أفكَار

الإسلاميون بين الدولة والمجتمع.. حيرة المشروع وإشكال الهوية السياسية

تدبير العلاقة بين الديني والسياسي أو بين الدعوي والحزبي، لا يمكن النظر إليه بمعزل عن السياقات الواقعية للتجربة السياسية. عربي21
"الملك السياسي هو حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي، في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار. "والخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها" عبد الرحمان بن خلدون ـ المقدمة
تواجه الحركة الإسلامية تحديات كثيرة تتجاوز مجرد الصمود قوة اجتماعية، أو الفوز في سباق انتخابي، أو ضمان التأثير في المشهد السياسي الداخلي أو الخارجي، إلى الحاجة للتوقف مع ذاتها ومع هويتها وطبيعتها. وهو تحدي يضعها في مواجهة مع نفسها. ولعل هذا التحدي هو الأكثر خطورة لما له من تداعيات على فعل هذا التيار سواء لجهة تأثيره أم لجهة موقعه في المشهد العام. ويتعلق السؤال بفرص حسم الحيرة والتأرجح الأبدي، بين أن الحركة الشمولية والحزب السياسي، بين الجماعة الدينية والجماعة الوطنية، بين العمل الحزبي والعمل الدعوي.

والحقيقة أن هذه القضية ليست بالمسألة اليسيرة، وقد تحتاج لثقافة سياسية جديدة، و"انعطافة تاريخية"، كاستحقاق ذاتي ووطني ونهضوي. كما أنها إشكالية جديدة قديمة، طرحت في السابق وستطرح لاحقا وتتعلق بهذه الحيرة بين الدولة والمجتمع.

المؤكد أن مناهج التغيير وحتى التفكير في خيارات ورؤى الإسلاميين لم تستقر على رؤية واحدة ولا تصور واضح، ولذلك نرى جماعات وأطروحات متعددة بل ومتناقضة أحيانا، ينقض بعضها البعض، ليس فقط في العلاقة بمنهج التغيير وإنما بفلسفة التعاطي مع الدولة ومع العمل السياسي الحزبي.

ففكرة الحزب السياسي الإسلامي بقدر ما أُخذت بها القوى الإسلامية في غالبية الدول العربية والإسلامية، بقدر ما بقيت لديهم فكرة من جهة يتلبسها الكثير من الغموض، ومن جهة أخرى ظلت محل تحفظ لدى أوساط كثيرة من الإسلاميين، خاصة في الفكر الإسلامي التقليدي، لا سيما تلك الرؤى التي نشأت موازية للتجارب الإسلامية المعاصرة، والتي ترى في الأحزاب عامل فرقة وتفرقة وتقسيم من جهة، ومن جهة أخرى تنظر إلى هذه الأحزاب بشك، وبأنها ليست الإطار الأنسب في التعبير عن روح الأمة الإسلامية الواحدة، على اعتبار أن الإطار الحزبي يبدو في كثير من وجوهه رؤية انقسامية، وخاصة لسلبية مدلولاتها كما ينظر لها البعض في سياق النص القرآني عموما (1).

والحقيقة أن هذه التحفظات والمخاوف من الأحزاب السياسية والعمل الحزبي تعود إلى أطروحات رواد التيار الإسلامي الأوائل في ما عبر عنه جمال الدين الأفغاني، عندما دعا ودافع عن فكرة "الجامعة الإسلامية"، ثم الشيخ محمد عبده ورشيد رضا، ليعبر بأكثر وضوح عن هذه التحفظات الإمام المؤسس لجماعة الإخوان المسلمين حسن البنا، الذي تناول كثيرا هذا الموضوع في رسائله، وعرّف جماعة الاخوان بأنها أكبر وأوسع وأشمل من الحزب السياسي، محذرا من الروح الحزبية، التي تتناقض مع فكرة الجماعة، التي انبعثت أصلا مباشرة بعيد إلغاء الخلافة الإسلامية، لإعادة ما انفرط من حبل الأمة الإسلامية وما انفصم من عراها وما تشظي من وحدتها.

ولقد انتقد الشيخ الراحل محمد سعيد رمضان البوطي في كتابه "الجهاد في الإسلام"، عندما حمل بقوة على الحركات الإسلامية التي تحزبت وفق رأيه، معتبرا أنها انصرفت إلى أنشطة حركية خاصة بها، لا علاقة لها بالدعوة إلى الله وإنما هي دعوة إلى نصرة حزب يسعى إلى سدّة الحكم، فهو أبعد ما يكون عن الاهتمام بإصلاح القلوب وإقناع العقول وتهذيب النفوس. همه محصور في أن يقنع الناس بضرورة إبلاغه إلى سدة الحكم والقيادة.

البوطي أن "أن المتحرك سعيا إلى نصرة جماعته أو حزبه، فهو إنما يتجه بهم في حركة تكتيكية إلى مقاليد الحكم. ومن ثم فهو أبعد ما يكون عن الاهتمام بإصلاح القلوب وإقناع العقول وتهذيب النفوس. وإنما همه، بل كل همه، محصور في أن يقتنع الناس بضرورة إبلاغه إلى سدة الحكم والقيادة، ليريهم كيف يفجّر لهم من نظامه الذي ينادي به، جنة تزخر بأمواج السعادة للجميع"  ثم يوضح البوطي ـ الذي رفض هو نفسه الانخراط في الشأن السياسي رغم أن النظام عرض عليه ذلك ـ  كيف ان هذا النهج في الحركات الإسلامية المبتعثة للإصلاح أوقعها في التنافس على السلطة بدل أن تكون مظلة لكل القوى المتنافسة فيقول "وبوسعك أن تلاحظ، لتعلم أن أكثر الدعاة الإسلاميين، قد أصيبوا بعدوى هؤلاء الحزبيين من أصحاب المذاهب والأنظمة الدنيوية المختلفة. ومن ثم فهم ينهجون نهجهم. ويتكتكون على طريقتهم، ويصورون من أنفسهم، في أذهان الآخرين، واحدة من الجماعات أو الأحزاب التي تتزاحم سعيا وسبقا إلى مقاليد الحكم!" إنهم يتحولون إلى حزب مزاحم منافس في نظر هؤلاء الآخرين..ذلك لأنهم فرضوا من أنفسهم جماعة تزاحمهم وتسابقهم إلى كراسي الحكم، وليس إلا!

وهكذا يجعل الإسلاميون من أنفسهم خصوما وأندادا لتلك الأحزاب والفئات الأخرى، من أول يوم. فكيف وبأي دافع تتهيأ منهم النفوس للإصغاء إلى دعوة هؤلاء الإسلاميين الذين ينافسونهم ويسابقونهم إلى عواطف الجماهير سعيا منهم عن طريق ذلك إلى الحكم؟!..هذا إن وجد هؤلاء "الدعاة" وقتا لمحاورتهم ودعوتهم إلى الله، وأغلب الظن أن الوقت لديهم أضيق من أن يتسع لذلك"(2).

ويبيّن الشيخ البوطي كيف ينعكس هذا النهج الحزبي التنافسي على الحركة الإسلامية ويحجم دورها من حركة مجتمع إلى حركة لمجموعة تبتغي الوصول إلى السلطة وتخوض الصراعات من أجلها فيقول "لا أعتقد أن في المنطق ما يوح بأي استجابة لمثل هذه الدعوة من أناس اختاروا لأنفسهم هذا المناخ، بل لا أعتقد أن في المنطق ما يوحي بأي استعداد نفسي لدى الآخرين للثقة بإخلاص هذا الصنف من الدعاة..أجل فإن الذي أقبل مسرعا ينافسني الوصول إلى مغنم، لا يمكن أن أثق به في أي نصيحة يزعم أنه يتقدم بها إليّ، وأغلب الظن أن نصيحته لن تترجم في ذهني إلا إلى خديعة مقنّعة وتكتيك سياسي مبرمج".

"قيادة الحركة الإسلامية ينبغي أن تكون ذات طابع روحي فكري توجيهي تربوي، توجه كل القطاعات على حد سواء بما تملكه من نفوذ فكري روحي، فهي أرفع من أن تزاحم حزباً من الأحزاب على موقع أو منصب ويشغلها ذلك عن مهمتها الرئيسية في الدعوة إلى الله وتوجيه الراعي والرعية دون أن تحصر نفسها وتتحيز إلى حزب محدد وتنشغل بالعاجل عن الآجل وبالجزئي عن الكلي "من محاضرة ألقاها الفقيد بتونس صائفة 1985 غير منشورة"..
فهذه الرؤية تقوم على النظر إلى أن مهمة الحركة الإسلامية ليس استيعاب الصفوة من الناس إليها وإنما أن تضخ في المجتمع خريجيها ورجالاتها ممن يملكون ملكات في توجهات أخرى ولا تحبسهم في صفوفها. والحركة الإسلامية في هذا السياق "أشبه ما تكون بالمدرسة الحضارية التي تقوم بتخريج أجيال صالحة تنبت في سائر شرايين المجتمع وخلاياه لتقوم بمهمة النهوض الإسلامي، ويصبح الحزب السياسي في هذه الحالة كالمؤسسة الاقتصادية والقضائية والعسكرية جزءاً من جسم أمة الإسلام، منه بمثابة الروح والعقل والدم والأنفاس"(3).

ولذلك فإن "قيادة الحركة الإسلامية ينبغي أن تكون ذات طابع روحي فكري توجيهي تربوي، توجه كل القطاعات على حد سواء بما تملكه من نفوذ فكري روحي، فهي أرفع من أن تزاحم حزباً من الأحزاب على موقع أو منصب ويشغلها ذلك عن مهمتها الرئيسية في الدعوة إلى الله وتوجيه الراعي والرعية دون أن تحصر نفسها وتتحيز إلى حزب محدد وتنشغل بالعاجل عن الآجل وبالجزئي عن الكلي "من محاضرة ألقاها الفقيد بتونس صائفة 1985 غير منشورة" (4)

ولقد ساهمت عوامل خارجية في مزيد تعقيد حيرة الإسلاميين بشأن هويتهم وطبيعتهم هيكلا ومشروعا. إذ وقع الإسلاميون لعقود طويلة تحت طائلة الاتهام بأنهم جماعة تخلط الدين بالسياسة، وتستعمل الدين لأغراض سياسية، بل وتستحوذ على ما يفترض أنه رأس مال قيمي وثقافي ورمزي وأخلاقي، وتنفيه بشكل أو بآخر عن البقية من المجتمع. ولقد وجدت هذه الاتهامات سبيلها للانتشار والتوسع من خلال استغلال بعض كتابات سيد قطب في محنته، لا سيما ما روج له من مقولات في "المجتمع الإسلامي" و"الظلال" وحتى "جاهلية القرن العشرين" وما تضمنته هذه الكتابات من دعوة للتعالى الايماني، تكوينا للصفوة، ومفارقة لجاهلية المجتمع. ولم توفر الأنظمة المخاصمة للتيار الإسلامي سببا أو دليلا لتثبيت تهم الخلط بين الدين والسياسة واستعمال الدين. وقد حرصت على فعل ذلك تارة تبريرا لإقصائها لهذا التيار وطورا في سعيها لاستئصاله تماما، مستفيدة من أطروحات خصوم الاسلاميين من بعض الأقلام المتخصصة في رفض هذا التيار وعدم السماح له بالنشاط بأي شكل من الأشكال.

والحقيقة أن هذه الضغوطات التي مورست على التيارات الإسلامية، وبأشكال مختلفة، إعلامي وفكري وثقافي وسياسي وأمني ووصلت حد الابتزاز والمساومة، نجحت أحيانا في تقويض وحدة هذه التيارات وحشر بعضها في الزاوية، لدفعها للقيام بمراجعات تحت الإكراه، وليس في سياق التطور الطبيعي والتفاعل مع الواقع وتطوراته. وحتى من وقع تحت هذه الطائلة المراجعات، استمر معزولا في سياق هرسلته والسعي للإجهاز عليه في عملية اغتيال فكري وسياسي وأخلاقي تعبر عن ثقافة إقصاء واستئصال ورفضا لأي تعايش مع المختلف. وهو نهج دأبت عليه أنظمة حكم مغلقة لعقود، مستفيدة من قوى ونخب ثقافية استئصالية وضعت نفسها في خدمة الاستبداد، بل واستحالت جهازا أيديولوجيا لهذه الأنظمة الدكتاتورية.

وفعلا واحدة من المآزق الكبرى التي واجهتها تجربة الإسلاميين بعد الثورة هي هذه الحيرة الفكرية والسياسية، التي عبرت عن نفسها بوضوح في المسلكية السياسية، بين الانصراف للدولة والانقطاع عن المجتمع، وبين تمثل التجربة الحزبية والتنصل من التجربة الحركية. ولعل هذه الحيرة جعلت التيار الإسلامي في تونس، وقبله الإسلاميون في السودان، لا هم قوة حزبية وطنية مفتوحة لكل مواطنيهم الراغبين في المشاركة والانخراط في العمل السياسي من خلال الحزب، سواء التزموا بما يلتزم به كل عضو من التيار الإسلامي أم لم يلتزموا لا سيما لجهة التدين، أواكتسبوا سمتا معينا، أم لم يكتسبوا. فقد ظلت الحركة الإسلامية وهي في السلطة بعيدة وغير قادرة على استيعاب كفاءات كثيرة وفئات كان ينتظر أن تستوعبها داخلها، لكنها بقيت في وضع لا هي بالمنفتحة على كل التونسيين ولا هي بالمنغلقة أمام استعدادهم للانضمام إليها.

حاول الإسلاميون في السودان في تجربتهم السياسية بعد الوصول للحكم حل هذه الإشكالية وذهبوا في ذلك إلى قرار بحل التنظيم، حتى لا يكون وعاء ضيقا غير قادر على احتضان "المشروع"، وحتى يتخففوا من أسر التنظيم، انفتاحا على المجتمع، أفرادا وهيئات، وبسطا لمشروعهم تمليكا له لعموم الناس، بعد أن انتقلت هذه التجربة من المعارضة إلى الحكم ومن المجتمع إلى السلطة. بيد أن تلك المحاولة في الانفتاح لم تحقق تماما هدفها في الانفتاح على جميع قوى المجتمع، بل وظلت إدارة الدولة في السودان خلال العقدين الماضيين في يد الإسلاميين تحديدا، وحصل أكثر من ذلك عندما عجزت التجربة السياسية للمؤتمر الوطني السوداني أن تستوعب الإسلاميين باختلافاتهم المعروفة، فأطاح شق بآخر، وانتهى الزعيم الراحل للحركة الإسلامية الدكتور حسن الترابي في السجن معتقلا، ثم في البلاد معارضا. ولقد كتب الدكتور الترابي رحمه الله حول هذه التجربة، وقيّم بعمق القصور والأخلال التي داخلت التجربة في هذا الصدد (5).

هذا القصور والحيرة والتردد في المضي بخيار تحويل "المشروع الإسلامي" إلى مشروع وطني، يحتضنه المجتمع، وتتولى تنزيله كل كفاءات المجتمع بغض النظر عن خلفياتها، بدا واضحا إلى حد كبير في التجربة التونسية أيضا. ولقد كان بينا أن الاستفادة من الكفاءات الوطنية وذوي الخبرة في إدارة الدولة ضئيلا في الكثير من الأحيان، لجهة المناصب الوزارية أو السامية في الدولة. واختارت النهضة في سياق محاولة الاستفادة من كفاءاتها الحزبية من جهة، وسعيا منها لتأمين الولاء وعدم الانقلاب عليها، أن تعطي الأولوية لأعضائها في شغل المناصب وتحمل المسؤوليات العليا، تمشيا لم تكن مخطئة فيه بالكامل، لا سيما في مرحلة حساسة تحتاج تأمين التجربة من ثورة مضادة متربصة، بيد أنه تمشي كانت له أيضا ضريبته، ولعلها كانت باهظة، لهشاشة الأوضاع في المراحل الانتقالية وصعوبة التحكم وضبط إيقاع أحداثها.

قيادة الحركة الإسلامية ينبغي أن تكون ذات طابع روحي فكري توجيهي تربوي، توجه كل القطاعات على حد سواء بما تملكه من نفوذ فكري روحي، فهي أرفع من أن تزاحم حزباً من الأحزاب على موقع أو منصب ويشغلها ذلك عن مهمتها الرئيسية في الدعوة إلى الله وتوجيه الراعي والرعية دون أن تحصر نفسها وتتحيز إلى حزب محدد وتنشغل بالعاجل عن الآجل وبالجزئي عن الكلي "من محاضرة ألقاها الفقيد بتونس صائفة 1985 غير منشورة
فقد كان لهذا التمشي تداعيات سلبية واضحة، لا سيما في ظل إعلام معاديا، صوّر استفادة حركة النهضة من أبنائها في إدارة الحكم بمثابة السيطرة على الدولة من جهة وسيادة منطق الغنيمة على منطق الكفاءة، ومن جهة ثانية أشاع نوعا من الشعور بأن النهضة تبدو غير مستعدة للانفتاح على الكفاءات الوطنية والمجتمع والاستفادة من كفاءاته في تنفيذ البرامج. وحرصت أطراف لم تسعفها الانتخابات بنتائج جدية على أن تصور النهضة وكأنها بصدد الاستيلاء على الدولة، والاستغناء عن كفاءات المجتمع لصالح محازبيها في التوظيف وإدارة شؤون البلاد (6). ولقد ساهم هذا الوضع في التشويش على صورة النهضة ومشروعها، الذي تحول بسبب حملات الإعلام منه مشروعا للانفتاح والنهوض بالبلاد، إليه مشروعا للاستيلاء على مؤسسات الدولة ومقدراتها، وهو تقريبا تماما ما حصل أيضا في مصر في سياق شيطنة الاخوان وتبرير الانقلاب على الحكم الذي كانوا يقودوه.

لقد انعكست هذه "الحيرة" واضحة في الخطاب السياسي المنزلق أحيانا باتجاه التماهي بين الإسلام والحزب، واعتبار أن انتصار الحزب هو انتصار للإسلام، وحينا آخر بالانزياح باتجاه سياسة مقتضاها أن الحزب الإسلامي لا يتصرف كحزب سياسي عصري، معيار فاعليته ونجاحه هو الفوز في الانتخابات والوصول إلى السلطة والحفاظ على مواقعه، بل التصرف كحركة شمولية فوق الأحزاب، بل وحاضنة لها وليست منافسا لها لا في الانتخابات ولا على الحكم (8). وهو وضع أربك أنصار الحزب وأدخل الحيرة في نفوس ناخبيه، الذين انتخبوه ليحكم، فلم يفعل.

ولن نبالغ إذا قلنا إن بعض مما يفسر خروج النهضة من السلطة في نهاية 2014 هو هذه الحيرة والثنائية بين التصرف تارة كحزب سياسي وتارة أخرى كحركة شاملة تنزع إلى أن تكون فوق الأحزاب ومستوعبة لها، وليست منافسة ومزاحمة لها. ففي بداية العام 2014 علق زعيم النهضة الشيخ راشد الغنوشي، مبررا استقالة حكومة الائتلاف الوطني بقيادة النهضة، بأن الحركة تقدم مصلحة البلاد على المصلحة الحزبية، وهو خطاب يستبطن جزئيا فكرة أن "النهضة" فوق الجميع، وهي تشكل مظلة للجميع، وبالتالي لا يمكنها أن تكون في صراع مع الأحزاب السياسية الأخرى على السلط.

ولئن حسمت حركات وتيارات إسلامية في بلدان عديدة هذه الإشكالية على المستوى الهيكلي من خلال محاولة البقاء كحركة شمولية تهتم بالشأن العام، بعيدا عن الصراع الحزبي، وتشكيل أو الدفع لظهور قوى حزبية قريبة منها، على غرار ما حصل في مصر وليبيا وقبلهما في المغرب والأردن، فإن النهضة بحكم تسارع الأحداث ونسقها الضاغط لم تتمكن من معالجة هذه الحيرة، وبقيت قضية كثيرا ما تعيد طرح نفسها خاصة مع المسار التقييمي لتجربتها الذي انخرطت فيه استعدادا لمؤتمرها العاشر.

بيد أنه تجب الاشارة إلى أنه حتى القوى الإسلامية في البلدان الأخرى، والتي حسمت هيكليا في هذا الأمر، لا تزال غير قادرة على إدارة علاقة سليمة وسلسلة تماما بين الحركة كمشروع عام، والحزب كرافعة سياسية. ولعل جزء من هذا المشكل يحتاج لخبرة عملية تنضجه وتساعد على إدراك السبل والآليات الأنجع في ترتيبه. فهذه الإشكالية ليست فقط نظرية وإنما هي عملية، وبالتالي لا يمكن أن نزعم أن هناك قول فصل ونهائي بشأنها.

وحتى نكون منصفين يجب التنويه بأن أحد رموز حركة النهضة وهو القيادي صالح كركر كان قد دعا منذ العقدين إلى ضرورة حسم هذه الإشكالية، وطرح الفكرة على صفحات جريدة "الحياة" اللندنية، ثم بلورها بأكثر وضوح في كتاب أصدره تحت عنوان "الحركة الإسلامية وإشكاليات النهضة"( 9).

وتجدر الإشارة هنا إلى مسـألة أساسية يجب الوعي بها وهي أن "الخطاب الإسلامي" المعاصر في عمومه لم يولي مسألتي "الدولة" والحكم الكثير من الاهتمام، وهو خطاب كثيرا ما ينصرف للمجتمع ولعلاقاته، أكثر مما ينصرف للدولة، التي تبدو في كثير من الأحيان هامشية في الفكر وفي الثقافة السياسية للإسلاميين.

وفعلا سيبقى هذا المشكل النظري العملي يؤرق نخبة القوى الإسلامية العاملة، ويتعمق هذا الإشكال في ظل الحجم الشعبي المعتبر لهذه القوى، التي عليها أن تحرص على معالجة هذا الإشكال، لما فيه من تداعيات وانعكاسات ليس فقط على مستقبل هذه القوى في المشهد السياسي والاجتماعي، وإنما على الإسلام نفسه، في ظل الخلط وإقحام الدين أحيانا في صراعات سياسية، تحوله من حل إلى مشكل، ومن موضوع توافق بين القوى السياسية المتنافسة والمتصارعة، إلى موضوع نزاع وتنازع. ويقتضي تحرير هذا المشكل أن يتوضح الإسلاميون في رؤيتهم، لجهة موقعهم في المشهد العام، وفي علاقتهم بالمجتمع، وفي علاقتهم بالدولة، وإعادة تعريف أدوارهم، وتوضيحها وترشيدها، ليس فقط على المستوى الطبيعة أو الأهداف وإنما أيضا على مستوى المنهج وسبل التنزيل. فالمنهج وسبل التنزيل من صميم المشروع ومعالمه، لذلك يجب أن يكونا بنفس الوضوح تماما كالأهداف والغايات. توضح سيزيل بلا شك الكثير من الالتباس والغموض، التي لا تقلق أهل هذا المشروع فقط، وإنما هي قضية محل متابعة وانشغال الكثير من النخب والقوى الأخرى، حتى تلك التي ليس لها مشكلات مع التيارات الإسلامية من حيث المبدأ، وهي تخوفات وإن كان الكثير منها في إطار الصراع السياسي، فإن بعضه مشروعا ومبررا.

والحقيقة أن تدبير العلاقة بين الديني والسياسي أو بين الدعوي والحزبي، لا يمكن النظر إليه بمعزل عن السياقات الواقعية للتجربة السياسية. ولا يمكن إغفال عناصر الواقع المعقدة والمركبة التي تبدو ضاغطة حينا باتجاه الاهتمام بالمجتمع وتمتين حصونه والعمل من خلاله على الانتشار بالرؤية النهضوية المرجوة، في وضع تنزع فيه الدولة للاستيلاء على كل بقعة في الفضاء العام. وبين الحاجة الملحة للعمل الحزبي وبالتالي السعي من خلال الدولة لا باعتبارها فقط ك"دينامو" في العملية النهضوية وإنما أيضا لتعديل دورها في العلاقة بالفضاء العام.

(1) ـ عندما تحدثنا للفاعلين السياسيين الليبين ثلاث سنوات بعد الثورة والإطاحة بنظام القذافي، تسود قناعة لدى معظم الليبيين أن الأحزاب السياسية هي عوامل تفرقة وانقسام للمجتمع.
 (2) ـ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي: الجهاد في الإسلام، كيف نفهمه؟ وكيف نمارسه؟ دار الفكر 1993 ص 65
(3) ـ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي: المصدر السابق.
(4) ـ الشيخ راشد الغنوشي: الحركة الإسلامية ومسالة التغيير، المركز المغاربي للبحثوث والترجمة 1999.
(5)  الشيخ الدكتور حسن الترابي: حركة الإسلام..عبرة المسير لإثني عشر السنين، يونيو 2001.
(6)  ـ لعب الاتحاد العام التونسي للشغل وبعض منظمات المجتمع المدني خاصة تلك المحسوبة على اليسار دورا محوريا في هذا الصدد.
(7)  ـ أدلى الشيخ راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة التونسية بالعديد من التصريحات في هذا السياق.
(8)  ـ صالح كركر، الحركة الإسلامية وإشكاليات النهضة، نوفمبر 1998

*كاتب وباحث