تتزاحم
تطورات الأحداث المتعلقة بالوضع في
غزة، في وقت تشهد فيه مفاوضات وقف إطلاق النار
وعقد صفقة تبادل الأسرى تعثرا كبيرا بسبب المواقف الرمادية التي يتخذها نتنياهو
مؤخرا، بل يكاد يكون فشلا آخر يضاف الى المرات العديدة التي أفشلها نتنياهو
والوزيران المتطرفان بن غفير وسموتريتش بالتعاون مع الإدارة الأمريكية السابقة
والحالية، وفي ظل انكشاف الدور الأمريكي المنحاز والداعم، بل الشريك لدولة الكيان
في استمرار حربها الإجرامية البربرية ضد الشعب الفلسطيني، ووسط تصريحات استعمارية
توسعية تم فيها الكشف عن خطة الصهيونية الدينية "
إسرائيل الكبرى" على
لسان "اللاهوتي" نتنياهو، واحتدام التصريحات المنددة بذلك عربيا وقليلا من
الدول الغربية..
في
أثناء كل ذلك يخرج المقاتل الفلسطيني المارد من تحت الركام والأنقاض بعد أكثر من
685 يوما من القتال الضاري والملاحم، ومجازر الإبادة الجماعية الممنهجة التي
يرتكبها جيش
الاحتلال الإسرائيلي، مسطرا شجاعة فائقة، وجرأة غير مسبوقة وتنظيما شهد
له العدو قبل الصديق؛ لينقل المعركة إلى مواقع جيش الاحتلال وسط ظروف أمنية
وعسكرية بالغة التعقيد، فكانت الموقعة هناك في خان يونس، حيث اتسمت بمواصفات
عسكرية عالية عديدة من حيث الزمان والمكان، والتنظيم الدقيق والتخطيط والتكتيك الناجح،
والمفاجأة، والطابع الهجومي وليس الدفاعي، وتنوع الأسلحة المستخدمة والاشتباك من
مسافة صفر، وعدد المقاتلين المشاركين الذي وصل إلى نحو فصيلة مشاة انقسموا إلى ثلاث
مجموعات صغيرة لكلٍ مهمته،
استمرار المقاومة في حرب الاستنزاف، واستعدادها لذلك لسنوات طويلة، وأن المقاومة لا زالت تحتفظ بقدراتها العسكرية والقيادية والتنظيمية والتكتيكية، وبالتالي لا زالت تحتفظ بالمبادرة، ولن ترفع راية بيضاء
عدا عن مجموعات الإسناد والتغطية التي كانت قريبة من
موقع العملية، والذي لم يبعد أكثر من خمسين مترا عن النفق الذي خرج منه المقاتلون،
وسبق أن أعلن الجيش الإسرائيلي تدميره؛ الأمر الذي شكل إرباكا لقيادة "لواء
كفير" المستهدف بالعملية، وكذلك اتسم الهجوم بالكفاءة العالية لهؤلاء
المقاتلين، كما وصفتهم صحيفة معاريف الإسرائيلية.
ومع
هذه السمات، حملت هذه العملية الجريئة دلالات عديدة؛ أولها أن هذا النموذج هو الذي
سيواجهه الجيش الإسرائيلي عند بدء عملية احتلال غزة، وأن عملية "عربات جدعون 2"
ستكون مثل سابقتها "جدعون 1" وأخواتها ("خطة الجنرالات" و"السيوف
الحديدية") وستشهد فشلا ذريعا، وأن استدعاء 60 ألف جندي احتياط لن يزيد جيش الاحتلال
إلا المزيد من الجنود في التوابيت.
وأكدت
هذه العملية أن فشل أو نجاح المفاوضات حول وقف إطلاق النار وإنهاء الحرب يقرره
الميدان الذي تتحكم به
المقاومة، وليست رغبات نتنياهو وترامب اللذينن يعملان على
كسب الوقت والمناورة، والتضليل السياسي والإعلامي لإقناع المجتمع الإسرائيلي والدولي
بشرعية ما يقومان به؛ بهدف تحقيق المزيد من التقدم الميداني نحو" النصر
المطلق"، الذي يحلم به نتنياهو، والهدف الاستثماري الذي يسعى إليه المطوّر
والمستثمر العقاري ترامب؛ مما يعني إلحاق الهزيمة بـ"حماس"، وأن "حماس"
اليوم غير "حماس" الأمس، كما زعم وزير دفاع الاحتلال.
ومن الرسائل
التي حملتها هذه العملية أيضا، أن المقاومة هي من تفرض "المفاوضات تحت النار"،
وليس قادة الاحتلال، وأن الضغط العسكري والأحزمة النارية والتدمير الشامل لمدن
وبلدات القطاع، لن يحقق أهداف نتنياهو وترامب بإطلاق سراح الأسرى، وإنهاء حكم "حماس"
وتدمير قدراتها.
ومن أهم
دلالات هذه العملية، أنها أكدت على استمرار المقاومة في حرب الاستنزاف، واستعدادها
لذلك لسنوات طويلة، وأن المقاومة لا زالت تحتفظ بقدراتها العسكرية والقيادية
والتنظيمية والتكتيكية، وبالتالي لا زالت تحتفظ بالمبادرة، ولن ترفع راية بيضاء.
ستشكل هذه العملية الهجومية الاستثنائية، كما وصفتها أوساط إسرائيلية صحفية، منعطفا مهما في تطورات الأحداث في قطاع غزة، ولربما تُعلن عن تغييرٍ جديدٍ في قواعد الاشتباك
ومن أبرز
معاني هذه العملية، أنها حملت إنذارا لجيش الاحتلال بأنه لا زال في جعبة المقاومة
الكثير لينتظره هذا الجيش وقادته المتغطرسين، ولا يعني أن إبداء المقاومة مرونة في
قبول مقترحات الوسطاء في المفاوضات، بهدف صون مصالح الشعب الفلسطيني وتخفيف معاناته،
أن المقاومة قد خضعت أو ضعفت، وأن الوقت قد حان لأن تتنازل كما يزعم وزير الدفاع
الإسرائيلي كاتس.
ولقد أظهرت
هذه العملية في خان يونس الفشل الاستخباري الإسرائيلي المستمر، وكذب الرواية
الإسرائيلية أمام الجمهور الإسرائيلي؛ بأنه تم القضاء على معاقل المقاومة وعلى آخر
لواء لها هناك. وفي المقابل، أكدت قدرة المقاومة على إدراك وفهم طريقة عمل الجيش
الإسرائيلي وطرق تموضعه وتنظيمه وتحركه، وهندسة تحصيناته وتجهيزاته اللوجستية.
وآخر ما حملته هذه العملية من دلالات، أن المواقع الإسرائيلية المستحدثة والمناطق
العازلة التي ينوي الاحتفاظ بها، واحتلال المزيد من أراضي قطاع غزة، ستكون عبئا ثقيلا
ومكلفا، بل باهظ الثمن على جنوده، ومقتلة لهم على أيدي رجال المقاومة.
في
نهاية المطاف، ستشكل هذه العملية الهجومية الاستثنائية، كما وصفتها أوساط
إسرائيلية صحفية، منعطفا مهما في تطورات الأحداث في قطاع غزة، ولربما تُعلن عن
تغييرٍ جديدٍ في قواعد الاشتباك، ولعلها ستدفع قادة الاحتلال، وعلى رأسهم نتنياهو،
للقبول بصفقة التبادل المنتظرة ووقف إطلاق النار، وخروج نتنياهو من دائرة المراوحة
بين المناورة والقبول.
إن ما
حدث في خان يونس هو ذاته الذي حدث في السابع من أكتوبر 2023 لكنه بشكل مصغّر؛ وهذا
ينذر بأننا أمام نسخٍ كثيرةٍ قادمةٍ من "طوفان الأقصى"؛ إذا ما استمر
نتنياهو بتعنته، وإصراره على الاستمرار بحربه المجرمة بدعمٍ وشراكةٍ من ترامب، حينها
لا صوت يعلو فوق صوت المقاومة.
ahmadoweidat2@gmail.com