تلقى كرد
تركيا النداء الذي أطلقه عبد الله أوجلان من داخل سجنه مطالباً حزب
العمال الكردستاني بإلقاء السلاح وحل نفسه، بحماس كبير تجلى في التجمعين الجماهيريين الكبيرين في كل من ديار بكر ووان لمتابعة قادة حزب الشعوب الديمقراطي وهم يقرأون، عبر شاشات عملاقة، النص المكثف الذي كتبه أوجلان، باللغتين الكردية والتركية. أما مشاعرهم إزاء «العملية السياسية الجديدة» التي يختلف حول عناوينها لأن أحداً لم يطلق عليها عنواناً صريحاً يعبر عن مضمونه الغامض بدوره، فهي تدرجات من التفاؤل الحذر المشروط بما سيلي من تطورات.
وقد جاء نداء أوجلان بدعوة من زعيم التيار القومي (التركي) المتشدد دولت بهجلي الغائب منذ بعض الوقت عن المشهد السياسي بسبب مرضه، أطلقها قبل أكثر من أربعة أشهر حفلت بتحليلات وأفكار على صفحات الجرائد وشاشات التلفزيون ومنصات الإعلام الإلكتروني ووسائل التواصل الاجتماعي وغيرها من فضاءات التعبير. الوسط الكردي عموماً، وقادة حزب الشعوب الديمقراطي بصورة خاصة، يساهمون بحماس في هذه العملية السياسية ويعبرون عن تفاؤلهم الكبير بـ«هذه الفرصة» النادرة لحل المشكلة الكردية التي عمرها من عمر الجمهورية التركية. أوساط السلطة بالمقابل ترى الموضوع من منظور أنه فرصة للتخلص من الإرهاب ولا يعترفون بوجود مشكلة كردية، هذا ما كرره كل من أردوغان وبهجلي في كل مناسبة، مع تشديد الأخير على «الأخوة التركية ـ الكردية التي عمرها ألف عام»! حماس بهجلي للعملية وتمسكه بها على رغم عقبات كثيرة اعترضت طريقها هو الذي يراهن عليه المتفائلون، لأن الرجل معروف بتشدده القومي ومعاداته المزمنة للتعبيرات السياسية للمجتمع الكردي، إضافة إلى أنه يمثل «الدولة العميقة» في تركيا وفقاً لاعتقاد شائع، أو الدولة بنواتها الصلبة وهواجسها المتعلقة بالأمن القومي. لذلك يعتبر المتفائلون أن المسألة هذه المرة ستمضي في اتجاه الحل ما دام وراءها بهجلي بالذات، آخذين بنظر الاعتبار أن دور بهجلي في السلطة القائمة يتجاوز الحجم الصغير لحزبه في التحالف الحاكم إلى «بنية الدولة» و«عقلها المفكر».
كانت الاستجابة سريعة من قادة حزب العمال الكردستاني بأنهم سيتجاوبون بصورة إيجابية مع توجيهات أوجلان
ولوحظ على نص أوجلان أنه مدروس بدقة وربما كان نتاج «عقل جماعي» كردي. فقد شوهد الزعيم السجين في الصورة التي تم تداولها وسط قادة من حزب الشعوب الديمقراطي الذين قاموا بزيارته للمرة الثالثة في غضون شهرين، إضافة إلى ثلاثة سجناء سياسيين من القيادات المؤسسة للحزب، في رمزية عكست توحيد الرأي بين القادة المؤسسين وقادة الحركة السياسية الكردية في تركيا (حزب الشعوب) بشأن الخطوة التاريخية التي يطالب بها أوجلان.
كان لافتاً حرص نص أوجلان على رسم خطوط عريضة للمناخ الدولي والإقليمي والمحلي الذي تم تأسيس حزب العمال الكردستاني فيه كحركة سياسية مسلحة تعبر عن مظالم الكرد وتطلعاتهم المستقبلية، ويمكن تلخيصه بمناخ الحرب الباردة بين القطبين واشنطن وموسكو وصعود نجم الحركات اليسارية المسلحة في كثير من بلدان العالم بما في ذلك بعض البلدان الرأسمالية المتطورة. ليضيف النص أن تلك الشروط تغيرت بصورة جذرية بدءا من التسعينيات، وبخاصة بعد انهيار النموذج السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة. فدخل حزب العمال الكردستاني في متاهة من البحث عن معنى ودور جديدين يكرر فيها نفسه بلا جدوى. أي أن أوجلان يؤكد أن عمر حركته المسلحة قد انتهى منذ أكثر من ربع قرن، داعياً الحزب إلى حل نفسه لهذا السبب وليس بسبب ظرف مستجد، كما فعلت حركات مسلحة عديدة بعد إعادة تقييم تجربتها فتحولت إلى حركات سياسية تواصل نضالها بالوسائل السلمية المشروعة. كما أكد النص أن إلقاء الحزب للسلاح ليس نتيجة لهزيمة عسكرية لحقت به بل بقرار ذاتي ينبغي اتخاذه في مؤتمر عام يجمع الحزب بمختلف منظماته. فالدعوة إذن هي لعقد مؤتمر تاريخي يشكل منصة للتحول من حركة مسلحة إلى حركة سياسية.
كانت الاستجابة سريعة من قادة حزب العمال الكردستاني بأنهم سيتجاوبون بصورة إيجابية مع توجيهات أوجلان، وإن أضافوا أن نجاح العملية لا يتوقف عليهم فقط، فثمة طرف آخر، الدولة التركية، ستكون مساهمته حاسمة في تحقيق النجاح.
كل هذه التفاصيل تصب في خانة التفاؤل، لكن المشهد السياسي العام في تركيا يبدو وكأنه يمضي في اتجاه معاكس، أو على الأقل بما لا يبشر بمضي «العملية» بسلاسة. فقد ازدادت في الأشهر القليلة الماضية عمليات عزل رؤساء بلديات من حزب الشعوب الديمقراطي، أو شخصيات كردية فازت في الانتخابات المحلية على لوائح حزب الشعب الجمهوري، وتفتح دعاوى قضائية بحق رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو الذي بدأ استعداداته مبكراً للترشح في الانتخابات الرئاسية القادمة، في مواجهة أردوغان وفقاً لسيناريو شائع، بل وصل الأمر إلى اعتقال اثنين من إداريي جمعية رجال الأعمال المعروفة بـ«نادي أشد الأثرياء في تركيا» وتقديمهما للمحاكمة، إضافة إلى أعداد متزايدة من الصحافيين، في إجراءات يمكن إجمالها بالاندفاع إلى مزيد من السلطوية والتضييق على حرية التعبير. ويبدو حزب الشعب الجمهوري هو الأقل حماسةً للعملية السياسية الجارية على جهة المسألة الكردية، لأنه يراها من منظور تكتيكي يتصل برغبة السلطة في استمالة الحركة السياسية الكردية لمساندة مشروع تعديل دستوري يتيح للرئيس أن يعيد ترشيح نفسه لولاية جديدة بعد استنفاد فرصه وفقاً للدستور المعمول به. ولا بد من الإشارة في هذا السياق إلى أن نص أوجلان نفسه قد أكد على مفهومه لـ«المجتمع الديمقراطي» كوعاء للحل المنشود.
المصدر: القدس العربي