي حملها.
ضيعت الجزائر عقوداً من الرداءة والعبث منذ
أكثر من ستين سنة من الاستقلال، بينها عشرية دموية حمراء في التسعينيات، ثم
عشريتين من فساد أكبر تحت حكم بوتفليقة، ثم جاءت انتفاضة 22 فبراير 2022 الشعبية،
التي أطاحت به، والتي تحولت إلى حراك سلمي وصفته صحيفة "واشنطن بوست"
بأنه "علامة فارقة في تاريخ البشرية"، وقد غيًر فعليا صورة الجزائر في
العالم.. لكن سرعان ما عادت عناوين "الجزائر الجديدة" (المزعومة)
لعناوين أسوء حتى من عهد "بوتفليقة والعصابة".. عناوين الغلق والقمع
والمنع و"الحقرة" و"الحرقة" والأزمات السياسية والاقتصادية
والديبلوماسية في عالم متغير متقلب فعلا. في المقابل تواصل سلطة في "حالة
إنكار مرضِية" جر الجزائر نحو "ما لا تحمد عقباه" عكس مجرى الفرصة
التاريخية التي وفرها الحراك ومازال ـ رغم كل شيء ـ يوفرها لتغيير حقيقي يليق
بالجزائر.. لعل "أولئك القوم يعقلون"!
*كاتب جزائري
مقيم في لندن