قال رئيس المركز الدولي للعلاقات والدبلوماسية (MID)، جلال الدين دوران، إن قرار حل حزب
العمال الكردستاني يمثل "حدثا مفاجئا وتحولا كبيرا في تاريخ الدولة التركية"، بعد أكثر من أربعة عقود من الصراع المسلح.
وأضاف دوران في مقابلة خاصة مع "عربي21"، أن "هذه اللحظة التاريخية ما كانت لتتحقق لولا نضوج الظروف الداخلية والإقليمية، وتحوّل إدراك الأكراد نحو التعايش مع الدولة التركية بدل المواجهة".
وتوصل حزب العمال الكردستاني المدرج على قوائم الإرهاب في أنقرة، الاثنين، إلى قرار حل نفسه وإنهاء الصراع المسلح مع الدولة التركية، تاركا الباب مفتوحا أمام الأحزاب السياسية الكردية من أجل "تطوير الديمقراطية الكردية وضمان تشكيل أمة كردية ديمقراطية".
ويأتي الإعلان الذي وصف بالتاريخي عقب جهود قادها الرئيس التركي رجب طيب
أردوغان، وحليفه زعيم الحركة القومية دولت بهتشلي، لإنهاء ملف الصراع، ضمن مساعي أنقرة لتحقيق هدف "
تركيا خالية من الإرهاب".
وأكد دوران أن الصفقة التي جرى التوصل إليها بين التنظيم المسلح والدولة التركية تمت برعاية استخباراتية، وبمشاركة أكاديميين وخبراء، وتضمنت بنودا دقيقة حول تسليم السلاح، وتسوية أوضاع المنتمين للحزب.
وأشار دوران إلى أن التحول السياسي تجاه الحل بدأ منذ أكثر من عام، وأن دخول القوميين، وخاصة حزب الحركة القومية، على خط هذا المشروع منح الدولة غطاءً سياسيًا مهمًا.
كما أوضح أن المعارضة التركية، باستثناء بعض الأصوات القومية المتشددة، أبدت تفهما واسعا للخطوة، التي من شأنها أن تُنهي واحدة من أطول حروب الداخل في تاريخ الجمهورية التركية.
وتاليا نص المقابلة الموسعة:
كيف تنظرون إلى قرار حل حزب العمال الكردستاني، وهل كان مفاجئا في السياق التركي؟
لا شك أن قرار حل حزب العمال الكردستاني يُعد تطورًا كبيرًا ومفاجئًا في السياق التركي، خاصة أنه يأتي بعد أكثر من أربعين عامًا من الصراع المسلح الذي كلّف الدولة والمجتمع كثيرًا من الدماء والموارد.
نحن لا نتحدث عن تنظيم محلي فقط، بل عن شبكة إقليمية امتدت إلى سوريا والعراق وإيران، وكان لها ذراع في أوروبا أيضًا. ذروة هذا الصراع كانت في التسعينات، حين واجهت الدولة عمليات دموية، وتم تهجير آلاف القرى، وإفراغ مناطق كاملة لأسباب أمنية.
نقطة التحول كانت عام 1999 مع اعتقال رئيس التنظيم عبد الله أوجلان، ومنذ تلك اللحظة بدأ التفكير بصيغ بديلة عن الحسم العسكري. لكن الظروف السياسية في تركيا آنذاك لم تكن تسمح بذلك: حكومات هشة، أزمات اقتصادية، وتدخلات عسكرية مستمرة. لذلك بقيت الفكرة في إطارها النظري.
مع صعود الرئيس أردوغان، بدأت معالم سياسة مختلفة تظهر. فقد اقترب من القضية الكردية من زاوية إنسانية إسلامية، لا قومية ولا أمنية فقط. وبدأت خطوات ملموسة نحو الاعتراف بالهوية واللغة، وإشراك الأكراد في الحياة السياسية. هذا ما مهّد الأرضية لما نعيشه اليوم.
كيف تطور التعامل مع القضية الكردية خلال فترة حكم أردوغان، خاصة بعد محاولة الانقلاب عام 2016؟
بين عامي 2008 و2013، أطلقت الدولة ما عُرف بـ"المسار الكردي"، حيث جرت لقاءات ومفاوضات مباشرة، حتى مع قيادات الحزب داخل السجون. وكان ذلك تطورا غير مسبوق في تاريخ الجمهورية. لكن الصدمة الكبرى جاءت حين اختار الحزب العودة إلى العنف داخل المدن، وهو ما شكل منعطفا خطيرا.
المواجهات التي شهدناها حينها في ديار بكر وماردين وشرناق وغيرها أعادت للأذهان مشاهد دمار شبيهة ببعض المناطق السورية. لكن الدولة استعادت السيطرة، والمجتمع التركي وقف ضد هذا المسار، وانهار المشروع السياسي حينها.
ثم جاءت محاولة الانقلاب في 15 تموز 2016، فأعادت ترتيب أولويات الدولة بشكل كامل. صار التهديد الأكبر داخليا وخارجيا، من تنظيم "غولن" أولا، ومن شبكات دولية تستثمر في الورقة الكردية. الولايات المتحدة، إسرائيل، وأحيانًا إيران، كلها استخدمت هذا الملف للضغط على تركيا.
في هذه المرحلة، تحول الصراع إلى ورقة إقليمية، ووجدت الدولة نفسها مضطرة للعودة إلى الخيارات الأمنية، فتقلص وجود الحزب، وتمت تصفية كثير من قياداته في الداخل.
إذا كانت المعالجة الأمنية حققت نتائج، لماذا تعود الدولة اليوم إلى المسار السياسي؟
هذا هو السؤال الجوهري. لماذا تُطرح الآن فكرة الحل السياسي؟ ومن أين جاءت هذه الموجة الجديدة من الحديث الإيجابي؟
اللافت أن المبادرة لم تأتِ من الإسلاميين أو الليبراليين، بل من القوميين أنفسهم، وتحديدًا من داخل حزب الحركة القومية، المعروف بتشدده تجاه القضية الكردية. وهذا بحد ذاته يُعتبر تحوّلًا استراتيجيًا عميقًا.
ببساطة، لا يمكن لأي حل أن يكون فاعلًا دون أن يشمل القوميين، لأنهم يمثلون جزءًا أصيلًا من البنية السياسية والاجتماعية. دخولهم في الخطاب السياسي الجديد أعطى المسار شرعية وغطاء مهمًا، وسمح بطرح حلول أكثر واقعية دون خوف من ردود الفعل.
هل تم تنسيق هذه المواقف بين الحركة القومية والرئيس أردوغان؟
نعم، ما جرى لم يكن مفاجئا لأهل القرار، بل كان نتيجة مشاورات وتفاهمات بدأت قبل التصريحات بخمسة أشهر على الأقل. شخصية مثل دولت بهتشلي، الزعيم التاريخي للحركة القومية، كانت لاعبًا محوريًا في هذا المسار.
رغم كل الانشقاقات التي عرفها الحزب، بقي متماسكًا، وتخلّص من التأثيرات المرتبطة بتنظيم غولن وبعض التوجهات الأوروبية. وهذا جعله أكثر استعدادًا للعب دور مسؤول في القضايا الوطنية الكبرى، وعلى رأسها ملف الأكراد.
كيف قرأت ردود فعل قيادة حزب العمال الكردستاني حين انطلقت المبادرة التركية؟
ردود الفعل كانت متباينة. الجناح العسكري في قنديل (جبال قنديل شمالي العراق الذي يتخذها التنظيم مقرا له) كان حذرا، وأرجأ موقفه إلى حين معرفة موقف عبد الله أوجلان، الذي لا يزال يُعتبر المرجعية العليا. في المقابل، الجناح الأوروبي أبدى مواقف أكثر استقلالًا، وقال إنه لا يتبع أوجلان، ما كشف عمق الانقسام داخل التنظيم.
الجناح الأوروبي اليوم في حالة عزلة، بعد أن تم ربطه بأجهزة استخباراتية غربية، وبعض عناصره كانوا على صلة بتنظيم غولن. أما القرار الفعلي، فقد عاد إلى قنديل، وهذا ما سهل التفاهم لاحقًا مع الدولة.
ما العوامل التي دفعت التنظيم إلى اتخاذ قرار الحل في هذا التوقيت تحديدا؟
العامل الأبرز هو غياب الحاضنة الدولية. لم يعد هناك من يرغب في دعم هذا النوع من التنظيمات. أمريكا لم تعد تكترث، العراق وسوريا لم يعودا ساحة آمنة، وإيران غارقة في أزماتها. حتى إسرائيل، رغم محاولاتها، لا تملك القدرة على ضمان دعم طويل الأمد.
في هذا السياق، أدرك الأكراد ـ خاصة في الداخل التركي ـ أن مستقبلهم الحقيقي لا يكمن في الصدام مع الدولة، بل في الشراكة معها. كما أن كثيرا من مطالبهم التي رُفعت سابقا تحققت بالفعل، بحسب اعتراف أوجلان نفسه.