ما حصل خلال اليوم الأول من دخول اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل
والمقاومة يعتبر بكل المقاييس "حدثا تاريخيا"، رغم حجم الدمار واتساع
رقعة القتل. وفي هذا السياق لا يمكن إنكار حالة اليأس التي خيمت على الغزاويين،
خاصة خلال الأسابيع الأخيرة، نظرا لحجم المتاعب والمخاطر التي تعرضوا لها. لكن رغم
ذلك، بقي في وجدانهم أمل يداعبهم بأن الله لن يتخلى عنهم. فما هي مصادر هذا الأمل
الذي يشبه الوقود الذي جعلهم يعتقدون بأن لحظة الفرج قادمة؟
يتمثل العامل الأول في الذخيرة الإيمانية التي يتمتع بها عموم أهل
غزة. هذا
عامل قد يقلل البعض من أهميته في التحليل السياسي والاستراتيجي، تجنبا للدخول في
خطاب غيبي. لكن عندما تجد شعبا أعزل يواجه حملة تدمير رهيبة من قبل جيش بلا قلب
ولا عقل، فماذا يمكن أن تقدم للمدنيين في قلب المعركة سوى الصبر والاعتماد على
الذات وتذكيرهم بأن الله معهم ولن يخذلهم؟
الجانب السيكولوجي يلعب دورا كبيرا، خاصة خلال الأزمات الكبرى والقاسية، هو الذي يميز شخصا عن آخر وشعبا عن شعب
وقد كشفت أيام الحرب ولياليها لجوء هؤلاء رجالا ونساء وشيوخا إلى الله
طالبين اللطف والحماية؛ سلاحهم الوحيد كان ولا يزال هو مزيد التمسك بخالقهم القادر
على إنقاذهم، وهو ما جعلهم مضرب الأمثال في العالم، حتى أن بعض حاخامات اليهود
يفسرون صمود
الفلسطينيين بشدة إيمانهم بمصيرهم الذي لن يخرج عن احتمالين، إما
الموت والشهادة، فيكون نصيبهم الجنة أو النصر. هذا الإيمان العميق والعجيب يفسر
الأخبار التي تناقلتها وسائل التواصل الاجتماعي، مما دفع بالعديد من الغربيين ليعلنوا
إسلامهم -خاصة في أوساط النساء- بعد اطلاعهم على الكيفية التي تقبّل بها الغزاويون
والغزاويات استشهاد أبنائهم وأزواجهم بطريقة فيها ألم كبير وحزن، ولكن فيه أيضا
بعد غيبي عميق إلا من له استعداد لإدراك ذلك. فالجانب السيكولوجي يلعب دورا كبيرا،
خاصة خلال الأزمات الكبرى والقاسية، هو الذي يميز شخصا عن آخر وشعبا عن شعب.
أما العامل الثاني فيتعلق بالبناء الأسري للعائلة الفلسطينية. هناك حالة من
ارتباط الأبناء بآبائهم وأمهاتهم، وهو من ثمرات التربية المعتمدة بين الأجيال؛ قدرة على الكلام
المشحون بالقيم والشجاعة والوفاء والتعلم. لهذا تجد الطفل يخاطب العالم بلغة
تتجاوز سنه وتجربته في الحياة؛ طحنته المآسي والحروب، فسرّعت في عمره، وحملته
مسؤوليات أحيانا فوق طاقته، وجعلته يواجه الحياة في قسوتها الشديدة قبل أن يصلب
عوده؛ بعضهم يصاب بالارتجاج، ويصبح عرضة للأمراض النفسية الخطيرة، لكن الكثير منهم
يتمتعون بقدرة عالية على التحمل والتجاوز.
لا شك في أن الرعب اليومي الذي عاشه سكان غزة قد خلّف آلاف الإصابات
الجسدية والنفسية، خاصة في صفوف الأطفال، لكن ذلك زاد في تعزيز العلاقات الأسرية
وعمق حالة التضامن بين الفلسطينيين.
صراع عسكري يعتمد على استعراض المادية، يقابله صراع مشاعر ورغبة في الحياة والبقاء والانتصار. والبقاء في مثل هذه المعركة ليس لمن هو أكثر سلاحا وفتكا، بل لمن يؤمن بأنه الأحق والأجدر بالبقاء على أرضه والتمتع بكرامته
العامل الثالث له علاقة بالعاملين السابقين، ويتمثل في ارتفاع نسبة التطوع
والتضحية في صفوف الفلسطينيين، خاصة بين الشباب. هناك وعي مرتفع جدا بأهمية مساعدة
الآخرين، والتضحية بالنفس إن لزم الأمر. والمجتمع الذي له هذا الفائض من الأفراد
المستعدين لتسخير أنفسهم من أجل إسعاد الآخرين والتخفيف من آلامهم وأحزانهم، هو
مجتمع يملك سلاحا استراتيجيا لا يملكه الآخرون، بمن في ذلك أعداؤهم.
ولعل العامل الرابع في هذا السياق، يتعلق بإرادة التحدي. فخطة السابع من
تشرين الأول/ أكتوبر كسرت الحاجز النفسي الذي كان يفصل الفلسطينيين عن سجانيهم.
وعندما أعلن نتنياهو عن أهداف الحرب التي ستشنها حكومته، تولدت في تلك اللحظة
الإرادة المضادة. وانطلق منذ تلك اللحظتين
صراع عسكري يعتمد على استعراض المادية، يقابله
صراع مشاعر ورغبة في الحياة والبقاء والانتصار. والبقاء في مثل هذه المعركة ليس لمن هو أكثر سلاحا وفتكا، بل لمن يؤمن بأنه الأحق والأجدر بالبقاء على أرضه
والتمتع بكرامته.
هذه بعض عناصر البنية النفسية لسكان غزة التي جعلتهم يرفضون التخلي عن
أرضهم ومنازلهم بعد هدمها، ويترفعون عن الوعود التي قدمت لهم كتعويضات لهم في حال
مغادرتهم الحدود التي تفصلهم عن بقية العالم. لهذا لم يكن مفاجئا أن يواصلوا
التحدي، من خلال الالتفاف حول
المقاومة، والانخراط فيها بقوة، والانضباط لتعليمات
مؤسساتها المختلفة بما في ذلك المؤسسة الشرطية والمدنية. فكانت تلك الجموع التي
ظهرت فجأة في قلب غزة المدمرة، وتلك المشاركة الشعبية الواسعة في عملية تسليم الأسيرات
الثلاث.. مشهدا لا يوجد إلا في غزة الصامدة.