ملفات وتقارير

النفط مقابل المياه.. هل يقايض العراق حقوقه الطبيعية بمشاريع تركية؟

تراجع تدفق نهر دجلة بأكثر من 45 في المئة بعد تشغيل سد إليسو التركي- الأناضول
تراجع تدفق نهر دجلة بأكثر من 45 في المئة بعد تشغيل سد إليسو التركي- الأناضول
وقّع العراق وتركيا في الثاني من تشرين الثاني/نوفمبر 2025 الآلية التنفيذية لاتفاقية التعاون الإطارية في مجال المياه، في خطوة وصفتها الأوساط الرسمية في بغداد وأنقرة بأنها "تاريخية وأولى من نوعها".

وشهد حفل التوقيع حضور رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، فيما وقع الاتفاق وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين ونظيره التركي هاكان فيدان.

يأتي التوقيع وسط واحدة من أشد أزمات المياه في تاريخ العراق الحديث، إذ أكد مستشار رئيس الوزراء لشؤون المياه، طورهان المفتي، أن "الوضع المائي في العراق هو الأسوأ منذ تسعين عاما"، مشيراً إلى أن هذا العام شهد أدنى معدلات هطول للأمطار ودرجات حرارة قياسية غير مسبوقة.

في هذا السياق، قال الخبير العراقي في شؤون الموارد المائية عادل مختار تلفزيونية تابعها "عربي21"، إن العراق يعيش "مرحلة عطش حقيقية"، موضحا أن أسباب الأزمة متعددة، من التغير المناخي وسوء الإدارة إلى غياب مشاريع البنى التحتية الاستراتيجية.

ولفت إلى أن تراجع مناسيب نهري دجلة والفرات بلغ مستويات خطيرة، إذ أصبح بالإمكان عبور بعض المقاطع سيراً على الأقدام، في حين تضررت المحاصيل الزراعية ونفقت أعداد كبيرة من الحيوانات.

تراجع حاد في الموارد المائية وانتقادات واسعة
انخفض تدفق نهر الفرات من نحو 30 مليار متر مكعب سنوياً إلى أقل من 12 مليار متر مكعب خلال السنوات الأخيرة، بينما تراجع تدفق نهر دجلة بأكثر من 45 في المئة بعد تشغيل سد "إليسو" التركي عام 2020.



كما انخفض الاحتياطي المائي في السدود العراقية من قرابة 10 مليارات متر مكعب في نهاية أيار/مايو 2025 إلى نحو 8 مليارات في أيلول/سبتمبر من العام نفسه، أي ما يعادل أقل من 8 في المئة من طاقتها التخزينية.

ودعا ناشطون عراقيون إلى مقاطعة البضائع التركية ووقف الاستيراد من أنقرة، احتجاجا على ما وصفوه بـ"الاتفاقية المجحفة" التي تمس سيادة العراق وحقوقه المائية في الأنهار الدولية، واعتبروا أن الاتفاق يمثل "تنازلا غير مبرر" عن حق البلاد في حصتها العادلة من مياه دجلة والفرات، مطالبين الحكومة بإعادة النظر في بنود الاتفاق أو اللجوء إلى المسارات القانونية الدولية لحماية الموارد المائية الوطنية.



وأشار الخبير إلى أن سوء التخطيط فاقم الأزمة، موضحا أن عام 2023 كان من أكثر الأعوام وفرة في الأمطار، وأن الخزين المائي آنذاك وصل إلى 21 مليار متر مكعب، "لكن الحكومة لم تستثمره بشكل صحيح، واستخدمته في زراعة محاصيل عالية الاستهلاك للمياه مثل الشلب والحنطة، ما أدى إلى نفاد نصف الخزين خلال عام واحد فقط".

بنود الاتفاقية وآلية التمويل
تشمل الاتفاقية، وفق ما نقلته وسائل إعلام متعددة، بنوداً رئيسية من أبرزها أن تتولى تركيا إدارة الإطلاقات المائية والبنى التحتية المائية في العراق، بما فيها السدود وتنظيم توزيع المياه، لمدة خمس سنوات، على أن تُعاد إدارتها إلى الجانب العراقي بعد انتهاء المدة المحددة.

الخبير المائي وصف هذه الصيغة بأنها "تنازل واضح"، موضحا أن الاتفاق منح أنقرة صلاحيات واسعة على إدارة المياه العراقية دون وجود ضمانات كافية لحماية السيادة الوطنية. وقال إن "تركيا وعدت بإطلاق مليار متر مكعب من المياه، لكن ذلك مرهون بالخزين المائي لديها، ما يجعل الالتزام غير ثابت ويخضع للظروف المناخية داخلها".

اظهار أخبار متعلقة



وستكون التقنيات الفنية واللوجستية الخاصة ببناء السدود وتطوير البنى التحتية بإدارة تركية حصرية، بينما وعدت أنقرة بإطلاق مليار متر مكعب من المياه لصالح العراق "دون أن يؤثر ذلك على خزينها الاستراتيجي البالغ 90 مليار متر مكعب"، غير أن الاتفاقية لم تتضمن تحديدا رقميا لحصة العراق السنوية من المياه.

وأوضح عادل مختار أن "الاتفاق كان يجب أن يتضمن ثلاثة بنود أساسية: أولها موافقة تركيا على اللجوء إلى محكمة العدل الدولية، والثاني تحديد الحصة المائية للعراق بشكل واضح (500 متر مكعب في الثانية من دجلة ومثلها من الفرات)، والثالث وقف مشروع سد الجزرة الذي سيقضي على ما تبقى من تدفق نهر دجلة نحو العراق".

آلية التمويل
وتعتمد آلية التمويل على نظام "النفط مقابل المشاريع"، إذ تُنفذ الشركات التركية مشاريع البنية التحتية المائية، ويتم تمويلها من عائدات النفط العراقي المصدّر إلى تركيا.

ووفقا للمستشار طورهان المفتي، نصّ الاتفاق على حصول العراق على 65 في المئة من الأرباح الإضافية الناتجة عن إعادة بيع النفط العراقي في الأسواق الأوروبية بأسعار أعلى من السعر العالمي.

لكن الخبير العراقي حذر من أن "ربط الاتفاق بالمقاولات والمشاريع الاستثمارية التركية دون تحديد مقابل مائي واضح يجعل منه اتفاقا غامضا وغير متوازن"، مشيرا إلى أن العراق "قدم تنازلات كبيرة دون أن يحصل على مكاسب ملموسة أو ضمانات تنفيذية حقيقية".

من جانبه، كشف الصحفي التركي يوسف أوغلو في تصريحات إعلامية أن الاتفاقية الموقعة بين أنقرة وبغداد تتضمن بنودا غير معلنة، موضحا أن تركيا ستتولى إدارة الموارد المائية العراقية مقابل السماح ببقاء عناصر "حزب العمال الكردستاني" داخل الأراضي العراقية بصفة لاجئين سياسيين، إضافة إلى منح أنقرة امتياز تصدير الجزء الأكبر من النفط العراقي عبر أراضيها، إلى جانب شروط أخرى لم يُعلن عنها رسميا.



الموقف الرسمي العراقي
رحب رئيس الوزراء محمد شياع السوداني بالاتفاق، معتبراً أنه "أحد الحلول المستدامة لأزمة المياه في العراق عبر حزمة من المشاريع الكبرى المشتركة"، وأوضح مستشار رئيس الوزراء أن الاتفاق يمثل "منعطفا تاريخيا في العلاقات العراقية التركية، إذ ينقل التعاون من مستوى التفاهمات العامة إلى مرحلة التنفيذ العملي".

وبين أن الاتفاقية تشمل مشاريع لتحسين نوعية المياه، والحد من تلوث الأنهار، وتطوير أساليب الري باستخدام التقنيات الحديثة، واستصلاح الأراضي الزراعية المتضررة.

اظهار أخبار متعلقة



في المقابل، انتقد الخبير هذا التوصيف معتبراً أن وصف الاتفاق بـ"التاريخي" مبالغ فيه، وقال: "الاتفاقية جاءت متسرعة، ولم تستند إلى أساس قانوني أو فني يضمن حق العراق المائي، بل منحت تركيا مساحة إضافية للهيمنة على القرار المائي العراقي".

الجفاف في دول الحوض المائي
وأشار الخبير إلى أن دول الحوض المائي جميعها تمر بظروف استثنائية من الجفاف، مؤكدا أن الوضع في إيران "كارثي"، وأن احتياطها المائي قد لا يكفي سوى لأسابيع إذا لم تهطل الأمطار قريبا.

وأضاف: "سبق أن ارتكب العراق خطأ مماثلاً في اتفاقية 1975 مع إيران، حين تجاهل نهري الكارون والكرخة اللذين كانا يمدان البلاد بـ15 مليار متر مكعب سنوياً، وها نحن نكرر الخطأ نفسه اليوم مع تركيا".

الموقف التركي والدولي
من الجانب التركي، وصف وزير الخارجية هاكان فيدان الاتفاقية بأنها "مهمة وتاريخية"، مؤكدا أنها ستفتح آفاقا جديدة لتنظيم إدارة المياه والبنى التحتية في العراق.

ورحب مبعوث الرئيس الأمريكي إلى العراق، مارك سافايا، بالاتفاق، قائلا في بيان رسمي: "نهنئ جمهوريتي العراق وتركيا على توقيع اتفاق إطاري لمعالجة القضايا المستمرة المتعلقة بإدارة الموارد المائية بين البلدين".



إجراءات مقترحة لمواجهة الأزمة
وفي ختام حديثه، دعا الخبير إلى اعتماد سياسات عاجلة لتقنين استخدام المياه داخل البلاد، من خلال تحديد حصة الفرد اليومية، ومنع ري المزروعات العشوائية وغسل السيارات بالشوارع، إضافة إلى إلزام الشركات النفطية باستخدام المياه المالحة أو تحلية مياه البحر لتخفيف الضغط على الموارد العذبة في الجنوب، خصوصا في محافظة البصرة.

وأكد أن هذه الإجراءات يمكن أن توفر مليارات الأمتار المكعبة سنويا، لكنها تبقى حلولا مؤقتة ما لم يُحسم ملف الحقوق المائية مع دول الجوار. وختم قائلا: "إذا كان هذا الشتاء ضعيف الأمطار، فإن العراق مقبل على صيف قاسٍ وأزمة مائية غير مسبوقة".

وتعد هذه الاتفاقية أول تفاهم رسمي شامل بين بغداد وأنقرة بشأن إدارة المياه منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة، وأوضح مستشار رئيس الوزراء أن "العراق لم يبرم أي اتفاق رسمي مع تركيا بخصوص المياه منذ اتفاق حسن الجوار والصداقة عام 1946".

وتُمثل الآلية التنفيذية الجديدة محاولة لمعالجة أزمة مائية متفاقمة، لكنها ما تزال تثير انقساما حادا بين من يراها خطوة استراتيجية ضرورية، ومن يعتبرها اتفاقاً غامضاً يفتقر إلى الضمانات القانونية ويعتمد على آلية اقتصادية غير مستدامة على المدى الطويل.
التعليقات (0)