كتاب عربي 21

أمة الشهادة والشهود وأمة الوهن بلا حدود.. مشاتل التغيير (27)

"أسس القرآن الكريم الحضارة على هذا المبدأ العظيم، مبدأ الشهادة على الناس"- الأناضول
كان حديث النبي صلى الله عليه وسلم منبها ومحذرا؛ منذرا ومستنفرا حول التداعي على الأمة، فالحديث رواه ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن، فقال قائل يا رسول الله: وما الوهن؟ قال حب الدنيا وكراهية الموت" (رواه أحمد وأبو داود واللفظ له). ومثّل الحديث مفتاحا مرجعيا لأكتب كتابا حول هذا الحديث وما تضمنه من أمور تشير الى الآثار والمآلات الي يحملها الحديث لعقلية الوهن ونفسيتها وحالة الوهن وسوءاتها.

وترافق مع ذلك آيتان قرآنيتان حول الأمة ووصفها الإيجابي، "كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ" (آل عمران:110)، أما الثانية؛ "وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة وَسَطا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا" (البقرة:143).

إن أوصاف الأمة في الخيرية والوسطية تواجه حال الوهن والتبعية وتتدافع معها لتحقيق معاني الشهادة والشهود والحضور لا المغيب. إن استدعاء الحالين والصورتين من أهم الأمور في بناء مفهوم الشهادة والشهود؛ الشهود الحضاري المنتسب للفاعلية الحضارية والحضور الواجب والعادل والراشد والفاعل؛ شهود الحضور وحضور الشهود؛ الأمة الشاهدة والأمة العاجزة.

أوصاف الأمة في الخيرية والوسطية تواجه حال الوهن والتبعية وتتدافع معها لتحقيق معاني الشهادة والشهود والحضور لا المغيب. إن استدعاء الحالين والصورتين من أهم الأمور في بناء مفهوم الشهادة والشهود؛ الشهود الحضاري المنتسب للفاعلية الحضارية والحضور الواجب والعادل والراشد والفاعل؛ شهود الحضور وحضور الشهود؛ الأمة الشاهدة والأمة العاجزة

وكان هذا العمل الرائد لأستاذنا القدير الدكتور عبد المجيد النجار في مجلداته الثلاثة والتي أتمها برابع حول الشهود والإشهاد الحضاريين؛ "لما كان إنجاز الحضارة مقيدا بمنهج العبادة وفقا للرؤية الإسلامية في بعده الكلي المقاصدي، فهذا معناه أنها قائمة على أسس يحددها الدين الحق، ومتجهة وجهة العبودية لله خضوعا لما يأمر به وينهى عنه سبحانه، وهذا القصد يعطي مفهوم الحضارة خصوصية تميزه عن غيره؛ لا يقف عند حدود البناء المادي ومظاهره، بل يتجاوزه إلى بناء إنسان الرسالة الحضارية الذي كلفه الله للقيام بمهمة الاستخلاف في الأرض، مستحضرا تلكم العلاقة الجدلية بين الغيب والإنسان والحياة والكون، لتفيض صلاحا وإصلاحا ودعوة وشهودا واستسلاما لله تعالى بمقتضى ما كلِّف به الإنسان المسلم".

"بما أنّ الإسلام عالمي الهدف إذ هو رسالة للناس كافّة "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّة لِّلنَّاسِ بَشِيرا وَنَذِيرا" (سبأ: 28)، فإنّ الحضارة التي تنشأ به ليست بالحضارة المنكفئة على ذاتها، بل هي حضارة تجعل من همومها الانتشار بين الناس، فلها بعدٌ إنسانيّ عامّ كمبدأ أساسي من مبادئها، وكما كان للتحضّر الإسلامي فقه في بُعده الداخلي المتعلّق بدائرة المجتمع فإنّ له فقها أيضا في بعده الإنساني، ليلحق الجميع بالدائرة الإسلامية بحسب مبدأ العالمية. والأصل الجامع لقواعد هذا الفقه مضمّنة في قوله تعالى: "وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة وَسَطا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا" (البقرة: 143).

وإذا تجاوزنا المعنى الغيبي للشهادة المتمثل في شهادة الأمّة الإسلامية في اليوم الآخر على الأمم أنهم قد بلّغوا رسالات أنبيائهم عليهم السلام؛ إلى معنى الشهادة على الناس في الدنيا وعدنا إلى دلالاتها اللغوية، وسياقها في الآية وارتباطها علّيا مع الوسطية، تبيّن لنا أنها تمثّل منهجا متكاملا في التعامل الحضاري للمسلمين مع الآخرين من الناس. فالشهادة في ظاهرها: هي الإخبار عن أمر وقع العلم به لإقامة حقّ يتوقف عليه ذلك الإخبار، وهو ما يقوم على أربعة عناصر أساسية: العلم الذي هو أساس الشهادة، والبيان والإظهار لذلك العلم، ثم تبليغ ذلك العلم بحيث يصير واصلا إلى الآخرين على الوجه المقنع المفيد، ثم العدل في كل ذلك حتى تكون الشهادة مفضية إلى نفع المشهود عليهم. ومن عناصر الشهادة هذه نشتقّ القواعد الفقهية للتحضّر الإسلامي في المجال الإنساني العام".

من جميل ارتباطاتنا باللغة هوية واختصاصا وتميزا؛ أن نتخذ منها في جذورها واشتقاقاتها مدخلا مهما في تحريك المعاني والقيم الساكنة فيها والفاعلية الحركية الكامنة في عمقها، وهنا نجد أن الفعل "شهد" في امتداداته لا يقل أهمية عن جذور لغوية أخرى مثل "قوم" و"صلح". وقد جاء في مقاييس اللغة: "الشين والهاء والدال أصلٌ يدلُ علىٰ حُضُورٍ وَعِلْمٍ وإِعْلَامٍ، ويُقَالُ: شَهِدَ يَشْهَدُ شَهَادَة. كما يُقالُ: شَهِدَ فُلانٌ عند القاضي، إذا بيَّن وأعلَمَ لمَنْ الحق وعلىٰ مَنْ هو". وفي لسان العرب: "الشَّهادَة خَبرٌ قاطعٌ تقولُ. منه: شَهِدَ الرَّجُلُ علىٰ كذا، وربما قالوا شَهْدَ الرَّجلُ -بسكون الهاء- فالشهادةُ: الإخبارُ بما شاهَدَهُ. فالشَاهِدُ: العالمُ الذي يُبَيِّنُ ما يَعْلَمهُ ويُظْهِرهُ؛ والمُشاهَدَةُ المُعَايَنَةُ، وشَهِدَهُ شُهُودا: أَي حَضَرَهُ، فَهُوَ شَاهِدٌ، وقَوْمٌ شُهُودٌ: أَي حُضورٌ". والشهادة هي قمة الحضور؛ فلغويّا، يذكر مفهوم الحضارة للدلالة أولا على الحضور أو الشهادة التي هي نقيض المغيب، فمثلا حضر في القرآن الكريم تعني شهد: "إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ" (البقرة: 180)، "وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَىٰ" (النساء: 8).

وللشهادة معانٍ متكاملة يسبقها المعنى التأسيسي المتعلق بعالم الشهادة وعالم الغيب؛ فإن الله قد أحاط بعلم الغيوب كلها وهو شاهد على علم الشهادة كله، لهذا قال الله تعالى عن نفسه "عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد: 9).

ففي مقال رائع للأستاذ ساري عرابي بعنوان "الشهادة والعرفان"؛ يتناول قضية الكمال في الشهادة والشهيد قائلا: "إنّ الكمال إذا أطلق إنما يُراد به الله تعالى، ولكنّه يصحّ فيما دونه إذا قُيّد، فكان كمالا بالنسبة. هذا الكمال النسبي، أي حينَ وَزْنِ البشر ببعضهم، إنّما يتحقّق في اجتماع ثلاثة معان، وهي نُدرة الوجود، وفي النفاسة وشدّة احتياج الخلق إلى مثيلهم في البشرية، وفي صعوبة المنال. هذه المعاني الثلاثة لا تجتمع على النحو الموصوف في البشر إلا في الشهيد، فهو القدر الأعلى، ممّن هم دون الأنبياء، من حظّ العبد من اسم الله العزيز. والعارف درجات، أقصاها الذي يقدر الله حقّ قدره، والذي يعرف الحقّ، وذلك بعد الأنبياء والصدّيقين، لا يتعين على الحقيقة فيما يمكن أن يتعيّن للبشر في التصور الإسلامي إلا للشهداء، لقوله تعالى: "وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ" (آل عمران: 169). إذ يعاين الشهداء على الحقيقة، وهم أحياء، قبل البعث والقيامة، حقائق الوجود الكبرى؛ وقد قيل: "همّة العارف حائمة حول معروفه"، وكان معروفهم القضية الجهادية وفلسطين والبحث عن الحقيقة. هكذا ظلّ الشهداء المثل المضروب في كل حين (النموذج)، إن في وقت الموات، أو وقت الانبعاث، فلكل وقت عارف، ولكل وقت شهيد ووقت الشهيد، وقت الواجب، ووقت انبعاث المثل المتسامي، والموعظة المتجسّدة من لحم ودم".

كما رصد الدكتور نصر عارف معاني أربعة؛ تمثل جزءا من البنيان الحضاري والعمراني في هذا السياق، الأول الشهادة بمعنى التوحيد والإقرار بالعبودية لله -عز وجل- وهي محور العقيدة الإسلامية وعليها يتحدد التزام الإنسان بمنهج الخالق -عز وجل- أو الخروج عنه. أما الثاني، الشهادة بمعنى قول الحق وسلوك طريق العدل، وتعد مدخلا من مداخل العلم ووسيلة من وسائل تحصيل المعرفة. والثالث، الشهادة بمعنى التضحية والفداء في سبيل الله -سبحانه وتعالى- حفاظا على العقيدة. والرابع، الشهادة كوظيفة لهذه الأمة، "وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة وَسَطا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا" (البقرة: 143)، وينصرف معناها إلى الشهادة في الدنيا والآخرة، حيث تكون أمة قوية تقوم على العدل وتعمل به وتدعو إلى عبادة الله وحده.

ونزيد المعنى الخامس، ذلك أن من أبرز أسباب إقامة العدل وأظهر ركائز القسط القيام بالشهادة، ومعرفة أهميتها ودورها في المجتمع، ومراعاة حقها والواجب نحوها، إذ هي معيارٌ لتميز الحق من الباطل، وحاجزٌ يفصل الدعاوى الصادقة من الكاذبة، حتى قال بعضهم: "الشهادة بمنزلة الروح للحقوق، فالله أحيا النفوس بالأرواح الطاهرة، وأحيا الحقوق بالشهادة الصادقة".

والشهادة ضروريةٌ لقيام الحياة الاجتماعية، وما يخالطها من أحداث وما يصحبها من وقائع، وما يقع فيها من معاملات مادية وتصرفات إرادية وعلاقات عائلية. قال شريح القاضي -رحمه الله-: "الحكم داءٌ والشهادة شفاءٌ، فأفرغ الشفاء على الداء". حكم الشهادة: إن توفية الشهادة حقها فرضٌ لازمٌ وواجبٌ محتمٌ، يقول -جل وعلا-: ".. وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ.." (الطلاق: 2)، وإن القائمين بشهاداتهم في عداد أهل البر والإحسان، ومن زمرة أهل الفضل والإيمان، يقول -جل وعلا- في وصف عباده المكرمين: "وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ" (المعارج: 33).

في قوله اللهُ تَعَالَى: "وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ" (البقرة: 283)، وعلى ما يرى الأستاذ سعيد مصطفى دياب، "أن الناس في الشهادة أقسام ثلاثة: مَنْ يَشْهَدُ وَلَا يُسْتَشْهَدُ، وَمَنْ يُسْتَشْهَدُ فَلَا يَشْهَدُ، وَمَنْ يُسْتَشْهَدُ فَيَشْهَدُ. أما الذي يَشْهَدُ وَلَا يُسْتَشْهَدُ، أو يشهدُ بما لم يشاهِدهُ: فلرقةِ دينِهِ، وضعفِ يقينِهِ، وجرأته على الله تعالى حين يُقْدِمُ على شهادةِ الزورِ، فيشهدُ بما لم يره، وهذه هي شَهَادَةُ الزُّورِ، وهي مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؛ أو لأَنَّهُ لَا يعرفُ قدرَ الشهادةِ وعظيمَ خطَرِهَا. وَأما الذي يُسْتَشْهَدُ فَلَا يَشْهَدُ: فهو مَنْ يَكْتُمُ الشَّهَادَةَ، فتضيعُ الحقوقُ بكتمانها، وتشتعل نيران العداوات بتضييعها، وتأمّلْ نسبةَ الإثمِ إلى القلبِ، لتعلم أن الخطأ ليس واردا، إنما هو العمدُ وقصدُ العصيان. وَأَمَّا مَنْ يُسْتَشْهَدُ فَيَشْهَدُ: فهو المؤمن التقي، الصادق النقي، الذي يرجو رحمة ربه، ويخشى عقابه".

أين الأمة من هذه النماذج الفذة التي تشكل حركة التاريخ والشهود؛ ولا تقبع في زوايا الغفلة والنسيان؟ وكان بذلك يحمل في الأمة ذِكرا ومكانة وحضورا وشهودا، ليؤكد أن هذه الأمة لو أرادت نهوضا لقامت بكل ما يعني بالفاعلية الواجبة لإحداث كل تغيير يصب في حركة النهوض

فأين الأمة من هذه النماذج الفذة التي تشكل حركة التاريخ والشهود؛ ولا تقبع في زوايا الغفلة والنسيان؟ وكان بذلك يحمل في الأمة ذِكرا ومكانة وحضورا وشهودا، ليؤكد أن هذه الأمة لو أرادت نهوضا لقامت بكل ما يعني بالفاعلية الواجبة لإحداث كل تغيير يصب في حركة النهوض.

وارتباط الشهادة بصناعة النهوض والحضور الفعّال والشهود في الحال وفي المآل؛ أكد عليه أستاذنا القدير الدكتور عبد المجيد النجار في موسوعته حول الشهود الحضاري، وقد أسس القرآن الكريم "الحضارة" على هذا المبدأ العظيم، مبدأ الشهادة على الناس، شهادة ترتكز على تصوّر لحقيقة الإنسان المشهود عليه، ثم شهادة علم يكون هو المنطلق فيها، فمن لا علم له لا يكون شاهدا، وشهادة بلاغ للبشرية كافّة لكلّ ما فيه خير لها في غير جحود ولا كتمان، وشهادة حكم عادل بين الناس يردّ الحقوق إلى أصحابها وينصر المظلومين والمضطهدين. وقد وجدت هذه الشهادة مصداقا لها في واقع الحضارة الإسلامية حال شهودها، فقد قامت هذه الحضارة شاهدة على الناس في الأبعاد المختلفة لهذه الشهادة بما يجعلها مفخرة بين الحضارات السالفة والراهنة، وهو ما ينبغي أن يتأسّس عليه السعي إلى النهوض الحضاري لتكون الأمّة شاهدة على الناس من جديد.

في مشاتل التغيير تُستحضر معاني الحضور الفعال والشهود العادل الدافع والرافع لمعاني الأمة ومسئولية تحقيق الخيرية والوسطية فيها، ودفع كل ما يتعلق بنفسية وثقافة الوهن وأحواله والعجز والخذلان وأشكاله؛ فالشهود حضور، والحضور نهوض وإحياء وانبعاث، وتجديد واجتهاد وجهاد.

x.com/Saif_abdelfatah