ملفات وتقارير

إرث الأسد الثقيل.. كيف يبدأ مسار العدالة الانتقالية في سوريا؟

الشرع شدد على أن "بناء الدولة أولى من الحقوق الشخصية"- عربي21
الشرع شدد على أن "بناء الدولة أولى من الحقوق الشخصية"- عربي21
منذ سقوط نظام بشار الأسد، يتصدر ملف المحاسبة والعدالة الانتقالية المشهد السوري بوصفه ضرورة لتحقيق الإنصاف للضحايا وضمان استقرار مستدام في البلاد التي شهدت ارتكاب مجازر وحشية بحق أبنائها خلال سنين الثورة على أيدي قوات الأسد والمليشيات الإيرانية الموالية.

وتصاعدت الأصوات المطالبة بوضع مسار واضح لتحقيق العدالة لضحايا النظام المخلوع مع توالي المشاهد التي أظهرت قيام العديد بالعبث بالوثائق داخل معتقلات النظام وفروعه الأمنية، فضلا عن قيام "مبادرة" من فريق يعرف باسم "سواعد الخير" بطلاء جدران أحد السجون في محافظة اللاذقية.

وتثير هذه المشاهد استياء كثير من السوريين المنادين بضرورة حفظ المعتقلات من العبث لكونها "مسارح جرائم" لا يجب أن تتعرض الأدلة الموجودة داخلها للإتلاف أو العبث لكي لا تفقد مصداقيتها.

وفي السياق، نظم أهالي عدد من المفقودين والمعتقلين في سجون النظام السوري المخلوع، الخميس، وقفة احتجاجية في العاصمة دمشق للمطالبة بتحقيق العدالة لذويهم وإيقاف "طمس" الأدلة في الفروع الأمنية.

وشدد المحتجون الذين احتشدوا أمام "فرع الخطيب" الأمني بالقرب من ساحة التحرير في دمشق، على ضرورة محاسبة المتورطين بارتكاب الجرائم بحق الشعب السوري خلال سنوات الثورة.


ورفع المحتجون في دمشق لافتات كتب عليها "آن أوان محاسبة الطغاة.. لن نسامح" و"أين ذهبوا بباقي المعتقلين؟" و"لا تخبوا ريحة أولادنا برائحة الدهان"، في إشارة إلى طلاء جدران أحد المعتقلات في محافظة اللاذقية.

وتكتسب جدران السجون في معتقلات النظام المخلوع أهمية لدى السوريين بسبب كونها السبيل الوحيد الذي تمكن المعتقلون من خلاله ترك ما يدل على وجودهم، مثل نقش أسمائهم أو تواريخ اعتقالهم عليها، بالإضافة إلى كتابة خواطرهم وآلامهم عبر أظافرهم أو نوى الزيتون.

يأتي ذلك على وقع غموض في الموقف الرسمي للإدارة الجديدة تجاه هذا الملف، الأمر الذي يثير تساؤلات حيال مدى الجدية في معالجة إرث الانتهاكات والجرائم التي ارتكبها نظام الأسد المخلوع من خلال البدء في مسار "العدالة الانتقالية"، التي "تشمل  مجموعة من التدابير القضائية وغير القضائية لمعالجة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان"، بحسب الخبير القانوني المعتصم الكيلاني.

اظهار أخبار متعلقة


ويوضح الكيلاني في حديثه مع "عربي21" أن هذه التدابير تتألف من محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات، وكشف الحقيقة، وتعويض الضحايا، وإصلاح المؤسسات، وضمان عدم تكرار الجرائم، مشددا على أن "نجاح هذه العمليات يتطلب وقتًا وجهودًا مستمرة، وتمتد عادةً على مراحل تصل لسنوات عديدة".

وتأتي المطالبات بضرورة إيلاء الأهمية لمسار العدالة الانتقالية في وقت تشهد فيه البلاد مرحلة غير مسبوقة في تاريخها الحديث، حيث تعاني من إرث متهالك خلفه نظام الأسد في كافة المؤسسات الحكومية، بالإضافة إلى "التجييش الطائفي" الذي كان النظام المخلوع يمارسه لضمان حكمه.

كيف يبدأ مسار العدالة الانتقالية؟
فيما يخص بدء مسار العدالة الانتقالية في سوريا، يرى المحامي غزوان قرنفل أنه من الضروري بعد تشكيل الحكومة الانتقالية، إنشاء هيئة وطنية للعدالة الانتقالية تتبع إداريا لرئاسة الوزراء.

ويوضح في حديثه مع "عربي21"، أن هذه الهيئة يجب أن تتكون من قضاة ومحامين وحقوقيين وشخصيات وطنية تقدم رؤية وطنية للعدالة الانتقالية، تشمل المحاسبة والمساءلة عن الجرائم والانتهاكات الكبرى بحق السوريين، لجان الحقيقة، الإصلاح المؤسسي، جبر الضرر، وتخليد الذكرى.

ويضيف قرنفل أنه يجب أن تقدم الهيئة رؤيتها ضمن مدة زمنية لا تتجاوز ثلاثة أشهر لتلك الحكومة، موضحا أنه بعد ذلك يمكن الانطلاق بالعمل سواء من خلال تأسيس محكمة جنائية مختصة بالنظر في الجرائم التي تقرر إيكالها إليها ومحاكمة الضالعين فيها، أو لجهة انطلاق أعمال لجان الحقيقة والمصالحة، وباقي السياقات الأخرى.

من جانبه، أكد الخبير القانوني المعتصم الكيلاني أن العدالة الانتقالية تتطلب إرادة سياسية حقيقية تضمن التزام جميع الأطراف بتحقيق العدالة والمصالحة.

وأضاف أن ذلك يتطلب أيضًا وقف العنف لتحقيق استقرار أمني يمهد الطريق، إلى جانب وضع إطار قانوني يدعم المساءلة ويعزز سيادة القانون، مشددا على أهمية الحوار الوطني الشامل لإشراك كل المكونات السورية في صياغة رؤية مشتركة للمستقبل.

كما شدد المعتصم الكيلاني في حديثه مع "عربي21"، على ضرورة إصلاح مؤسسات الدولة لضمان نزاهتها وحيادها، خاصة الأجهزة القضائية والأمنية.

غموض موقف الإدارة الجديدة
في خضم المطالبات بتحقيق العدالة الانتقالية، يبرز موقف الإدارة السورية الجديدة الذي يوصف بـ"الغموض" إزاء مسار تحقيق العدالة الانتقالية ومحاسبة المجرمين المتورطين بسفك دماء السوريين.

قبل أيام، تحدث قائد الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع عن التزامهم بالعفو الذي منحوه خلال المعارك التي أطاحت بنظام بشار الأسد في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر الماضي.

وقال الشرع في لقاء مع عدد من الناشطين وصناع المحتوى على منصات التواصل الاجتماعي: "في حال شوشت المطالبة بالحقوق الشخصية على بناء الدولة فإننا نقول إن البناء أولى من الحقوق الشخصية، لندع الناس تعيش ونغلّب حالة التسامح، إلا مع الناس التي كان لديها جريمة منظمة"، مشددا على أن "الانتقام الفردي غير مسموح، هناك محاكم، هناك عدالة".

وتطرق الشرع الذي سمى محمد البشير رئيسا لحكومة تصريف الأعمال لغاية الأول من آذار /مارس المقبل، إلى الأصوات التي تنتقد هذا التوجه تحت مقولة "ضيعتم حقوقنا"، قائلا: "أنا أرجعت إليك سوريا كلها، أعدت لك أعظم حق. اسمنا اليوم دمشق، هل تعلم معنى هذه الكلمة؟".

في هذا السياق، أشار غزوان قرنفل إلى أن الحكومة الانتقالية الحالية لا تملك الصلاحية القانونية والدستورية الكافية لتنفيذ هذا الملف، إذ إنها حكومة مؤقتة لتسيير الأعمال وحفظ الأمن والتحضير لإطلاق مؤتمر حوار وطني شامل.

وتابع قرنفل بالقول: "وربما يكون هذا هو السبب رغم أنها أصدرت قرارات كثيرة لا يحق لها إصدارها. هذا لا ينفي أيضا أن ثمة غموضا فعلا يلف أعمالها وقراراتها، ولا يوجد حتى الآن مرجعية رسمية للتثبت مما يشاع على وسائل التواصل من قرارات".

ورغم ذلك، أضاف المحامي: "نفترض حسن النية وننتظر انقضاء مهلة الأشهر الثلاثة للحكم على الأمور".

وكان وزير العدل في حكومة تصريف الأعمال شادي الويسي، تحدث عن مشروع يهدف إلى تحقيق العدالة الانتقالية، بما في ذلك إنشاء محاكم خاصة من أجل "محاكمة كل مجرم تم إقامة الأدلة بحقه من خلال النيابة العامة".

وأشار الويسي إلى أن المرحلة الحالية التي من المقرر انتهاؤها مع مطلع آذار /مارس المقبل هي "مرحلة تصريف أعمال"، موضحا أن هذه المرحلة تعنى بإعداد القوانين، في حين ستبدأ المحاكم عملها مع المرحلة المقبلة التي وصفها بـ"الانتقالية"، حسب موقع "الجزيرة مباشر".

اظهار أخبار متعلقة


من جانبه، يرى المعتصم الكيلاني أن الغموض في موقف الإدارة الجديدة قد يكون ناتجا عن تعقيدات المشهد السياسي والضغوط الداخلية والخارجية التي تواجهها الحكومة الانتقالية، أو ربما بسبب الرغبة في تجنب اتخاذ مواقف حاسمة قد تؤدي إلى تصعيد التوترات أو تعطيل مسارات التفاوض.

وأضاف الكيلاني أن "غموض موقف الإدارة الجديدة حيال ملف المحاسبة والعدالة الانتقالية يمكن أن يخلق حالة من عدم اليقين بين الضحايا والمجتمع الأوسع، ما يهدد بفقدان الثقة في إمكانية تحقيق العدالة".

ولفت الكيلاني إلى أن هذا الغموض قد يؤدي أيضا إلى تأخير الإصلاحات الضرورية التي تضمن المساءلة وعدم تكرار الانتهاكات، لافتا في الوقت ذاته إلى أن الغموض قد يُنظر إليه أيضا كجزء من استراتيجية تهدف إلى تجنب التسرع وإعطاء الأولوية للتهدئة وبناء توافق شامل قبل اتخاذ خطوات واضحة في هذا الملف.

العدالة الانتقالية والسلم الأهلي
تحذر كل من آراء المعتصم الكيلاني وغزوان قرنفل من خطورة تجاهل ملف العدالة الانتقالية على السلم الأهلي في سوريا، فقد أشار الأخير إلى أنه في حال شعر الضحايا الناجون أو ذوو الضحايا وكافة المتضررين بأنه لن يكون هناك مساءلة ومحاسبة للقتلة والمجرمين، وأنه "عفا الله عما مضى”، فإن ذلك قد يؤدي إلى أعمال انتقامية كثيرة، مما سيخلق اضطرابا أهليا ومجتمعيا وأمنيا.
 
وفي ذات السياق، أكد المعتصم الكيلاني أن تجاهل ملف العدالة الانتقالية يشكل خطرًا كبيرًا على السلم الأهلي، إذ يرتبط بشكل مباشر بمحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات وضمان حقوق الضحايا.

اظهار أخبار متعلقة


وأضاف أن "تجاهل العدالة الانتقالية في سوريا يشكل خطراً كبيراً على السلم الأهلي، لأن هذا الملف يرتبط بشكل مباشر بمحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات وضمان حقوق الضحايا، وهو أساس لتحقيق العدالة وبناء الثقة بين المكونات المختلفة".

وشدد الكيلاني على أن تجاهل العدالة الانتقالية يمكن أن يؤدي إلى تراكم مشاعر الغضب والإحباط والرغبة في الانتقام، مما يعزز الانقسامات المجتمعية ويعمق الجروح الناتجة عن الصراع. وأوضح أن غياب العدالة قد يُبقي على البنى والهياكل التي سمحت بحدوث الانتهاكات، مما يزيد من احتمالية تكرارها في المستقبل.

وأشار إلى أن "السلم الأهلي يعتمد على الشعور بالمساواة واحترام القانون، وبالتالي، فإن العدالة الانتقالية ليست مجرد خيار، بل ضرورة لضمان الاستقرار والمصالحة في سوريا على المدى الطويل".
التعليقات (0)

خبر عاجل