صعد
الاحتلال الإسرائيلي خلال الأيام الماضية عدوانه على
سوريا مستهدفا للمرة الأولى محيط القصر الرئاسي، في مقابل ما وصفه بأنه صمت تركي مقارنة بمواقف
تركيا السابقة، سيما أن أنقرة تعد أحد أبرز حلفاء الحكومة الجديدة في دمشق.
وتشهد سوريا تجاذبا تركيا إسرائيليا على أراضيها منذ سقوط نظام الأسد، حيث تدعى دولة الاحتلال أن تركيا توسع نفوذها بشكل متصاعد على الأراضي السورية، وهو ما ترفضه "تل أبيب" بشدة.
وكان التصعيد بين الجانبين بلغ ذروته في سوريا بعد شن الاحتلال الإسرائيلي غارات على مواقع عسكرية وسط سوريا تحدثت تقارير أن فرق استطلاع تركية تفقدتها من أجل إقامة قاعدة عسكرية، ما أدى إلى إجراء مباحثات بين أنقرة و"تل أبيب" في أذربيجان من أجل وضع آلية لتجنب الصدام.
كما ساهم حديث الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن علاقته الجيدة مع نظيره التركي رجب طيب
أردوغان، وطلبه من رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن يكون "عقلانيا" في التفاوض مع أنقرة، في الحد من جموح العدوان الإسرائيلي المتكرر على سوريا، حسب مراقبين تحدثوا لـ"عربي21".
لكن التوترات التي اندلعت في مناطق ذات غالبية درزية على أطراف دمشق الأسبوع الماضي، مثل مدينة جرمانا وأشرفية صحنايا، أعادت التصعيد الإسرائيلي إلى ذروته عبر الإغارة على محيط قصر الشعب تحت ذريعة "حماية الدروز". وفي حين أدانت الدول العربية بشدة العدوان الإسرائيلي، لم يصدر عن الخارجية التركية تعليق على الحادثة.
"ضجيج استراتيجي"
في غضون ذلك، ذكرت صحيفة "جيروزاليم بوست" الإسرائيلية، أن مقاتلات تركية نفذت طلعات بمنطقة عمل طائرات إسرائيلية أثناء الغارة قرب القصر الرئاسي في دمشق، موضحة أن الطائرات التركية أرسلت إشارات تحذيرية إلى الطائرات الإسرائيلية ما سمح للجانبين بتجنب المواجهة.
ويوضح الباحث التركي علي أسمر الضربات الجوية الإسرائيلية الأخيرة داخل الأراضي السورية لا يمكن اعتبارها مجرد عمل عسكري تقليدي، بل تُعد، بحسب تعبيره، "ضجيجا استراتيجيا".
ويلفت أسمر في حديثه لـ"عربي21"، أن هذه "الضجيج" يهدف إلى التغطية على التحولات الجارية في عمق الجغرافيا السورية، وعلى رأسها التقارب المتسارع بين أنقرة ودمشق.
والأحد، تطرق الرئيس التركي، عرضا، خلال حديثه مع الصحفيين على متن الطائرة الرئاسية إلى الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على سوريا، موضحا أن هذه الحملات تهدد السلام والهدوء.
وشدد أردوغان على أن دولة الاحتلال الإسرائيلي "منزعجة من قوة تركيا بالمنطقة ومن المكاسب التي حققتها"، مشيرا إلى أن أنقرة تتابع عن كثب الخطوات التي يمكن أن تتخذها إسرائيل أو تخطط لاتخاذها بشأن تركيا، حسب وكالة الأناضول.
ويرى الباحث في مركز "أبعاد" للدراسات، فراس فحام، أن هناك ما يبدو أنه "تقدير موقف" لدى صناع القرار في تركيا، يفيد بأن "إسرائيل تسعى إلى فتح جبهة مواجهة في سوريا، ربما لأسباب داخلية تتعلق برئيس الوزراء بنيامين نتنياهو".
ويضيف في حديثه لـ"عربي21"، أن تركيا ترى أيضا أن أي رد فعل ميداني منها تجاه إسرائيل قد يُستخدم من قبل الأخيرة كمبرر لتوسيع نطاق هجماتها في سوريا، لذلك تفضل أن تتحرك على الصعيد الدبلوماسي، من خلال اتصالاتها مع إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
"ضبط" سلوك الاحتلال
ودأب ترامب على التشديد على العلاقة "الرائعة" التي تجمعه بأردوغان الذي وصفه بأنه "ذكي للغاية"، وهو ما يراه مراقبون عاملا مهما في ترتيب الملف السوري مع ساكن البيت الأبيض والحد من الاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة على الأراضي السورية.
إلا أن هذه العلاقة تثير في الوقت ذاته قلقا لدى الجانب الإسرائيلي، خصوصا لدى نتنياهو الذي أعرب عن إحباطه في محادثات خاصة من سياسة ترامب في الشرق الأوسط، لا سيما تجاه إيران وسوريا، بحسب ما نقلته صحيفة "إسرائيل هيوم" العبرية.
ويوضح فحام أن مصدر قلق دولة الاحتلال الإسرائيلي يعود إلى شعورها بأن إدارة ترامب تعول على تركيا في إدارة الملف السوري، ولا تتصرف فقط بما يتوافق مع المصالح الإسرائيلية.
وكان ترامب طلب من نتنياهو أمام الصحفيين في البيت الأبيض الشهر الماضي، أن يترفض بشكل "عقلاني" من أجل حل مشاكله مع تركيا، وأضاف: "إذا كانت لديك مشكلة مع تركيا، أعتقد أن بإمكاني حلها طالما كنت منطقيا في طلباتك".
ووفقا للصحيفة العبرية، فإن نتنياهو أبدى قلقه من دعم ترامب للرئيس التركي في ترسيخ نفوذه داخل سوريا.
وبحسب فحام، فإن إدارة ترامب نجحت إلى حد كبير في ضبط سلوك إسرائيل في سوريا، مضيفا أن التصعيد الإسرائيلي الأخير لم يكن ذا تأثير ميداني ملموس، إذ لم يمنع القوات الحكومية السورية من السيطرة على مناطق مثل صحنايا وأشرفية صحنايا، واقتصر على ضربات تحذيرية ذات طابع سياسي، من بينها قصف محيط القصر الجمهوري.
وأضاف أن هذه الضربات لم تشكل عائقا أمام تقدم القوات الحكومية في أشرفية صحنايا وجرمانا، لافتا في الوقت نفسه إلى أن الوضع في السويداء يختلف بسبب قربها من هضبة الجولان، وهو ما قد يفسر التشدد الإسرائيلي الأكبر هناك.
وشدد الباحث على أن التصعيد الإسرائيلي ضد القوات الحكومية، والذي بلغ ذروته في نيسان /أبريل الماضي عبر استهداف قواعد جوية في وسط البلاد، شهد تراجعاً ملحوظاً نتيجة تدخل إدارة ترامب.
"ملء الفراغ"
يأتي ذلك على وقع عمل واشنطن بشكل تدريجي على سحب جزء كبير من قواتها العسكرية المتمركزة في سوريا، حيث أوضح المتحدث باسم "البنتاغون" شون بارنيل أن الولايات المتحدة تعتزم تخفيض وجودها العسكري في سوريا إلى أقل من 1000 جندي خلال الأشهر القادمة.
وبحسب أسمر، فإن "تل أبيب" تدرك اقتراب موعد انسحاب الولايات المتحدة من سوريا، وتعي أن تركيا، بما تمتلكه من نفوذ سياسي وعسكري وشرعية إقليمية، هي الطرف الأكثر قدرة على ملء هذا الفراغ.
ولفت الباحث التركي إلى أن دولة الاحتلال الإسرائيلي توجه عبر الضربات الأخيرة على سوريا، رسائل واضحة إلى واشنطن تطالبها بعدم ترك الساحة لتركيا.
ويشير أسمر إلى أن "إسرائيل" تحاول العودة إلى الساحة السورية من خلال ما سماه "بوابة حماية الأقليات"، وهي "ورقة استخدمت سابقا لإشعال الأوضاع الداخلية".
وكانت دولة الاحتلال تذرعت بحماية الدروز بعد سلسلة من الغارات العنيفة التي شنتها على مناطق في العاصمة دمشق ومحافظات حماة ودرعا الأسبوع الماضي، بعد اشتباكات في مناطق ذات غالبية درزية على أطراف دمشق.
لكن الظروف اليوم تغيرت، حسب أسمر، خاصة "في ظل بيئة سياسية سورية جديدة تشهد ملامح استقرار بدعم تركي"، مشددا على أن "هذه المحاولات باتت تنطوي على مخاطر استراتيجية كبيرة بالنسبة لإسرائيل".
وفي تعليق على أسباب الصمت التركي تجاه التطور الأخير، رفض أسمر وصف الأمر بالصمت، لافتا إلى أن تركيا تتابع الوضع في سوريا عن كثب، وأن أردوغان بحث الملف السوري خلال حديثه الهاتفي مع ترامب الاثنين الماضي.
وأوضح الباحث التركي أن "ملف الدروز معقد، نظرا لانقسامهم بين مؤيد ومعارض للتدخل الإسرائيلي، مما يقيد الخيارات التركية إذا ما طلب بعضهم الحماية من إسرائيل"، على حد قوله.
وبيّن أن تركيا تنسق مع الولايات المتحدة لملء الفراغ الذي ستتركه القوات الأمريكية في سوريا، مشيرا إلى "أننا قد نشهد خلال الأشهر المقبلة توسعا تركيا أعمق داخل الأراضي السورية، بالتنسيق مع حكومة دمشق، وربما إقامة قواعد عسكرية تركية".
وأردف أسمر بالقول إن "الخطة التركية وُضعت بالفعل، لكن تنفيذها يحتاج إلى وقت وتكتيك استراتيجي، فالمسألة تتعلق بصراعات دول لا جماعات"، محذرا في الوقت ذاته من أن "استمرار إسرائيل في سياساتها العدائية قد يدفع أنقرة إلى الرد، وربما بإسقاط طائرة إسرائيلية في الأجواء السورية، على غرار حادثة الطائرة الروسية عام 2015".