قضايا وآراء

من لحد إلى أبو شباب: تاريخ يعيد نفسه

علاء خليل
"إذا كان ياسر أبو شباب اليوم يعتقد أنه مختلف، وأن الظروف ستسمح له بالتمدد والسيطرة، فعليه أن يتأمل جيدا في أسماء من سبقوه"- إكس
"إذا كان ياسر أبو شباب اليوم يعتقد أنه مختلف، وأن الظروف ستسمح له بالتمدد والسيطرة، فعليه أن يتأمل جيدا في أسماء من سبقوه"- إكس
ينفذون المهام الموكلة إليهم بدقة، يفتحون الطرق أمام الاحتلال، يهيئون الأرض لما يُراد لها أن تكون، ويقدّمون أنفسهم بوصفهم "أمرا واقعا"، أو "صوت العقل" في زمن الاضطراب. لكنهم، دون استثناء، يسقطون حين تنتهي وظيفتهم، ويغادرون كما جاءوا: بلا جذر، بلا ذاكرة، وبكثير من العار.

هذا هو مصير كل من ارتضى أن يكون أداة بيد قوة أجنبية، سواء في لبنان أو أفغانستان، أو في أي بقعة حاولت فيها الأنظمة الدولية أو الاحتلالات فرض نماذج محلية لإدارة الواقع على حساب إرادة الناس. واليوم، في غزة، تتكرر القصة ذاتها بصيغة جديدة، يمثلها ياسر أبو شباب، الذي ظهر فجأة في مشهد الجنوب الغزّي وسط الفوضى، ليقود مجموعة مسلحة لا تنتمي لأي مسار وطني وتتبع أجندات مشبوهة، ولا تستمد شرعيتها من الناس، بل من ظرف استثنائي خطير.

في غزة، تتكرر القصة ذاتها بصيغة جديدة، يمثلها ياسر أبو شباب، الذي ظهر فجأة في مشهد الجنوب الغزّي وسط الفوضى، ليقود مجموعة مسلحة لا تنتمي لأي مسار وطني وتتبع أجندات مشبوهة، ولا تستمد شرعيتها من الناس، بل من ظرف استثنائي خطير

أنطوان لحد: النموذج الأكثر وضوحا

أنطوان لحد لم يبدأ خائنا، لكنه انتهى كذلك. كان ضابطا في الجيش اللبناني، ثم قاد "جيش لبنان الجنوبي" الذي شكّله الاحتلال الإسرائيلي خلال احتلاله للجنوب. ادّعى أنه يحفظ الأمن، لكنه كان يدير المعتقلات ويتلقى التعليمات من تل أبيب. لم يكن جيشه يمثل الجنوب، بل كان يمثل الاحتلال في ثوب محلي.

وعندما قررت إسرائيل الانسحاب من الجنوب اللبناني عام 2000، لم تفكر لحظة في مصير لحد وجيشه. انهار كل شيء خلال ساعات، وتبرأ الناس من هذه المليشيا، وفرّ قادتها إلى إسرائيل، حيث قضى لحد آخر أيامه معزولا، لا وطن له، ولا قضية يحملها.

كرزاي: سلطة بُنيت على الاحتلال

حامد كرزاي، الذي شغل منصب رئيس أفغانستان بعد الغزو الأمريكي بين عامي 2001 و2014، قبل أن يخلفه أشرف غني، يُعد من أبرز النماذج على السلطات التي نشأت تحت المظلة الأجنبية. عاد إلى كابل محمولا على ظهر الدبابات الأمريكية، وتولى الحكم بغطاء دولي، لا بإرادة شعبية. حاول أن يبدو معتدلا، وشارك في مؤتمرات دولية، وتلقى دعما واسعا، لكنه لم يمتلك يوما سلطة فعلية تتجاوز القواعد الأمريكية المنتشرة في البلاد.

حكم كرزاي باسم الاحتلال، وعندما انتهى دوره وجاء من بعده غني، ظل النظام بأكمله رهينة للدعم الأجنبي، وحين انسحبت القوات الأمريكية عام 2021، انهار هذا البناء في أيام معدودة، وسقطت "الدولة" التي لطالما قُدّمت كنموذج ديمقراطي. انتهى كل شيء، وبقيت الحقيقة واضحة: لا شرعية تُبنى على الاحتلال، ولا مشروع ينجو من دون جذور وطنية.

أدوات تنتهي بانتهاء الحاجة إليها

النماذج كلها تؤكد حقيقة واحدة: من يُستخدم كأداة، يُستغنى عنه بمجرد انتهاء مهمته؛ لا الاحتلال يُبقيهم، ولا الناس تغفر لهم، ولا التاريخ يرحمهم. تتبدل الشعارات (حماية، أمن، تسهيل، إعادة بناء) لكن الجوهر واحد: وظيفة مؤقتة مقابل نفوذ هش، ينتهي فجأة ويترك خلفه سيرة سوداء.

ما يحدث في جنوب غزة اليوم يعكس هذه الديناميكية بوضوح، فالرجل الذي خرج من السجن متهما بقضايا تهريب ومخدرات وسوابق جنائية، بات يتحرك بمواكب مسلحة، ويفرض نفسه كسلطة ميدانية بقوة السلاح وليس بقرار وطني. إنه ليس حالة خاصة، بل جزء من سلسلة طويلة من النماذج التي طُرحت في سياقات مشابهة وانتهت بمجرد أن انكشفت طبيعتها الحقيقية.

غزة ستبقى.. والواهمون سيرحلون

غزة ليست فراغا سياسيا، وليست ساحة مفتوحة لمن يشاء أن يتصدر المشهد بالسلاح أو بالعلاقات. هي أرض ذات ذاكرة، ومجتمع صلب، دفع أثمانا باهظة ليحافظ على هويته الوطنية. من يظن أنه يستطيع بناء نفوذ على أنقاض المعاناة، دون توافق شعبي أو مشروع وطني، يعيش وهما كبيرا.

كل من سبقوا أبو شباب ظنّوا الشيء نفسه: أنهم قادرون على السيطرة، وتثبيت نفوذهم، وتمرير مشاريعهم الخاصة أو الأجنبية، لكنهم اختفوا من المشهد، وتركوا خلفهم اسما ثقيلا لا يُذكر إلا بسياق السقوط.

غزة ليست بحاجة إلى قوى موازية، ولا إلى أمراء حرب، هي بحاجة إلى مشروع وطني، ومؤسسات وطنية، وقيادة مسؤولة تعبّر عن نبض الناس المكلومين

غزة ستبقى، لا لأن قوتها العسكرية عظيمة، بل لأن وجدانها الشعبي ثابت، وذاكرتها طويلة. أما من جاء في غفلة من الزمن، أو تحت عباءة جهة خارجية، فمصيره محسوم، ولو بعد حين.

لعنة التاريخ تطارد من يخونون قضاياهم

من أنطوان لحد إلى كرزاي، ومن كل من خُيّل له أن الاحتلال سيحميه أو يخلّد مشروعه، تنتهي القصة دائما بشكل واحد: سقوط، وفرار، ونفي، أو قتل ومحو من الذاكرة الوطنية.

وإذا كان ياسر أبو شباب اليوم يعتقد أنه مختلف، وأن الظروف ستسمح له بالتمدد والسيطرة، فعليه أن يتأمل جيدا في أسماء من سبقوه، ليدرك أن من يستخدمهم الاحتلال أو يُمنَحون الغطاء الدولي لفرض واقع مشوه، لا مكان لهم في الختام إلا في الهامش المظلم للتاريخ.

غزة ليست بحاجة إلى قوى موازية، ولا إلى أمراء حرب، هي بحاجة إلى مشروع وطني، ومؤسسات وطنية، وقيادة مسؤولة تعبّر عن نبض الناس المكلومين.

والخلاصة واحدة:

من يعمل خارج الإرادة الوطنية.. يرحل، ومن يظن أن غزة تقبل الاستبدال، سيكتشف -عاجلا أو آجلا- أنه مجرد عابر، بينما تبقى غزة، بثباتها ومقاومتها.
التعليقات (0)