قضايا وآراء

الدورة 60 لمجلس حقوق الإنسان: هل ستحمل جديدا لوقف حرب الإبادة في غزة؟

محمود الحنفي
قرارت المجلس "حافظت على الذاكرة القانونية، وقرعت جرس الإنذار عالميا، لتكون الأساس الذي يمكن البناء عليه لاحقا في مساءلة الاحتلال"- جيتي
قرارت المجلس "حافظت على الذاكرة القانونية، وقرعت جرس الإنذار عالميا، لتكون الأساس الذي يمكن البناء عليه لاحقا في مساءلة الاحتلال"- جيتي
شهدت الحرب على غزة منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023 انتهاكات جسيمة للقانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان، ما وضع مجلس حقوق الإنسان أمام اختبار صعب في الاضطلاع بدوره. بين عامي 2024 و2025 ناقش المجلس الملف في أكثر من دورة، وسيواصل النظر فيه في دورته الستين المقررة في أيلول/ سبتمبر 2025. يتناول هذا المقال قراءة نقدية لأداء المجلس: مضمون القرارات، وحدود دوره بين الوصف والإجراء، وأسباب عدم إنشاء لجنة جديدة رغم جسامة الانتهاكات، ومدى جدية قراراته وتأثيرها على الواقع الميداني في غزة.

قرارات المجلس في عام 2025 بشأن حرب غزة

بانتظار انعقاد الجلسة المقبلة لمجلس حقوق الإنسان (دورته الستين) في 8 أيلول/ سبتمبر والتي ستستمر حتى 8 تشرين الأول/ أكتوبر، نستعرض أهم ما صدر عن الجلسات السابقة لهذا العام:

- الدورة 58 (آذار/ مارس 2025): أصدر المجلس قرارات مهمة بشأن غزة، تضمنت إدانة الانتهاكات الواسعة، والتأكيد على ضرورة المساءلة، وتكليف لجنة التحقيق المستقلة بمهام إضافية تتعلق بعنف المستوطنين ونقل الأسلحة إلى إسرائيل.

- الدورة 59 (حزيران/ يونيو 2025): تلقى المجلس تقارير من اللجنة المستقلة، وناقش أوضاع الحرب بما فيها استهداف المدنيين والبنية التحتية، وأعاد التأكيد على المطالبة بوقف الحصار والتجويع.

بهذا، يمكن القول إن المجلس ناقش ملف الحرب على غزة بقرارات في آذار/ مارس وحزيران/ يونيو، فيما تبقى دورة أيلول/ سبتمبر محطة جديدة قد تعيد تأكيد هذه المواقف أو تطلق مبادرات متابعة.

طبيعة دور المجلس: وصفي أم إجرائي أم متعثر؟
رغم لهجة قرارات المجلس القوية في إدانة الانتهاكات ووضع بعض الخطوات الإجرائية، يرى مراقبون أن دور مجلس حقوق الإنسان خلال الحرب على غزة اتسم بقدر كبير من الوصف والتوثيق للانتهاكات، مع التركيز على الإجراءات الأممية المعتادة، لكنه تعثر في اتخاذ تدابير نوعية حاسمة

رغم لهجة قرارات المجلس القوية في إدانة الانتهاكات ووضع بعض الخطوات الإجرائية، يرى مراقبون أن دور مجلس حقوق الإنسان خلال الحرب على غزة اتسم بقدر كبير من الوصف والتوثيق للانتهاكات، مع التركيز على الإجراءات الأممية المعتادة، لكنه تعثر في اتخاذ تدابير نوعية حاسمة. فعلى سبيل المثال، قرارات المجلس أدانت جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية واسعة النطاق التي ارتُكبت في غزة، وقدّمت سردا قانونيا واضحا لما جرى، لكنها اكتفت إلى حد بعيد بتوصيات وضغوط دبلوماسية دون آليات تنفيذ صارمة.

ومن جهة أخرى، اتخذ المجلس بعض الخطوات الإجرائية المهمة، فإضافة إلى تكليف المفوض السامي برفع تقرير متابعة، اعتمد المجلس سابقا (في آذار/ مرس 2024) قرارات كلفت اللجنة الدولية المستقلة القائمة بالتحقيق في الأرض الفلسطينية بمهام إضافية، حيث طلب المجلس من لجنة التحقيق بقيادة نافي بيلاي إعداد تقريرين متخصصين يُقدّمان في دورته الـ59 (حزيران/ يونيو 2025) حول: (أ) دور المستوطنين الإسرائيليين والجماعات الاستيطانية في أعمال الإرهاب والعنف والترهيب ضد المدنيين الفلسطينيين والإجراءات المتخذة لمساءلة المسؤولين، و(ب) مسألة نقل أو بيع الأسلحة والذخائر والمعدات ذات الاستخدام المزدوج إلى إسرائيل، بما فيها تلك المستخدمة في العملية العسكرية على غزة بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وتحليل العواقب القانونية لهذه الإمدادات، بما في ذلك مسؤولية الدول المورِّدة. هذا التحرك يظهر أن المجلس حاول اتباع نهج إجرائي استقصائي عبر توسيع ولاية لجنة التحقيق القائمة لتغطية جوانب حساسة (كالدعم العسكري الخارجي لإسرائيل وأعمال عنف المستوطنين).

بيد أن هذه الخطوات الإجرائية اصطدمت بعقبات جسيمة كشفت تعثّر المجلس في تحقيق أهدافه. فقد ورد في رسالة لرئيسة لجنة التحقيق، القاضية نافي بيلاي، في آب/ أغسطس 2025، أنها أبلغت المجلس بعدم قدرة اللجنة على استكمال التقارير المطلوبة بسبب نقص التمويل والموظفين. وأشارت بيلاي إلى أن اللجنة بدأت بإخطار الدول راعية تلك القرارات بأنها لن تتمكن من تقديم التقارير في موعدها المقرر (آذار/ مارس 2026) نتيجة القيود المالية. هذا التطور يعكس بعدا إجرائيا متعثرا: فبرغم منح المجلس ولاية واسعة النطاق للجنة التحقيق، لم يؤمَّن الدعم العملي والكافي لإنجاح مهمتها، سواء بسبب أزمة تمويل في الأمم المتحدة أو ربما جراء ضغوط سياسية لتقليص موارد التحقيقات الحساسة.

يُذكر أن اللجنة نفسها شهدت تحديات داخلية؛ إذ قدّم أعضاؤها الثلاثة استقالاتهم في تموز/ يوليو 2025 مع مواصلة العمل حتى تعيين بدلاء، مما أثار تساؤلات حول استدامة زخم التحقيق. هذه الاستقالات الجماعية عكست حجم الضغوط السياسية وربما الشخصية التي واجهها أعضاء اللجنة نتيجة طبيعة عملهم في ملف شديد الاستقطاب.

بشكل عام، كان دور المجلس وصفيا وتوثيقيا بالأساس، إذ وفّر منصة دولية لعرض الفظائع والجرائم وجمع المعلومات من خلال لجان وخبراء، كما اتسم بطابع إجرائي محدود من خلال تكليفات متابعة وتقارير دورية. لكنه تعثر على صعيد النتائج، فالمجلس لم يتمكّن من ترجمة إدانته القوية إلى إجراءات دولية ذات تأثير مباشر على مجريات الحرب أو محاسبة فورية للمنتهكين. ويمكن القول إن المجلس اصطدم بحدود صلاحياته وقدرته التنفيذية، وكذلك بمعارضة سياسية ومالية من بعض الدول أثّرت على آليات المتابعة.

غياب لجنة تحقيق دولية جديدة: الأسباب وفعالية اللجنة السابقة

مع كل عدوان كبير في فلسطين تاريخيا، كان مجلس حقوق الإنسان يبادر عادة إلى إنشاء لجان تحقيق خاصّة مؤقتة (كما حدث بعد حرب غزة 2008-2009 فيما عُرف بلجنة غولدستون، وبعد حرب 2014 بلجنة شاباس/مكغوان-ديفيس). لذلك، استغرب البعض عدم تشكيل لجنة تحقيق جديدة مستقلة مخصّصة لحرب 2023-2024 على غزة رغم حجم الانتهاكات غير المسبوق. لكن تفسير ذلك يكمن في وجود لجنة تحقيق مستقلّة قائمة أساسا بولاية مفتوحة، فقد كان المجلس قد أنشأ في أيار/ مايو 2021 لجنة تحقيق دولية مستقلة برئاسة نافي بيلاي إثر الحرب في ذلك العام، ومنحها ولاية مستمرة (دون سقف زمني) للتحقيق في جميع الانتهاكات في الأراضي الفلسطينية وإسرائيل. هذه اللجنة الدائمة -الأولى من نوعها لدى المجلس- شملت في ولايتها الأحداث اللاحقة كافة، بما في ذلك حرب غزة الأخيرة. وبالتالي رأت غالبية الدول الأعضاء أنه لا حاجة لإنشاء لجنة موازية جديدة، بل يمكن الاستفادة من اللجنة القائمة وتوسيع مهامها كما فعل المجلس في قراراته لعام 2024 المذكورة أعلاه.

ويُعتبر قرار إنشاء اللجنة المفتوحة عام 2021 من أهم قرارات المجلس بشأن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، إذ جاء لتفادي الحاجة لتكرار آليات تحقيق منفصلة عقب كل جولة قتال، ولينظر في الأسباب الجذرية للصراع أيضا.

ورغم ذلك، يثار التساؤل حول فعالية اللجنة المستقلة السابقة (لجنة بيلاي) في تحقيق المحاسبة والعدالة. فمن ناحية، قدّمت اللجنة إسهاما مهما في توثيق الانتهاكات بشكل مهني ورفع تقارير شاملة. فخلال متابعتها لحرب غزة 2023، تمكنت اللجنة -رغم منع إسرائيل لها من دخول غزة أو أراضيها- من جمع كم هائل من المعلومات والأدلة عبر مقابلات عن بُعد وشهادات ووثائق وصور أقمار صناعية وتحليلات جنائية، وخلصت في تقريرها (المقدم للمجلس في حزيران/ يونيو 2025) إلى أن القوات الإسرائيلية ارتكبت على نطاق واسع جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في عملياتها العسكرية في غزة منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023. كما حققت اللجنة في انتهاكات أخرى متصلة، بما فيها استهداف المستشفيات والمرافق الطبية بشكل ممنهج أثناء الحرب، مما قد يشير إلى نمط عملياتي متعمد.

ولم تغفل اللجنة الإشارة إلى أفعال الفصائل الفلسطينية؛ فتطرّقت إلى احتجاز مدنيين إسرائيليين وإطلاق صواريخ عشوائية على تجمعات مدنية، ووصفتها بأنها قد ترقى إلى جرائم حرب ينبغي وقفها.

لكن فعالية اللجنة اصطدمت بعوائق كبيرة؛ إذ رفضت إسرائيل الاعتراف بشرعيتها ومنعتها من الوصول الميداني، ما اضطرها للاعتماد على مصادر غير مباشرة. وتعرضت اللجنة لحملات ضغط سياسية مكثفة، بينها محاولات إسرائيلية وغربية لإنهاء ولايتها أو تقليص تمويلها عبر اللجنة الخامسة في الأمم المتحدة، بحجة "التسييس". كما استُغلت تصريحات سابقة لبعض أعضائها لتشويه صورتها، وصولا إلى استقالة قيادتها عام 2025، وهو ما أضعف زخمها في لحظة حرجة.

لذلك، لم يُنشئ المجلس لجنة جديدة، مكتفيا باللجنة الدائمة التي أنشأها عام 2021، لكن فعاليتها بقيت محدودة عمليا في وقف الانتهاكات أو ضمان المحاسبة، بفعل غياب التعاون الإسرائيلي والضغوط السياسية ونقص أدوات الإنفاذ. وهذا يبرز أن قرارات المجلس ولجانه تخضع في النهاية لمعادلات القوى والتوازنات السياسية داخل الأمم المتحدة، حيث لعب النفوذ الأمريكي والأوروبي دورا بارزا في إضعافها. والنتيجة أن الجهد الحقوقي، مهما كان متينا، يظل عالقا بين طموح العدالة وقيود السياسة الدولية. وهكذا، تتحول غزة إلى مرآة تكشف حدود فعالية المنظومة الأممية بأسرها أمام سطوة المصالح، كمن يكتب الحقيقة بمدادٍ لا يصل إلى قاعة المحكمة.

مدى جدية قرارات المجلس وتأثيرها

رغم أن قرارات مجلس حقوق الإنسان حول حرب غزة جاءت قوية في صياغتها، إلا أنها ظلت في النهاية مجرد توصيات غير ملزمة، تفتقر لأي آلية تنفيذية أو سلطة قسرية. فالمجلس ليس مجلس الأمن، ولا يملك فرض عقوبات أو إرسال قوات لحماية المدنيين، بل يكتفي بالتوصية وتشكيل لجان التحقيق. وهذا ما جعل إسرائيل تتجاهلها بشكل كامل، مستمرة في القصف والحصار ومنع دخول أي مراقبة مستقلة. الإحصاءات الموثقة حتى منتصف 2025 -بأكثر من 60 ألف شهيد و118 ألف جريح، معظمهم نساء وأطفال- تكشف حجم الهوة بين النداءات الحقوقية والواقع الميداني. فالمواقع التي خُصصت للمساعدات تحولت إلى مسارح قتل، والمدارس إلى قبور جماعية، في انتهاك صارخ لكل المعايير.

لا يمكن إنكار القيمة التراكمية لهذه القرارات؛ فهي أسست سجلا حقوقيا موثقا عبر لجان التحقيق وتقارير المفوضية السامية، يمثل مادة ثمينة يمكن أن تستفيد منها المحكمة الجنائية الدولية والمحاكم الوطنية ذات الولاية العالمية. كما منحت الأونروا والوكالات الإنسانية غطاء سياسيا ومعنويا للاستمرار رغم الضغوط، ورسخت الرواية الفلسطينية

في المقابل، انشغلت بعض الدول الكبرى بانتقاد المجلس واتهامه بالتحيز، خصوصا بسبب البند السابع الثابت على جدول أعماله، المخصص حصرا لانتهاكات إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة. الولايات المتحدة وحلفاؤها اعتبروا هذا البند دليلا على "التركيز غير العادل"، فكانت النتيجة انسحاب واشنطن من المجلس لسنوات (2018-2022)، ثم عودتها دون تغيير موقفها الرافض. أما دول أوروبية عديدة، فمارست ضغوطا لتخفيف لغة القرارات أو حذف بنود تعتبرها سياسية، بل وحاولت -دون نجاح- تعطيل عمل لجنة التحقيق المستمرة لعام 2021 أو تقليص ولايتها.

ولعل أبرز مثال على الانقسام ما حدث في نيسان/ أبريل 2025 (الدورة 58)، حين أيّد 27 عضوا قرارا يتعلق بغزة، مقابل معارضة 4 دول وامتناع 16 عن التصويت. هذا التوزيع أظهر بوضوح الفجوة بين كتلة واسعة من دول الجنوب والعالم الإسلامي المؤيدة لفلسطين، وبين الكتلة الغربية المعارضة أو الممتنعة، وهو ما جعل القرارات تصدر بأغلبية لكنها دون إجماع، ففقدت الكثير من وزنها العملي.

وإلى جانب الانقسام السياسي، برزت إشكالية أخرى تتعلق بمحاولة اللجنة إثبات حيادها عبر تحميل الفصائل الفلسطينية بدورها مسؤولية ارتكاب "جرائم حرب"، نتيجة احتجاز مدنيين أو إطلاق صواريخ عشوائية. غير أن هذه المقاربة، التي قد تُقدَّم على أنها موضوعية، بدت في نظر كثيرين تسوية غير عادلة؛ إذ ساوت بين الضحية والجلاد، وأعطت انطباعا زائفا بالحياد، بينما إسرائيل لا تعترف أصلا بشرعية اللجنة ولا تقبل تقاريرها سواء وُجهت إليها وحدها أو أُشركت معها أطراف فلسطينية. هكذا بدا وكأن اللجنة تحاول إرضاء الجميع على حساب الحقيقة الجوهرية: أن الانتهاكات الأوسع والأشد خطرا ارتكبتها آلة الاحتلال ضد سكان غزة المحاصرين.

الأثر العملي على الأرض

أما على الأرض، فالتجربة أكدت أن قرارات المجلس لم توقف القصف، ولم تُدخل مساعدات كبيرة، ولم تُنقذ أرواحا بشكل مباشر، فالتطورات حُسمت أساسا بالمفاوضات والاعتبارات العسكرية. لكن لا يمكن إنكار القيمة التراكمية لهذه القرارات؛ فهي أسست سجلا حقوقيا موثقا عبر لجان التحقيق وتقارير المفوضية السامية، يمثل مادة ثمينة يمكن أن تستفيد منها المحكمة الجنائية الدولية والمحاكم الوطنية ذات الولاية العالمية. كما منحت الأونروا والوكالات الإنسانية غطاء سياسيا ومعنويا للاستمرار رغم الضغوط، ورسخت الرواية الفلسطينية في الوعي الدولي باعتبار ما جرى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وليست مجرد "دفاع عن النفس".

وقد شكلت هذه القرارات أيضا دعما معنويا للضحايا، ورسالة إلى العالم بأن المجتمع الدولي لم يلتزم الصمت، حتى لو لم يملك أدوات الردع الفعلية. أثرها الأهم يكمن في أنها حافظت على الذاكرة القانونية، وقرعت جرس الإنذار عالميا، لتكون الأساس الذي يمكن البناء عليه لاحقا في مساءلة الاحتلال أو فرض عقوبات إذا توافرت الإرادة السياسية. إنها لم تُغيّر الواقع الميداني فورا، لكنها أبقت باب العدالة مفتوحا ومنعت طمس الحقيقة، لتظل وثائق المجلس شاهدة على الجريمة إلى أن يأتي يوم الحساب.
التعليقات (0)

خبر عاجل