مقالات مختارة

المفهوم الأوروبي من شارل ديغول إلى دونالد ترامب

" أمريكا الترامبية لا تتفق مع رؤية وأسس تكوين الاتحاد الأوروبي"- الأناضول
ترجمت مشادة الرئيس الأمريكي مع الرئيس الأوكراني في البيت الأبيض، مدى حجم التباين والتباعد بين الموقف الأمريكي، الهادف إلى إيجاد الحلول التي تضمن وقف الحرب مع روسيا، والموقف الرسمي الأوكراني الذي تدعمه المجموعة الأوروبية، للوصول إلى سلام عادل ومستدام وشامل، يضمن سيادة أوكرانيا واستقلالها ووحدة أراضيها، ضمن حدودها المعترف بها دوليا، ومعرفة أسباب التعنت الأوروبي وتمسكه بحق القارة الأوروبية المشاركة في دائرة التفاوض، والمطالبة بخروج روسيا من الأراضي الأوكرانية، كشرط لنجاح اتفاق سلام يضمن الحماية والأمن لأوروبا، في الوقت الذي ترفض فيه الإدارة الأمريكية، مشاركة المجموعة الأوروبية في سعيها إعادة تقييم العلاقة مع روسيا، للوصول إلى وقف سريع لإطلاق النار في أوكرانيا، لتنهي فترة طويلة من التوافق السياسي والعسكري بين الغرب الأمريكي والغرب الأوروبي.

ليس من الصعب فهم طبيعة العلاقة التي جمعت الولايات المتحدة الأمريكية بحلفائها الأوروبيين منذ الانتصار الذي حققه الجانبان في الحرب العالمية الثانية، حين طلبت الدول الأوروبية المساعدة من الولايات المتحدة الأمريكية، بعد نقض ألمانيا النازية للمواثيق الدولية، واحتلالها تشيكوسلوفاكيا، ما زاد من تخوف أوروبا والولايات المتحدة من خطورة السيطرة والهيمنة الألمانية على العالم، ناهيك من تخوف واشنطن وحرصها على وقف ازدياد التوسع الياباني في الشرق الأقصى. ما جعل من هذه العوامل، ضرورة للتوغل الأمريكي في القارة العجوز، بعد ربط اقتصادها بالاقتصاد الأوروبي، من خلال مشروع مارشال، حيث أعاد التدخل الأمريكي التوازن في القارة الأوروبية، وساهم في إلحاق الهزيمة بالنازية، التي كانت في طريقها للسيطرة على القارة بأكملها.
يبدو واضحا أن أمريكا الترامبية لا تتفق مع رؤية وأسس تكوين الاتحاد الأوروبي بصيغته الحالية،

كان لمشروع مارشال الخاص بمساعدة أوروبا في النمو والاستثمار، وتحديث الصناعات والبنى التحتية الأوروبية، غداة خروجها من الحرب، الدور الكبير في تبعية أوروبا الاقتصادية لأمريكا، وكما كان لحصار الاتحاد السوفييتي لبرلين عام 1949، العامل المُكمل الآخر لانتشار القوات الأمريكية، وفرض هيمنتها العسكرية على القارة، من خلال منظمة حلف شمال الأطلسي، وإبعادها من الخطر السوفييتي المتصاعد، الذي رسم صورة من الشرعية لهذا الوجود الأمريكي، على الرغم من الخلافات الأولية الخاصة بالحرب الهندية ـ الصينية، وحرب فرنسا في فيتنام، ناهيك عن رفض الجنرال شارل ديغول مؤسس فرنسا الحرة، القبول بجميع بنود هذه العلاقة في نهاية الخمسينيات، حيث أبدى رغبته الواضحة في الانسحاب من القيادة العسكرية للحلف، والتأكيد على استمرار استقلالية فرنسا كقوة نووية حليفة لواشنطن، ولكن غير منحازة للاستراتيجية السياسية والعسكرية الأمريكية، نتيجة للرفض الأمريكي، تقاسم القيادة في منظمة حلف شمال الأطلسي.

ومنذ ذلك الحين لم تتأثر العلاقات الأوروبية ـ الأمريكية عبر تاريخها كما تأثرت أسس شراكتها اليوم مع وصول دونالد ترامب، حيث يرى العديد من متتبعي السياسة الأمريكية، أن الموقف الأوروبي المعادي لفلاديمير بوتين من الحرب في أوكرانيا، والعقوبات المفروضة على روسيا من قبل الاتحاد الأوروبي، قادرة على إعاقة استراتيجية دونالد ترامب الهادفة إلى إفشال عملية التقارب بين الصين وروسيا. في الوقت نفسه ترى الإدارة الأمريكية في طبيعة الموقف الأوروبي المعادي للأهداف الروسية في أوكرانيا، العامل المساعد في ولادة كتلة روسية ـ صينية، قد تُفشل تحقيق الأهداف المرسومة في جعل القارة الأمريكية الأكبر في العالم. وهذا ما يجعل من طبيعة وجود الهيكل السياسي الأوروبي القائم على مجموعة من الدول المختلفة والضعيفة، ومن خلال رؤية لا تعطي الأهمية لهوية الشعوب وفصل الحدود، بمثابة القبول بولادة تكتل صيني ـ روسي، وبدعم من دول “البريكس” هدفه مجابهة خطط الإدارة الأمريكية الجديدة. لا شك أن نجاح جهود الرئيس الأمريكي ترامب في إيجاد حل لوقف الحرب في أوكرانيا وإهمال الدور الأوروبي، في إعادة تقييم العلاقة مع روسيا، للوصول إلى وقف سريع لإطلاق النار في أوكرانيا وعودة موسكو إلى دائرة الكبار، يهدف إلى منع موسكو من التقارب المفرط مع بكين، ويضرب من خلاله عرض الحائط أسس التحالف الاستراتيجي، الذي وحّد الغرب على مدى ثمانين عاماً، وينهي علاقة الحلفاء الأوروبيين من دائرة الأهداف المشتركة، ويبعد استراتيجيتهم في العديد من القضايا والمعادلات الدولية في بقاع العالم.

من هنا يبدو واضحا أن أمريكا الترامبية لا تتفق مع رؤية وأسس تكوين الاتحاد الأوروبي بصيغته الحالية، كممثل ومسؤول ضعيف لتجمع من الدول، ما قد يدفعها إلى تحجيم أهمية دور المجموعة الأوروبية، الضعيف سياسيا وعسكريا، مقارنة بالدول العظمى كالصين وروسيا والهند. أن ما يأمل في تنفيذه الرئيس الأمريكي الجديد من خلال شعار “أمريكا أولا” هو تغيير الشكل والمضمون لعالم متعدد الأقطاب وجعله قابلا للهيمنة الأمريكية، يسمح للولايات المتحدة الأمريكية التحكم والتوافق مباشرة مع القوى المهمة في العالم، وعلى حساب القارة الأوروبية. ومن خلال بيئة جيوسياسية، تفصل الغرب الأوروبي عن الغرب الأمريكي، وتنهي التوافق النسبي لدول الحلف الأطلسي الشريكة لواشنطن في تمثيل العالم الغربي في علاقات الغرب الأمريكي السياسية والاقتصادية مع العالم.

ان رغبة الإدارة الأمريكية بحصر التفاوض المباشر مع روسيا، ورفضها لانضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي، ومطالبة الأوروبيين برفع عقوباتهم الاقتصادية المفروضة على روسيا، إذا أرادوا المشاركة في المحادثات، قد يعيد للنخبة الفرنسية تقييمهم لموقف الجنرال ديغول الواضح، ورغبته في الانسحاب من القيادة العسكرية للحلف الأطلسي، ومن ثم معرفة ما إذا كانت الولايات المتحدة، لا تزال الحليفة الدائمة للمصالح الفرنسية وسياستها في العالم. إن إعادة رسم مفهوم العلاقة الأوروبية من خلال العودة إلى فكرة الجنرال ديغول، للمفهوم السياسي والتاريخي لأوروبا، وأهمية الحفاظ على السيادة الوطنية لفرنسا في علاقتها مع الأمم، هي رؤية تتمثل في أهمية أوروبا من “المحيط الأطلسي حتى جبال الأورال” كأمم مستقلة عن بعضها بعضا، حرة في تعاملها مع العالم، تضمن لها سيادتها في أن تكون في الوقت نفسه، حليفة لأمريكا ورافضة للانحياز لسياسة إدارة دونالد ترامب وشعارها المتمثل في أمريكا أولاً.

المصدر: القدس العربي