ملفات وتقارير

هل انتهت فرص مصر للحفاظ على أمنها القومي الجنوبي عبر دعم سودان موحد؟

رفض عربي ودولي لإعلان حميدتي تشكيل حكومة سودانية موازية - أكس
رفض عربي ودولي لإعلان حميدتي تشكيل حكومة سودانية موازية - أكس
يواجه السودان أزمة تقسيم محتملة جديدة بعد 14 عاما من انفصال جنوب السودان عن الخرطوم عام 2011، ما يضاعف مخاوف المصريين والسودانيين من بدء مرحلة تشظي واسعة لبلد عربي أفريقي يُمثل لمصر امتدادا لجنوبها الضارب عبر التاريخ، كما وتجمعُ شعبي البلدين إخوة الدين، واللغة، ومياه النيل، وعلاقات التجارة، والأمن القومي.

المخاوف المصرية فجرها أداء قائد قوات "الدعم السريع" محمد حمدان دقلو (حميدتي) اليمين الدستورية رئيسا لمجلس رئاسي لحكومة ثانية بالسودان، بمواجهة حكومة الخرطوم، من مدينة "نيالا" عاصمة ولاية جنوب دارفور،  وهو إعلان، قُوبل برفض عربي ودولي واسع، إذ اعتبرت جامعة الدول العربية حكومة حميدتي الموازية "غير شرعية"، مؤكدة أنها تهديد مباشر لوحدة السودان وسيادته، وتدفع البلاد إلى عملية تقسيم حقيقة.


حكومة حميدتي التي شكّلت في تموز/يوليو الماضي ولقيت رفضا من الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي، والتي تضم دارفور وأجزاء من كردفان والنيل الأزرق، تقول إنها ليست "دولة موازية" وإنما ما وصفته بـ"المستقبل الوحيد للسودان"، وتتألف من 15 عضوا، من تحالف السودان التأسيسي"برئاسة حميدتي ونائبه عبدالعزيز الحلو، ومحمد حسن التعايشي، رئيسا للوزراء".

اظهار أخبار متعلقة


ومنذ 15 نيسان/ أبريل 2023، تعاني السودان، من حرب تصفها الأمم المتحدة بـ"الطاحنة" بين قوات "الدعم السريع" المدعومة من الإمارات، والجيش السوداني بقيادة عبدالفتاح البرهان، المدعوم من مصر باعتباره الكيان الشرعي، ما أدى لمقتل عشرات الآلاف وتشريد أكثر من 13 مليون سوداني.

لماذا تأخرت القاهرة؟
التطور الجديد على الأرض السودانية دفع مراقبين مصريين، للقول إن: "أمن مصر القومي إضافة لملف مياه النيل في خطر شديد، وأصبح على القاهرة التعامل مع 3 حكومات سودانية وليس واحدة، حتى ولو لم تعترف بحكومة حميدتي".

ويرون أنه "كان أمام رئيس النظام المصري عبدالفتاح السيسي، فرصة لإنهاء الأزمة، منذ ربيع 2023، وأخرى ثانية حين أعلن الدعم السريع من كينيا ومعه بعض المكونات السياسية السودانية وبرعاية إماراتية، عن حكومة سودانية موازية في شباط/ فبراير الماضي"، وأضافوا، كان يفترض بمصر اتخاذ خطوات جادة وسريعة منذ حزيران/ يونيو الماضي، حين سيطر حميدتي، وبمساعدة حليف السيسي والإمارات، الليبي خليفة حفتر، على المثلث الحدودي بين مصر والسودان وليبيا.

وفي آذار/ مارس الماضي، أكدت مصر رفضها إعلان حميدتي تشكيل حكومة موازية من كينيا، لكونه سيزيد من تعقيد الأوضاع سوءًا، إلا أن رد الفعل المصري بحسب معارضين مصريين كان خجولًا لم يتعدَّ البيان.

مخاطر الوضع الجديد على مصر
مع انفصال جنوب السودان قبل نحو 15 عامًا، قدمت القاهرة الدعم العسكري والفني لها، حفاظا على علاقات ودية، لكن جوبا، وقعت في 2024، اتفاقية "عنتيبي" الخاصة بمياه نهر النيل، ما أدى لدخولها حيز التنفيذ رغم رفض القاهرة لها طيلة عقد ونصف من الزمن، ما يشير لما قد تتعرض له مصر من أزمات حال وجود دولة سودانية ثالثة.

ومنذ اندلاع الحرب في السودان، استقبلت جارتها الشمالية أكثر من 1.5 مليون سوداني هربا من الفقر والقتال، ما يجعل لسيناريو انقسام السودان، وتشكيل حكومة ثانية للدعم السريع، مخاطر سياسية واقتصادية وأمنية إضافية.

يؤكد مراقبون، أن مصر ستضطر للتعامل مع كيانين سياسيين متنافسين بدلا من دولة واحدة، يتلقى كل منهما دعما مختلفا من قوى إقليمية ودولية، ما يعرض مصالح القاهرة مع تلك القوى للضغوط والابتزاز، مع احتمالات تفاقم الوضع بحضور قوى أجنبية أو مليشيات عسكرية ومرتزقة أجانب للتدخل العسكري أو الأمني بالسودان.

ويلفت البعض كذلك إلى خطر فقدان مصر عمقها الاستراتيجي الجنوبي، موضحين أن أي ضعف في سيادة السودان سيُعرض الحدود الجنوبية لمصر لمخاطر أمنية مباشرة، ويزيد من احتمالية انتشار الفوضى، وتدفق السلاح وتهريب البشر وتنامي النشاط الإجرامي عبر الحدود.

ويرون أن فقدان مصر شريكها التاريخي الموحد على حدودها الجنوبية منذ آلاف السنين، يُضعف موقفها بالقضايا المشتركة، وخاصة ملفات مياه النيل وسد النهضة الإثيوبي والأمن المائي، وقوة موقف القاهرة والخرطوم التفاوضي مع أديس أبابا.

وبينما يرى اقتصاديون أن حركة التجارة البرية تأثرت باندلاع الحرب بالسودان وألحقت الضرر باقتصاد بلدين يعانيان أزمات هيكلية مزمنة، يتوقعون تفاقم الوضع مع سيطرة الدعم السريع بشكل دائم على دارفور وكردفان، وهي مناطق رئيسية لإنتاج الثروة الحيوانية، والصمغ العربي، والمحاصيل الزراعية، أهم صادرات السودان إلى مصر.

وذهب الكاتب الصحفي محمد جمال عرفة في مخاوفه للقول: "السودان مستهدف، ومن بعده مصر"، محذرا عبر منشور له بمنصة الـ"فيسبوك"، "من تواطؤ بعض العرب مع هذه المؤامرة".



مشروع متباطئ وغير نهضوي
الأكاديمي المصري والخبير في الشؤون الأفريقية الدكتور خيري عمر، وفي حديثه لـ"عربي21"، قال إن: "حميدتي بهذه الحكومة يحاول استكمال المسار باتجاه تحالف (قوى الحرية والتغيير) والذي تحول إلى (تحالف تأسيس)، تمثل النسخة الثالثة من قوى اليسار التي كانت على يسار الجيش والتي تسعى لتكون بديلا له".

ويرى عمر، قائلا، أن: "هذا المشروع متباطئ وليس متسارعا أو نهضويا، خاصة وأنه شهد انقسام بعد التأسيس بين الدعم السريع وقوى التغيير، ولم يستطيع الحفاظ على مكتسباته العسكرية والمدنية ولا اكتساب اعتراف دولي"، متوقعا أن "يواجه صعوبات كثيرة؛ خصوصا بعد انحسار انتشاره بدارفور وكردفان، وانسحابه من شرق السودان والخرطوم والجزيرة".

ويعتقد أنه "بالتالي، فأن التعويل عليه كقوة سياسية جديدة، أمر يحتاج إلى كثير من الفحص والنقاش"، متسائلا: "هل سيكون له تأثير على السياسات السودانية والاحتفاظ بقدراته في الحرب، وتغيير شكل الخارطة في دارفور، أم سيستطيع الجيش السوداني حسم المعارك في وقت ما؟".
وعن الاعتراف الدولي المحتمل بحكومة حميدتي، أكد الأكاديمي المصري، أن "المسافة بين نيالي، والخرطوم، سوف تجعل كثيرا من الدول تتردد في الاعتراف بهذه الحكومة".

بعيدة عن مصر
وحول تأثير تلك الحكومة حال استمرارها على مصر، وملفات مياه النيل والحدود الجنوبية للبلاد، قال عمر لـ"عربي21": "لدينا نقطتين، الأولى: إن إعلان هذه الحكومة ومشروع الدعم السريع في دارفور بعيد عن الحدود المصرية، كما أن دارفور منذ 2006، تحت لجنة وصاية دولية وحتى الآن"، بالتالي فإن: "انتقال النزاع لهذه المنطقة لا يؤثر على مصر، خصوصا وأنها استطاعت تثبيت وضع الجيش السوداني بإدارة الدولة وإدارة المرحلة الانتقالية وتحت سيطرته غالبية المناطق".

وأشار أيضا إلى نقطة ثانية، تتعلق بالصراع حول المثلث الحدودي بين "ليبيا، السودان، وتشاد، ومصر"، مبينا بالقول أن: "تركيا قد تكون أحد الأطراف الضامنة لتمديد سيطرة الجيش السوداني على هذا المثلث، وستمثل مصر ظهيرا له في هذا الإطار".

وخلص بالقول إن: "فكرة الاعتراف الدولي بهذه الحكومة غير واقعي، كما أن قوتها السياسية في التأثير على السياسة السودانية أيضا غير مرجحة، وبالتالي فأن التأثير على مصر سيكون مرهونا بمدى تماسك حكومة الخرطوم".

نظريا: البذرة الأولى للتقسيم
وفي رؤية سودانية، قال الأكاديمي السوداني الدكتور عبد المطلب صديق مكي، لـ"عربي21": "ينظر البعض لأداء حميدتي اليمين الدستوري رئيسا لحكومة موازية بالسودان، على أنه البذرة الأولى للتقسيم، وخطوة نحو استنساخ النموذج الليبي والصومالي واليمني، ولربما نظريًا قد يكون ذلك صحيحا، فهذه الخطوة تمثل خطرا بلا شك على وحدة السودان، خاصة في حالة اتاحة الفرصة للقوى الخارجية بالتدخل في الشأن السوداني، وتقديم العون لمجموعة حميدتي".

واستدرك مكي بالقول: "لكن من الناحية العملية فالنموذج الليبي واليمني، غير قابلان للتطبيق في السودان لكون الجيش السوداني ما زال قويا، كما لا توجد حواضن مجتمعية متماسكة في دارفور لتوفير البيئة اللازمة للدعم السريع، لأن إقليم دارفور متنوع وفيه العديد من الإثنيات غير المتوافقة مع الدعم السريع.

وتوقع مكي خلال حديثه لـ"عربي21" أن: "يكون ترؤس حميدتي للحكومة الموازية بهدف نزع فتيل الخلافات التي نشبت مؤخرا بسبب غيابه، وضعف الحكومة المعلنة؛ وقد أدى ذلك بالفعل إلى صراعات بين قبائل (البني هلبة)، و(السلامات)، وبين قبائل (الفولان)، و(المسيرية)، وجميعها قبائل كانت تعمل في وفاق تحت مظلة الدعم السريع".

اظهار أخبار متعلقة



موقف ملتبس
ويرى أيضا، أن: "الموقف المصري ما زال ملتبسا تجاه السودان لأسباب عديدة، لكن صانع القرار يدرك بلا شك المخاطر التي تحدق بمصر في حالة زعزعة استقرار السودان"، مبينا أن "قيام دولة في دارفور يعني إحياء مشروع قديم من النزاع التشادي، الليبي، والذي انتهى بأسر الجنرال حفتر نفسه أيام حكم معمر القذافي، عندما كان يقود الجيش الليبي في الحرب التي دارت بين تشاد وليبيا على قطاع أوزو المتنازع عليه".

ومضى يؤكد، أن "السيناريو المزعوم بقيام دولة في غرب السودان سيشكل خطرا على ليبيا، وعلى الأمن المصري في الصحراء غرب مصر وشرق ليبيا، بل إن أثر ذلك سيمتد ليشمل دول حوض البحر الأحمر التي ستعاني هي الأخرى بسبب الهجرة غير الشرعية".

وفي نهاية حديثه توقع عبدالمطلب، أن: "تنشط الجماعات الإرهابية وتجارة المخدرات والسلاح والتنقيب غير المشروع عن الذهب"، مضيفا: " حال نجاح مشروع التقسيم فأن سلطة الدولة ستضعف مقابل تنامي سطوة المليشيات المسلحة خدمة لمصالح اقتصادية وجيوسياسية لدول بعينها".

هنا تكمن الخطورة
ويعتقد الباحث والكاتب الصحفي السوداني عباس محمد صالح، أن "الخطورة في نشوء حالة أو حتى كيان باسم حكومة موازية في رقعة جغرافية من السودان تعاني من الاضطرابات والحرب، يتحول شيئا فشيئا إلى سجن كبير، ويعمل هذا الكيان على زعزعة الأمن والاستقرار في بقية أنحاء السودان بينما ترفع شعار حكومة السلام".

وفي حديثه لـ"عربي21"، أضاف الصحفي صالح: "أثبتت الفترة التي عاشتها بعض المناطق التي خضعت لسيطرة مليشيا الدعم السريع أنها على نقيض جذري لأي شكل من أشكال الحكم والاستقرار والأمان، وأنها لن تستطيع إقامة كيان ناجح ومستقر وقابل للاستمرار مهما بلغ الدعم الخارجي لها".

ويرى أنه "بالنسبة للحكومة السودانية وخلفها القوات المسلحة، فإنها تعتبر إعلان حكومة موازية على بعض أجزاء البلاد بعد دحر المتمردين مؤخرا في العاصمة وبعض الولايات، ما هو إلا استمرار للتمرد المدعوم من الخارج منذ نيسان/أبريل 2023، وأنها ستواصل تحرير كل شبر من أراضي البلاد من قبضة هؤلاء، بالتالي ليس هناك مجال للاعتراف أو التفاوض على هذا الأساس".

وواصل بالقول: "حتى قادة المليشيا، وهم يدافعون عن فكرة إنشاء حكومة موازية ينفرون من أي تفسير لخطوتهم على أنها تعني الانفصال والتقسيم، لأنهم يدركون أنهم لن يقيموا نموذج دولة ناجح كما حدث في جنوب السودان، وأنهم سيؤسسونها في أرض مضطربة، خاصة بعد تورطهم في تفكيك بنية الدولة ومؤسساتها وما تعنيه من حكم القانون والنظام والاستقرار النسبي".

وقال صالح: "بالنسبة للسودان، فدول الإقليم إما هي متواطئة وجزءا من المخطط المعادي للسودان، أو أنها مأزومة ولا تمتلك قرارها حتى تقيّم مدى خطورة ما يجري في السودان على الأمن الإقليمي".

جغرافية الفوضى.. ومصر وليبيا
وأكد صالح في حديثه لـ"عربي21"، أن: "من المخاطر المباشرة لنشوء جغرافية الفوضى التي تتدحرج حتى تعم دول الجوار المباشر للسودان انطلاقا من مناطق (سيطرة) الدعم السريع وكيان حكومته الموازية، منها احتمالات انتقال المهددات وتوسع أنشطة الجريمة العابرة لحدود وشبكات المرتزقة وتهريب البشر والأسلحة إلى جانب خطر انتقال الصراع والفوضى إلى الجوار".

اظهار أخبار متعلقة


وأضاف: "لا أعتقد أن مصر رغم الإدراك العام بأن ما يجري في السودان يشكل تهديدا كامنا لأمنها واستقرارها على المدى البعيد، مع ذلك لن تعارض بعض الخطوات في السودان حاليا وإن كان لها أي تحرك في هذا الإطار -إن حدث-  فسوف يكون متأخرا جدا، وربما يتعين على مصر مواجهة بعض التهديدات والتحديات المتأتية من استمرار الصراع في السودان وبعض تحولات هذا الصراع، ولكن بعد فوات الأوان وبتكلفة أكبر، وهو ما يستدعي التحرك مبكرا".

وختم مبينا أنه: "بكل تأكيد تكريس الفوضى والإجرام في دارفور باسم حكومة موازية سيؤثر سلبا على ليبيا بدرجة مباشرة التي ستكون الأكثر تضررا ولا سيما في ضوء تكريس حفتر وفريقه أيضا سلطة موازية وتحوله إلى داعم مباشر للتمرد في السودان، وربما بدرجات متفاوتة على دول المنطقة وعلى رأسها مصر".
التعليقات (0)

خبر عاجل