كتاب عربي 21

المصريون ينتفضون في مواجهة التغييب

عبد الناصر سلامة
"كأن الموقف المصري يتماهى مع الإسرائيلي في الإبادة والتجويع والحصار"- جيتي
"كأن الموقف المصري يتماهى مع الإسرائيلي في الإبادة والتجويع والحصار"- جيتي
منذ بدء عملية طوفان الأقصى، أي على مدى ما يقرب من عامين، عاش الشعب المصري حالة من الحيرة منقطعة النظير، تمثلت فيما يردده الإعلام الرسمي على لسان المسؤولين على مدار الساعة، بأن معبر رفح الفاصل الحدودي مع قطاع غزة مفتوحا  طوال الوقت، إلا أن كيان الاحتلال هو الذي يغلق المعبر من الجانب الآخر، في الوقت الذي دافع فيه الكيان عن نفسه أمام محكمة العدل الدولية بالعكس تماما، نافيا أنه يغلق المعبر، وهو الأمر الذي لم تستغله السلطات المصرية بالتكذيب أمام المحكمة، أو بالفعل على أرض الواقع، وذلك بتسيير قوافل المساعدات الإنسانية، للاصطدام بالجانب الآخر على مرأى ومسمع العالم.

يأتي ذلك في الوقت الذي سمحت فيه مصر للكيان باحتلال محور صلاح الدين (فيلادلفيا) على خلاف الاتفاقيات المبرمة بين الجانبين، ومن ثم كان احتلال معبر رفح أمرا طبيعيا، لم تعترض عليه مصر أيضا، مما ضيق الخناق على الشعب الفلسطيني في القطاع، البالغ تعدادهم مع بداية حرب الإبادة نحو 2.3 مليون نسمة، سقط منهم ما يزيد على 60 ألف شهيد، ونحو 170 ألف جريح، بخلاف الآلاف ممن غادروا القطاع لأسباب مختلفة، ما بين مرافقة المرضى، والفرار من الحرب، والهجرة وغيرها.

الأمر في الشارع، خلال الأيام الأخيرة، خرج عن السيطرة إلى حد ما، نتيجة حالة الجوع التي يعانيها سكان القطاع الآن، والتي لم يشهد لها التاريخ الحديث مثيلا، لا في وقت الحرب ولا وقت السلم، والتي تسفر عن سقوط أعداد من الوفيات بشكل يومي، بين كل الأعمار، بخلاف من يسقطون برصاص الاحتلال

عامان من الأحداث الساخنة، التزم خلالهما الشعب المصري الصمت على عمليات القتل والإبادة في صفوف أشقائه الفلسطينيين، ومخططات التجويع والموت ليل نهار، وسط حالة من الضجر والاستياء، مع منع السلطات أبسط مظاهر الشجب والاحتجاج، التي نراها في كل دول العالم الغربي بشكل خاص، إلا أن الأمر في الشارع، خلال الأيام الأخيرة، خرج عن السيطرة إلى حد ما، نتيجة حالة الجوع التي يعانيها سكان القطاع الآن، والتي لم يشهد لها التاريخ الحديث مثيلا، لا في وقت الحرب ولا وقت السلم، والتي تسفر عن سقوط أعداد من الوفيات بشكل يومي، بين كل الأعمار، بخلاف من يسقطون برصاص الاحتلال.

ربما كانت الشرارة الأولى هي البيان الذي صدر عن مشيخة الأزهر، وتم التراجع عنه بعد دقائق معدودة، بضغوط رسمية كما هو واضح، على الرغم من أن الأزهر قال في توضيح: إن التراجع يهدف إلى خدمة المفاوضات بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، وهو ما لم يكن مقنعا لأي متابع من قريب أو بعيد، ما جعل الأحداث تتوالى، بقيام مجموعات من المصريين في الخارج بإغلاق بوابات السفارات والقنصليات المصرية بالجنازير والأقفال، في أكثر من عاصمة ومدينة، في عملية رمزية تشير إلى إغلاق القطاع الفلسطيني المحاصر مصريا بالأسلاك الشائكة والجدران والحواجز.

في الوقت نفسه، واحتجاجا على إغلاق معبر رفح، جاءت العملية المتداولة لاقتحام أحد مقرات الأمن الوطني، في منطقة المعصرة في محافظة حلوان، على أطراف القاهرة، من قبل شابين احتجزا أحد الضباط، حسب بيان أصدراه وفيديو تم بثه، لتضيف هي الأخرى أزمة جديدة للنظام، لم تكن في الحسبان بأي حال، وهو ما حدا بوزارة الداخلية لإصدار بيان على الفور، ينفي هذه العملية جملة وتفصيلا، في الوقت الذي تم فيه اعتقال الشابين. إلا أن هذه العملية تحديدا فتحت الباب واسعا أمام مناقشات شعبية، محورها بالدرجة الأولى هي إمكانية وأهمية قيام كل فرد بما يستطيع، للضغط في اتجاه إنهاء الحصار على الشعب الفلسطيني الشقيق في القطاع.

المتابع لحالة الشارع في مصر، وسجالات "السوشيال ميديا" سوف يكتشف أن ذلك الحراك في الخارج نحو السفارات، أو في الداخل نحو الأجهزة الأمنية، قد لاقى تجاوبا إلى حد كبير، خصوصا في ضوء ما أسفر عنه من السماح بعبور شاحنات المساعدات، والسماح أيضا بعمليات إنزال جوية لمساعدات أخرى، في دلالة على أحد أمرين هما، إما أن القرار بيد مصر وأنها خضعت للضغوط، وإما أنها تستطيع الضغط على كيان الاحتلال، وهو ما أسفر في أي من الحالتين عن النتيجة الإيجابية، وهي السماح بإيصال المساعدات، التي أثارت حالة من البهجة بين طوائف الشعب، خصوصا أنها تزامنت مع نداء القيادي في حركة حماس خليل الحيّة للشعب المصري قائلا: يا أهل مصر، أيموت إخوانكم في غزة من الجوع، وهم على حدودكم؟ وهو النداء الذي لاقى تعاطفا كبيرا.

ويبدو أن الجميع قد ألقى بكل الكرات دفعة واحدة في الملعب المصري، وتحديدا في ملعب النظام، الذي أصبح متهما بالمشاركة مع كيان الاحتلال في تجويع شعب شقيق، إلى حد الموت والإبادة، وهو الأمر الذي يصعب نفيه في ظل الظروف الحالية التي شهدت متغيرات كثيرة، خصوصا في ظل إعلام رسمي ضعيف، يفتقر إلى المصداقية، بعد أن أمضى أكثر من عشر سنوات في خدمة سياسات تغييب واسعة، دون تطوير للمضمون أو الوجوه على حد سواء، مما جعل من قضية غزة حالة عامة، وحّدت صفوف المصريين للمرة الأولى منذ عام 2013، بعد الإطاحة بحكم الإخوان المسلمين، وانقسام الشارع إلى أبعد مدى.

وقد أرغمت هذه التطورات، فيما يبدو، الرئيس عبد الفتاح السيسي للخروج بنفسه لإلقاء بيان، استمر نحو سبع دقائق، ينفي فيه مسؤوليته أو مسؤولية بلاده عن ذلك الذي يجري، مطالبا الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالتدخل لوقف الحرب وإدخال المساعدات، باعتباره هو القادر على ذلك، على حد تعبيره. إلا أن بيان السيسي لم يكن مقنعا أيضا، لأنه لم يحمل جديدا عما يتناوله الإعلام طوال الوقت، وعما ردده هو في السابق، ناهيك من أنه لم يتضمن أي خطة مصرية لتدارك الأمر، أو أي تغيير في الموقف مع كيان الاحتلال، بل على العكس، حاول تقزيم حجم مصر في التعامل مع الأحداث.

أمام انتفاضة شعبية حقيقية، قد تكسر حاجز الخوف بين عشية وضحاها، بالنزول إلى الشارع، الذي يعد بمثابة خط أحمر مع النظام، ما يوجب الإسراع بتدارك الأمر من وجوه عديدة، أهمها، تغيير الموقف السياسي فيما يتعلق بحرب الإبادة في قطاع غزة، ليس ذلك فقط، بل تغيير الموقف من الكيان الصهيوني بشكل عام

نحن إذن أمام انتفاضة شعبية حقيقية، قد تكسر حاجز الخوف بين عشية وضحاها، بالنزول إلى الشارع، الذي يعد بمثابة خط أحمر مع النظام، ما يوجب الإسراع بتدارك الأمر من وجوه عديدة، أهمها، تغيير الموقف السياسي فيما يتعلق بحرب الإبادة في قطاع غزة، ليس ذلك فقط، بل تغيير الموقف من الكيان الصهيوني بشكل عام، في ضوء اتهامات للنظام بمحاباته وخشيته، لأسباب قد تتعلق بميول وأهواء شخصية، أو حسابات عسكرية وسياسية، إلا أنها في كل الأحوال لا تصون الكرامة، ولا تحمي الأمن القومي، ولا تحقق السلام للمصريين على المدى البعيد، وربما القريب أيضا.

على العكس تماما، سوف يكتشف المتابع للحالة المصرية أن هناك حالة من الجمود، إن لم يكن الإصرار، على استمرار الموقف السياسي كما هو، خصوصا مع ما يردده بعض المسؤولين، إلى حد التفاخر، بإغلاق آلاف الأنفاق مع القطاع، وبناء الكثير من الجدران والحواجز، إلى غير ذلك مما يعد أعمالا عدائية مع الشعب الفلسطيني، وكأن الموقف المصري يتماهى مع الإسرائيلي في الإبادة والتجويع والحصار، خصوصا مع استمرار العلاقات التجارية والأمنية والسياسية مع الكيان دون تعديل، على الرغم من جرائمه في المنطقة ككل، وليس في غزة أو الضفة الغربية فقط.

لا أحد يستطيع أن ينكر أن النظام الحاكم في مصر، يعيش أزمة داخلية، تتمثل في حالة من الاستقطاب واسعة النطاق، تهدد بمصادمات غير محمودة بين لحظة وأخرى، ناهيك عن حالة الضغط الأمني الذي جعل من عشرات آلاف السياسيين في السجون أمرا تقليديا، إضافة إلى الحالة المعيشية الصعبة، نتيجة ارتفاع الأسعار، وانخفاض قيمة الجنيه، وتردي الأوضاع الخدمية بشكل عام. إلا أن قضية الإبادة في قطاع غزة، أصبحت تتصدر الساحة، إلى الحد الذي لم يعد يجدي معه تغييب إعلامي منفّر، أو حجج سياسية خادعة، أو أي شيء من هذا القبيل.

بعض المراقبين يؤكدون أن الحكومة الإسرائيلية، بالتعاون مع الإدارة الأمريكية، سوف تبذل قصارى جهدها للتوصل إلى صيغة اتفاق ينهي الأزمة في القطاع على أي وجه، إنقاذا للنظام في مصر، خشية الاستبدال بما لا يحمد عقباه، بينما يرى آخرون أنها قد تكون فرصة أمامها للخلاص من نظام رفض توطين أهالي غزة في سيناء، على أمل تجهيز بديل يمكن أن يوافق على ذلك الطرح، إلا أنه في كل الأحوال يمكن التأكيد على أن عجلة الاستفاقة قد دارت في صفوف المصريين، ما بين مواطني الداخل، ومغتربي الخارج على حد سواء، وفي ظل تنسيق واضح بين نخبة من هؤلاء وفاعلين من أولئك، يمكن التنبؤ بحراك واسع على المدى القريب، قد يغير الكثير من شؤون وخرائط المنطقة.
التعليقات (0)

خبر عاجل