الكتاب: اختراع الشعب اليهودي
الكاتب: شلومو ساند، ترجمة سعيد عيّاش.
الناشر: مدار المركز الفلسطيني للدراسات
الإسرائيلية، رام الله والأهلية للنشر والتوزيع، عمان المملكة الأردنية
الهاشمية2011.
عدد الصفحات: 415 صفحة
ـ 1 ـ
في مقابلة مع قناة "i24" العبرية اعتبر نتنياهو نفسه في "مهمة أجيال" وفي
"مهمة تاريخية وروحية ينوب فيها عن الشعب اليهودي، قائلا: "عندما أرى
أنني أنجزت كل ما علي إنجازه، وما زال لدي الكثير من المهام، فسأستمر". ونزّل
"التزامه" هذا ضمن "رؤية إسرائيل الكبرى" التي تمتدّ من النهر
إلى النهر وتشمل الأراضي الفلسطينية المحتلة وأجزاء من الأردن ولبنان وسوريا ومصر.
لقد دفعنا زعمه هذا إلى البحث في جذور
المعتقد بوجود "شعب يهودي" و"هوية قومية يهودية". وعدنا إلى
الكتابات اليهودية نفسها. فانطلقنا من كتاب "اختراع الشعب اليهودي" الذي
ألّفه الأكاديمي شلومو ساند، وترجمه سعيد عيّاش. وجعلناه سبيلنا للحفر في الخلفيات
العميقة لهذا الخطاب السياسي.
ـ 2 ـ
يبدأ شلومو ساند الصفحات الأولى من أثره
بتوطئة اعتبرها "توثيقا تاريخيا" سرد من خلالها سيرة عائلته المقيمة
بيافا. وخلاصتها أنها أضحت إسرائيلية منخرطة فعليا في مفهوم "الشعب
اليهودي" بالصدفة. فلا رابط دموي أو عرقي يجمعها بغيرها من العائلات المهاجرة
التي وصلت إلى فلسطين بالصدفة بدورها. ورغم أنّ الكتاب تأريخي فكري بالأساس فقد
استند إلى القصّ ليشكل أطروحته التي سيعمل على البرهنة عليها من خلال هذا
الأثر ومدارها على أنّ اليهود كانوا على
مرّ التاريخ يفتقرون إلى ما يؤسس لهم هوية قومية مشتركة أو يجعل منهم شعبا واحدا وعلى
أن ما يقدّم الآن على أنه حقائق تاريخية ليس في حقيقة الأمر غير تزييف بدأت ملامحه
الأولى تتشكل بداية من ثلاثينات القرن التاسع عشر.
لقد نزّل نتنياهو "مهمّته المقدسة" ضمن الحلم بـ"ـإسرائيل الكبرى" التي تقوم على أرض الميعاد والتي وعد بها الله إبراهيم وذريته لتمتدّ "من النهر إلى النهر"، من نهر النيل في مصر إلى نهر الفرات في العراق. ولا شكّ أن نتنياهو يدغدغ الشعور الديني اليهودي الموجه للسياسات الإسرائيلية والمحدّد لنتائج صناديق الانتخاب.
على المستوى الطرح الفكري الصرف الذي وسم
فصول الأثر حاول الباحث أن يحيط بالتعريفات المختلفة التي تؤسس مفهوم القومية.
فعرض الدلالات المختلفة لمصطلحات "شعب" و"عرق أو إثنوس" و"أمة"
و"قومية وبلد" و"وطن"، مبيّنا أنها اكتسبت على مر التاريخ
دلالات مختلفة، كحال غيرها من المصطلحات المجردة الكثيرة. وهذا طبيعي. فمفهوم
"الأمّة" [nation]اليوم الذي
يعني وجود هوية عليا جبارة، يتنافر مع تشكّل الكينونات الاجتماعية المتغيرة
بطبعها. ففي في اللغة اللاتينية المتأخرة استخدم هذا المصطلح للإشارة إلى كل
مجموعة بشرية كبيرة ذات علاقات داخلية مختلفة. وفي روما القديمة استعمل المصطلح في
تصنيف مجموعات الحيوانات. أما في العصور الوسطى فأفاد "مجموعات من الطلبة
الجامعيين القادمين من مناطق نائية".
ينتهي الباحث من خلال هذا المقاربة اللسانية
إلى أنّ مصطلح "nation" قد ترجم إلى
اللغة العبرية الجديدة بالمصطلحات التالية [قوم و أمة وشعب]. وكان ذلك في كتب
التاريخ أولا ثم هيمن مصطلح شعب في استعمال الإسرائيليين اليوم. ويفيد الوحدة غير
قابلة للانفصام. ويجد في ذلك ضربا من التزييف المعرفي فرضه من اخترعوا "الشعب
اليهودي" اختراعا.
ـ 3 ـ
من منظور تاريخي سوسيولوجي يذكر الباحث أن
عبارة شعب التي تعني اليوم وجود ثقافة عليا رسمية تربط مكونات المجتمعات، قد نشأت
في معظم المجتمعات الزراعية التي سبقت بداية صعود المجتمع الحديث في أوروبا في
القرن الثامن عشر. وكانت تطلق على مجموعات ذات سمات مختلفة. فتفيد القبائل قوية أو
المجتمعات التي تعيش في ظل ممالك صغيرة أو إمارات، أو يشار بها إلى الجماعات
الدينية أو الطبقات الدنيا التي لا تنتمي إلى النخب السياسية والثقافية. وإجمالا
كانت تدلّ على وجود مجموعات بشرية. ولكنّ حدود هويتها ظلت فضفاضة وغير محددة
نهائيا. والمطابقة بين دلالة الماضي والحاضر حولت المصطلح "إلى جسر علوي يربط
بين الماضي والحاضر، أقيم فوق الفجوة العقلية العميقة التي خلفتها الحداثة، وهو
جسر راح المؤرخون المهنيون في كل الدول القومية الجديدة يتمشون فوقه براحة ويسر ".
وجد المؤرخون والباحثون في تطور المجتمعات،
في مصطلح «إثنوس» (أو ethnie إثني) بديلا عن مصطلح الشعب
يجنبهم هذا التماس بين المفاهيم التي تتنزّل في سياقات إبستيمولوجية خاصّة اليوم
و"الماضي الغارق في أحشاء الزمن". فهو اصطلاح يقع وسطا بين الـعرق و
الـشعب. فيمزج على نحو معقول بين الخلفية الثقافية وروابط الدم، وبين الماضي اللغوي
والأصل البيولوجي. ومع ذلك فالوحدة التاريخية الثقافية واللغوية لجماعة إثنية مّا
لا تكون دائما محددة المعالم تماماً. وكثيرا ما يفضي الاصطلاح إلى كيان مبهم.
ـ 4 ـ
لم يكن شلومو ساند يضبط هذه المفاهيم إلا
ليصلها بمفهوم "الشعب اليهودي". فيؤكد أنّ أول كتابة تاريخ عام لليهود
حدثت في نهاية القرن الأول للميلاد عبر المؤرخ يوسيفوس فلافيوس. ولكن الرّجل كان
يهوديا هيلينيا مؤمنا أكثر من كونه مؤرخا. وهذا ما جعله يستند إلى قصص خلق الكون
في التوراة فيجعلها المصدر الوحيد له. ويستطرد كثيرا في وصف تاريخ أبناء يهودا منذ
نهاية قصص التناخ. وكان يعمد إلى إضافات لخلق رواية متسلسلة ومتماسكة. والتناخ
مجموعة من المصادر تمثل الكتاب المقدس اليهودي،
يشار إليه في الأوساط العلمية بهذه التسمية. وكان يعتقد أنه وحي إلهي مباشر نقلت
قصصه من الإله و أنها لذلك تمثل تاريخا صحيحا. ولهذا المنهج كان الأثر
"التاريخي" يدمج أفعال الرب مع أفعال البشر من دون أي فصل أو وساطة.
ومنذ محاولة يوسيفوس فلافيوس حتى العصر
الحديث لم يحاول المؤرخون اليهود كتابة أي تاريخ عام عن ماضيهم. فكأنّ اليهودية،
وفقا للباحث، كانت ترفض بشدة إلقاء نظرة على ماضيها القريب منها أو البعيد.
ـ 5 ـ
في بداية العصر الحديث ستظهر "حركة
حكمة إسرائيل" في ألمانيا. فتحاول تدارك تأثير الاستناد الحرفي إلى التناخ
وتقاربه المقاربة العقلانية. فقَصصه كان يفتقد إلى المصداقية التاريخية أو
المنطقية. وكان لا بدّ من اعتباره تدوينا بشريا لاحقا لتعاليم الإله. فصدر في
العام 1820 الجزء الأول من كتاب "تاريخ الإيزرائيليتيم منذ أيام المكابيين
حتى عصرنا". واختار مؤلفه يوسيفوس
فلافيوس عبارة إيزرائيليتيم (إسرائيليين) بعد أن أخذ اليهود في ألمانيا وفرنسا
يطلقون على أنفسهم صفة الإسرائيلي تفاديا لاستخدام مصطلح يهود الذي كان مشحونا، بدلالات
سلبية للغاية .
ويعرض الباحث السياق السياسي والمعرفي
والتاريخي لبروز حركة حكمة إسرائيل. فألمانيا حينها التي لم تكن تشكّل كياناً
سياسياً واضح المعالم بقدر ما كانت تمثل مفهوما ثقافيا - لغويا. ولكنّ الشعور
القومي بدأ يفرض نفسه فيها وفي أوروبا عامّة. وكان التّطلع إلى تحقيق المساواة في الحقوق المدنية كبيرا. ضمن
هذا الأفق مالت كتابات النّخب اليهودية إلى تأييد تيار الإصلاح العارم، وكشفت عن
تعطش أصحابها للاندماج في ألمانيا الجديدة
الآخذة في التكوّن. ويمكن أن نوجز أطروحة
هذه الحركة في كون التاريخ اليهودي لا يبدأ بقصة اعتناق إبراهيم لليهودية ولا
بنزول التوراة في سيناء وإنما بـالعودة إلى صهيون من بابل، ففي تلك الفترة فقط،
حسبما يرى یوست وزونز، بدأت تنبثق اليهودية التاريخية - الدينية التي يكمن مصدر
تبلورها الثقافي في حقيقة المكوث في المنفى. فقد "غادر بنو إسرائيل مصر وهم
وحوش و جهلة". ومن أهل فارس اكتسبوا وجهة نظر دينية جديدة ونمط حياة، ولغة
وعلماء. وقبل فترة طويلة من خراب الهيكل الثاني آثر آباؤهم العيش خارج الديار
المقدسة، وعلى الرغم من انعزالهم الديني التقليدي فقد شكلوا دائما جزءا لا يتجزأ
من الشعوب التي احتكوا بها. فكانوا وديين تجاه أخوتهم في الدم لكنهم أراقوا دمهم
من أجل وطنهم حينما اقتضى الأمر ذلك. وعليه فإن حقبة المنفى هذه، بمعناها الواسع،
هي التي يجب أن تشكل بداية التاريخ اليهودي.
ـ 6 ـ
انطلاقا من هذه الأطروحة عمل یوست وزونز على
إقناع القراء الألمان، يهودا ومسيحيين على حد سواء، بأن الإيزرائيليتيم ، ورغم
عقيدتهم الخاصة، لا يجب أن يكونوا شعباً غريباً في أماكن تواجدهم في أنحاء العالم
.وكانت لهذا المؤرخ رؤيته الخاصّة التي جعلته يعيد كتابة تاريخ الإيزرائيليتيم.
فيمكن أن يكون اليهود قد انحدروا أصل مشترك، ولكن الجماعات اليهودية ليست أجزاء
مختلفة لشعب واحد. فهي تختلف تماماً من مكان إلى آخر في ثقافتها ونمط حياتها وكل
ما يجمع بينها أو يوحد هو عقيدة إلهية خاصة.
وستمثل ثلاثينيات القرن التاسع عشر بداية
القطيعة مع أطروحة "حركة حكمة إسرائيل" وفق الباحث شلومو ساند. فقد صاحبت صعودَ التيار المحافظ في
ألمانيا، موجةٌ معادية لليهود جعلتهم يتكاتفون ويظهرون باعتبارهم كتلة واحدة ذات
استمرارية تاريخية متراصة أكثر وصرفت نخبهم إلى العهد القديم فجعلوه نقطة انطلاقهم
في عملية اختراع "الأمة اليهودية". وفي النصف الثاني من القرن التاسع
عشر سيكتسب هذا الاختراع زخمه الذي سينتهي بالاستيلاء على فلسطين لتكون وطنا قوميا
لليهود بعد قرن.
ـ 7 ـ
يعدّ ينريش غريتز، المولود في إقليم بوزين
في بولندا من صاغ النماذج القومية لكتابة تاريخ لليهود ومن وضع خريطة الطريق لهذا
الشعب المفترض نحو وطنه المزعوم. فقد حبّر مؤلفه "اللغة العار" الذي بذل
فيه جهدا بانفعال وتناغم لاختراع "الشعب اليهودي". فنقد تصور جماعة حكمة
إسرائيل. وقال عن یوست وزونز مثلا [لقد مزق إربا مشهد البطولة، التي مضى عليها
آلاف السنوات. فقد أقام يوست بصورة مصطنعة بين الإسرائيليين القدماء، آبائهم
وأبناء عصر الأنبياء وشعراء المزامير، وبين اليهود، تلاميذ الحاخامات، فجوة سحيقة
وأطنب في الفصل بينهم، كما لو أن اليهود ليسوا من ذرية الإسرائيليين بل خرجوا من
الأرض].
لا يجب على العرب التهاون في حمل خطابه محمل الجدّ. فعَلم إسرائيل الذي يرفرف في مصر والأردن الآن يذكّر، بخطيه الأزرقين اللذين تتوسطهما نجمة داوود، هذا العقل الأسطوري بحلم أرض الميعاد التي تمتدّ "من النهر إلى النهر" مع كلّ هبة ريح.
وصوّر بالمقابل التاريخ اليهودي على أنه سلسلة
متصلة من المآسي وحلقات متسعة من المعاناة،.. فـ" ـ قد نجح ـ في حبك الرواية
الوحدوية والتي قلصت بدورها إشكالية التعددية وأنتجت تاريخا متعاقبا
ومتسلسلا". وأضحى عنده مصطلح شعب، يتضمن جزئياً المعنى المقصود بمصطلح
"أمة" المعتمد اليوم. وشكّل منجزه لاحقا منطلقا للباحثين عن الماضي
اليهودي الذين يتقمصون صورة المؤرخين والعلماء لكن يصدرون في جلية الأمر عن خلفيات
دينية توراتية ذات توجهات قومية. ومثّل مصدر إلهام لزعماء المستوطنين الصهيونيين
في فلسطين. وهكذا تحوّلت اليهودية من كونها حضارة دينية متنوعة وغنية إلى كونها
محنة شعب عرقي عريق أقتلع من وطنه في أرض كنعان.
ـ 8 ـ
تخوّل لنا هذه الإطلالة السريعة والمبسطة
على كتاب "اختراع الشعب اليهودي" للباحث الأكاديمي اليساري شلومو ساند
أن نفهم ما رمى إليه نتنياهو بالإشارة إلى "مهمة الأجيال" ووصفه
لها بكونها "مهمة تاريخية وروحية ينوب فيها عن الشعب اليهودي". فقد كان
يخاطب العقل اليهودي بما أورد من العبارات. وكان يدرك أن جهد نحو قرنين من عمل
النخب الألمانية لجعل التناخ مصدرا للمعارف التاريخية الصحيحة قد غسله تماما وجعله
طوع بنانه. فوثيقة الاستقلال التي أعلنت قيام دولة إسرائيل عام 1948 التي يفترض أن
تأخذ مسافة من الخطاب اللاهوتي المغلق، تعلن في ديباجتها: "نشأ الشعب اليهودي
في أرض إسرائيل، وفيها اكتملت صورته الروحانية والدينية والسياسية، وفيها عاش حياة
مستقلة في دولة ذات سيادة، وأنتج ثرواته الثقافية القومية والإنسانية، وأورث
العالم أجمع كتاب الكتب الخالد".
لقد نزّل نتنياهو "مهمّته
المقدسة" ضمن الحلم بـ"إسرائيل الكبرى" التي تقوم على أرض الميعاد
والتي وعد بها الله إبراهيم وذريته لتمتدّ "من النهر إلى النهر"، من نهر
النيل في مصر إلى نهر الفرات في العراق. ولا شكّ أن نتنياهو يدغدغ الشعور الديني
اليهودي الموجه للسياسات الإسرائيلية والمحدّد لنتائج صناديق الانتخاب.
ولكن لا
يجب على العرب التهاون في حمل خطابه محمل الجدّ. فعَلم إسرائيل الذي يرفرف في مصر
والأردن الآن يذكّر، بخطيه الأزرقين اللذين تتوسطهما نجمة داوود، هذا العقل
الأسطوري بحلم أرض الميعاد التي تمتدّ "من النهر إلى النهر" مع كلّ هبة
ريح.