قضايا وآراء

متحف السيسي الكبير.. رموز نظام مبارك المخلوع أرخص التحف في المتحف!

"ضخامة الجدران لا تُخفي رائحة التلميع السياسي التي تفوح من كل حجر"- فيسبوك
مقدمة: حين يتحول التاريخ إلى ديكور سياسي

ها هو المتحف المصري الكبير يفتح أبوابه أخيرا بعد سنواتٍ من الوعود والتأجيلات، ليُقدَّم للعالم على أنه "أكبر متحف أثري في التاريخ". تُقام الاحتفالات، وتُضاء الأهرامات، وتُعزف الموسيقى الكلاسيكية أمام الشاشات، لكنّ خلف تلك الصورة اللامعة، يلوح سؤال أكثر صدقا: هل نحن أمام مشروع حضاري يُعيد الاعتبار لتاريخ مصر، أم أمام عرضٍ مسرحيّ جديد للنظام؟

الافتتاح بدا كما لو أنه حفل زفافٍ سياسي أكثر من كونه احتفالا ثقافيا، الجميع يرتدي بدلاتٍ رسمية، والكاميرات تدور، والوجوه القديمة تعود إلى الواجهة في صمتٍ يشبه عودة المومياوات من المقابر. واللافت أن رموز نظام مبارك -الذين أطاحت بهم الثورة ذات يوم- عادوا هذه المرة كأنهم جزء من الديكور، أرخص التحف في المتحف.

المتحف الوطني أم متحف النظام؟
يتساءل المصري البسيط في صمت: هل هذه المليارات خُصصت حقا لخدمة السياحة والثقافة، أم لإنتاج صورة جديدة للسيسي أمام العالم؟

يضم المتحف المصري الكبير أكثر من مئة ألف قطعة أثرية، منها مجموعة توت عنخ آمون كاملة، وهو بلا شك إنجاز معماري ضخم، لكنّ ضخامة الجدران لا تُخفي رائحة التلميع السياسي التي تفوح من كل حجر. فالحدث لم يكن ثقافيا خالصا، بل مناسبة دعائية أُريد منها تثبيت رواية النظام عن "مصر الجديدة"، تلك التي يحكمها بالحديد والإبهار لا بالحوار والحرية.

على المسرح، وُضعت الحضارة المصرية لتُصفّق للحاضر السياسي، وبينما يتحدث الإعلام الرسمي عن "إنجازٍ تاريخي غير مسبوق"، يتساءل المصري البسيط في صمت: هل هذه المليارات خُصصت حقا لخدمة السياحة والثقافة، أم لإنتاج صورة جديدة للسيسي أمام العالم؟

إنّ المتاحف تُقام عادة لتذكّر الشعوب بعظمتها، لا لتُنسيها مآسيها، لكن هذا المتحف تحديدا يبدو وكأنه صُمّم ليُغطّي على فشلٍ سياسي واقتصادي مزمن. كل قطعة تُعرض في واجهةٍ ذهبية، بينما الحقيقة نفسها تُدفن في صمت.

عودة المومياوات السياسية

من المفارقات الساخرة أنّ المتحف يعرض مومياوات الفراعنة في أجواء احتفالية، بينما عاد بعض رموز نظام مبارك للحياة السياسية بعد تجميدٍ طويل؛ وجوهٌ عرفها المصريون في الحقبة التي سبقت الثورة تعود الآن إلى المشهد الرسمي كأن شيئا لم يكن.

تراهم في لجان، ومناسبات، وافتتاحات، بل وحتى في الصفوف الأمامية لاحتفال المتحف، كأنّ التاريخ يعيد نفسه، لكن بصورة أكثر سخرية؛ الفارق الوحيد أنّ المومياوات القديمة وُضعت خلف الزجاج احتراما لتاريخها، أما المومياوات السياسية فوضعت أمام الكاميرات لتلميع حاضرٍ فقد بريقه.

أليس من المدهش أن يُمنح الفرعون الذهبي قاعة خاصة ومجموعة حراس، بينما تُترك مومياوات الوطن الحقيقيين -من مفكرين ومبدعين وشهداء الثورة- خارج المتحف تماما؟

السيسي والفرعون.. من يشبه من؟

الاحتفال كلّه صُمّم ليُشبه مصر القديمة: موسيقى فرعونية، أزياء ملكية، إنارة تُحاكي عظمة الملوك، لكن خلف ذلك المشهد تكمن عقدة السلطة نفسها التي لاحقت الفراعنة عبر العصور: تمجيد الفرد وتحويله إلى رمز خالد.

المتحف الذي بلغت تكلفته أكثر من مليار دولار، يقف على بُعد كيلومترات قليلة من أحياء فقيرة يعيش أهلها بلا مياه نظيفة ولا سكن لائق، إنّه التناقض الأبدي في مصر الحديثة: دولة تبني معابد من الحجر وتترك الإنسان منسيّا في الطين

في كل لقطة دعائية، يظهر السيسي في مركز المشهد، كأنه الوريث الشرعي لتوت عنخ آمون ورمسيس الثاني. وكأن الدولة تقول للعالم: لدينا حضارة عمرها سبعة آلاف عام، وحاكم يليق بأن يُكمل المسيرة! لكنّ الحقيقة أن الفرعون القديم بُنيت مقبرته بعرق شعبٍ آمن بعقيدة، أما هذا المتحف فبُني في عهدٍ تآكل فيه الإيمان بالحلم الوطني، وغابت العدالة خلف واجهات الرخام.

بين الماضي والواقع.. مفارقة الفقر والعظمة

المتحف الذي بلغت تكلفته أكثر من مليار دولار، يقف على بُعد كيلومترات قليلة من أحياء فقيرة يعيش أهلها بلا مياه نظيفة ولا سكن لائق، إنّه التناقض الأبدي في مصر الحديثة: دولة تبني معابد من الحجر وتترك الإنسان منسيّا في الطين.

الزائر الأجنبي سينبهر بالواجهات، لكن المواطن المصري يدرك أن ما يُعرض في الداخل ليس سوى غطاءٍ فخمٍ لعجزٍ فادحٍ في إدارة الحاضر. الحضارة الحقيقية ليست في الزجاج اللامع ولا في التماثيل الذهبية، بل في عدالةٍ غائبة وصوتٍ مُكمَّم.

خاتمة: حين يصبح التاريخ سلعة

المتحف المصري الكبير ليس مجرد مبنى أثري، بل مرآة تعكس ما وصلت إليه مصر اليوم: حضارةٌ عريقةٌ محاصرة بنظامٍ يعيد إنتاج ماضيه السياسي بكل أدواته القديمة.

نعم، سيزوره الملايين، وسينبهر السائحون، لكنّ التاريخ لن يُخدع إلى الأبد. فالمتحف الذي يحاول أن يُجمّل وجه السلطة، قد يتحول غدا إلى شاهدٍ على زمنٍ استُخدم فيه الماضي لتزيين الحاضر.

وسؤالنا للقراء: هل ترى في افتتاح المتحف المصري الكبير إنجازا ثقافيا حقيقيا، أم محاولة لتغليف الإخفاق السياسي بورق الذهب؟