بين الغضب والشماتة، استقبل الإسرائيليون مشاهد الإفراج عن الدفعة الخامسة من الأسرى. فبينما احتفل أهالي الأسرى وطالبوا الحكومة في الإسراع بالانخراط في مفاوضات المرحلة الثانية، عاد بعض المسؤولين للتذكير بمسؤولية الحكومة عن مشاهد الهزال التي ظهرت على الأسرى الثلاثة، الذين كان بالإمكان الإفراج عنهم وعن بقية الأسرى في شهر أيار 2024، ومقابل ذلك عبّر آخرون عن الغضب.
رئيس دولة
الاحتلال إسحق هرتسوغ، ووزير الخارجية جدعون ساعر، اتهما حركة حماس بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، ورئيس الحكومة بنيامين نتنياهو توعّد بأن يكون لتلك المشاهد ثمن.
أمّا عن بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، كنموذجين للتيار الصهيوني اليميني الديني المتطرّف، فلم يعد ثمّة ما يمكن إضافته إلى ما بات الجميع يُدركه من سياسات ومواقف.
لا يريد الإسرائيلي أن يعترف أن «حماس» صاحبة فضل في الاحتفاظ بالأسرى أحياء وأنهم انطلاقاً من قيم
الفلسطيني، وأيضاً انطلاقاً من مصلحته الوطنية سيحافظ على أسراه حتى لو كان ذلك على حساب طعامه وشرابه وحياته.
لا يريد الإسرائيلي أن يعترف أن قصفه العدواني والجنوني للأنفاق، والمنازل والمنشآت والمؤسّسات، قد أدّى إلى قتل العديد من الأسرى، وكان يمكن أن يكون الذين تمّ الإفراج عنهم، من بين الضحايا.
كلّ ما يصدر عن المسؤولين الإسرائيليين لا يمكن أن يخفي حقيقة أن حكومتهم وجيشهم أطالوا أمد حربهم الإجرامية، وأصرُّوا على ممارسة الضغط العسكري للإفراج عن الأسرى وأنهم المسؤولون حصرياً عن كلّ ما أصاب أسراهم.
الأغرب، ويثير السخرية حين يصدر عن مسؤولين في حكومة ودولة الاحتلال اتهام بأن
المقاومة الفلسطينية ارتكبت جرائم ضدّ الإنسانية ليس ارتباطاً بما وقع في «طوفان الأقصى»، وإنّما بسبب حالة الهزال التي ظهر عليها الأسرى الثلاثة.
عبثاً تحاول السردية الإسرائيلية الرسمية، حتى إقناع مجتمعها بعد أن كشفت وقائع الحرب كلّ فصولها، ولم يحظ بالحدّ الأدنى من الثقة لا في الدولة العبرية ولا خارجها.
على الأرجح أن مصدر الاستفزاز والغضب الظاهر والمكتوم لم يكن متعلّقاً بحالة الأسرى الثلاثة، وإنّما بالرسائل التي حملتها الاستعراضات المثيرة التي رافقت عملية الإفراج.
يتساءل المُشاهد، عن المقاتلين بزيّهم الرسمي النظيف وأسلحتهم المتنوّعة، عن مدى صحّة الادعاءات الإسرائيلية من أنّ الجيش تمكن من تقويض وتفكيك كتائب المقاومة وقتل عشرات الآلاف منهم.
ويتساءل المشاهد، عمّا بقي من الأنفاق، كما ظهر في شريط الإعداد للإفراج عن الأسرى، ومصير الادعاءات الإسرائيلية من أنها دمّرت معظمها باستخدام وسائل متعدّدة من الغاز إلى غمرها بالمياه إلى إلقاء قنابل يزيد وزنها على 2000 رطل.
من أين خرجت تلك السيّارات ذات الدفع الرباعي النظيفة بعد أن حلّ الدمار الشامل على كلّ ركنٍ من أركان قطاع غزّة.
نبرة الشعور بالانتصار والتحدّي خيّمت على مشاهد تسليم الأسرى، ابتداءً من وضع صورة نتنياهو في المثلّث الأحمر، مروراً بشعار (نحن «الطوفان».. نحن «اليوم التالي») بما ينطوي عليه ذلك من ثقة بقدرات المقاومة حتى لو أرادت دولة الاحتلال العودة إلى العدوان، ويثير غضب وقلق المسؤولين الإسرائيليين من مشاهد علم فلسطين، والقدرة على التنظيم، وحماسة الحاضنة الشعبية التي أصابها ما لم يصب بشراً في هذا الزمان.
الإسرائيلي لا يجد نفسه متكافئاً إن هو قارن بين أحوال أسراه وأحوال الأسرى الفلسطينيين القابعين في سجون كيانه، والمفرج عنهم إن كان العالم لم يشعر بالقلق إزاء السياسة الاحتلالية التي تتعامل مع آلاف الأسرى الفلسطينيين منذ عقود، فإن هذا الملفّ ينطوي على صفحات سوداء تخالف كلّ قوانين وقيم الدنيا.
فقط يُستثار المجتمع الدولي، بقوّة حين تتعرّض دولة الاحتلال لخطر ما، ولكنه لا يُستثار بالقدر الكافي إلّا حين ترتكب الأخيرة جرائم حرب إبادة عنصرية، تفقأ دلالاتها عيون العميان.
لا يتحرّك المجتمع الدولي، والمقصود به الفاعلون الحاضنون والداعمون للمشروع الاستعماري، حين يتعرّض الأسرى الفلسطينيون للتعذيب، والاحتجاز من دون محاكمة «الاعتقال الإداري» مع غياب الرعاية الصحية، ونقص الطعام ومياه الشرب والاستحمام، والحق في الزيارة.
يومياً، تعتقل دولة الاحتلال عشرات الفلسطينيين في الضفة الغربية، واعتقلت الآلاف من القطاع خلال حربها الوحشية، بمن في ذلك الأطباء والطواقم الطبية، وعمّال البلديات، ومنتسبو «الدفاع المدني»، أكثر من 250 شهيداً من الأسرى الفلسطينيين قضوا في السجون تحت التعذيب، ونتيجة الإهمال الطبّي، ويخضعونهم للتجارب.
لا تزال صورة الدكتور حسام أبو صفيّة، مدير مستشفى كمال عدوان، ماثلة في الأذهان، وهو يمضي على قدميه نحو الدبابة الإسرائيلية التي قام طاقمها باعتقاله وتعذيبه، ولم يكن نموذجاً حصرياً.
بالتأكيد لا تثير مشاهد الأسرى الفلسطينيين الذين تمّ الإفراج عنهم أي مشاعر أو مواقف إنسانية لدى المؤسّسة العسكرية والأمنية والسياسة الاحتلالية الإسرائيلية.
في الدفعة الأخيرة من الأسرى، 6 منهم، تمّ تحويلهم مباشرة إلى المستشفيات بسبب حالتهم الصحية المزرية، وقبل أن يتمكنوا من معانقة أهليهم وأحبّائهم.
تسمح آلة القتل، لذوي أسراهم أن يحتفلوا كما يشاؤون وتمنع الفلسطينيين من أبسط مظاهر الاحتفال، تحت تهديد الاعتقال، بل إن جيش الاحتلال يقوم بدهم منازل بعض الأسرى، قبل أن يتمّ الإفراج عنهم، لتحذيرهم حتى من تناول الحلوى.
(الأيام الفلسطينية)