قضايا وآراء

توني بلير مندوب سامٍ على خطى أسلافه

محمد جميل
بلير ينتمي فكرًا وسلوكًا إلى منظومة سياسية تمتد عميقًا في التاريخ كانت سببًا في نكبة الشعب الفلسطيني. إكس
بلير ينتمي فكرًا وسلوكًا إلى منظومة سياسية تمتد عميقًا في التاريخ كانت سببًا في نكبة الشعب الفلسطيني. إكس
بينما يُدمَّر قطاع غزة ويُهجَّر أهله ويُقتلون ويُجوَّعون في إطار إبادة مستمرة تجاوز فيها عدد الشهداء حاجز الـ 66 ألفًا، والجرحى عشرات الآلاف، يتسابق الضباع على غنيمة غزة المدمَّرة بعد الحرب تحت عناوين إنسانية برّاقة، وهي في حقيقتها مشاريع استعمارية تُعيد إلى الأذهان عهودًا مظلمة من الانتداب والوصاية.

فبدلًا من تنفيذ قرارات أجمع عليها ممثلو غالبية سكان الأرض في الأمم المتحدة بوقف إطلاق النار وإدخال المساعدات الإنسانية، عمل هؤلاء في الغرف المظلمة على مدار سنتين من الإبادة على صياغة مشروع تهجير يتماهى مع أهداف الاحتلال ويكافئه على جريمته غير المسبوقة في تاريخ الحروب لتمكينه من تحقيق ما عجز عنه في حربه الدموية.

المشروع الذي يتم تداوله هو قديم جديد ينسخ معدِّله، خطة التهجير الأصلية التي تورطت مؤسسة Tony Blair Institute for Global Change (TBI) في صياغاتها، وعكسها ترامب في مؤتمره الصحفي الشهير مع نتنياهو في فبراير 2024 حين أعلن أنه ينوي شراء قطاع غزة لتحويله إلى “ريفيرا الشرق الأوسط” ووجهة سياحية بعد إفراغه من سكانه. وقد أُعدت هذه الخطة بالتعاون مع Boston Consulting Group (BCG)، وأُطلق عليها اسم كودي “أورورا”، وكانت تنص على تهجير نحو 500 ألف فلسطيني ـ أي ربع سكان القطاع ـ عبر إغرائهم بمغادرة غزة “طوعًا” مقابل ما سُمِّي “حزم إعادة توطين” بقيمة 9 آلاف دولار للشخص الواحد.

منذ أن أعلن ترامب عن نيته تملُّك قطاع غزة وتهجير سكانه، ثارت عاصفة من التنديد بالمشروع وساد إجماع في الشرق والغرب على رفضه كونه يشكِّل انتهاكًا فجًّا وصارخًا لأبسط المبادئ التي أرساها المجتمع الدولي بعد حربين عالميتين مدمرتين، وفي القلب منها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي نص على حق كل إنسان أن يعيش في أرضه بأمن وسلام، لا ينازعه أحد في حقه في تقرير مصيره.
بتاريخ 27 أغسطس 2025 التقى ترامب في البيت الأبيض صهره جاريد كوشنر مهندس صفقة القرن وتوني بلير لمناقشة مشروع غزة بعد الحرب، وبعد أربعة أيام نشرت صحيفة واشنطن بوست بتاريخ 31 أغسطس 2025 وثيقة مسرّبة بعنوان “الثقة الكبرى” تضمنت معالم خطة “أورورا” للتهجير لتحويل غزة إلى منطقة سياحية بعد دفع جزء كبير من سكانها للمغادرة.

إضافة إلى الحسابات المالية للتهجير ووضع تسعيرة لانتهاك القانون الدولي، تضمنت الوثيقة إنشاء جزر اصطناعية تحتوي على منتجعات فاخرة ومناطق اقتصادية خاصة وحاضنات تكنولوجيا ومشاريع بنية تحتية تحمل بصمات دول خليجية مطبِّعة أو في طريقها للتطبيع مع الاحتلال. فعلى سبيل المثال، اشتملت على خطط لطريق دائري باسم “طريق محمد بن سلمان”، ومشروع طريق مركزي باسم “طريق محمد بن زايد”، إضافة إلى منطقة صناعية باسم “إيلون ماسك”.

منذ أن أعلن ترامب عن نيته تملُّك قطاع غزة وتهجير سكانه، ثارت عاصفة من التنديد بالمشروع وساد إجماع في الشرق والغرب على رفضه كونه يشكِّل انتهاكًا فجًّا وصارخًا لأبسط المبادئ التي أرساها المجتمع الدولي بعد حربين عالميتين مدمرتين، وفي القلب منها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي نص على حق كل إنسان أن يعيش في أرضه بأمن وسلام، لا ينازعه أحد في حقه في تقرير مصيره.

أمام الرفض العارم والمتصاعد للمشروع لجأ ـ على ما يبدو ـ معدّوه إلى إجراء تعديلات عليه لإخراجه بطريقة مخادعة تكون مقبولة ولطيفة، على غرار وعد بلفور قبل مئة عام الذي نص على إقامة وطن قومي لليهود مع عدم المساس بحقوق غيرهم، فجاء الانتداب لينفذ الشق الأول من الوعد وبشكل منهجي نال من حقوق الفلسطينيين وتسبب لهم بنكبات ومآسٍ مستمرة حتى اليوم.

الخطة المعدلة تنص على تشكيل هيئة دولية بقيادة توني بلير لحكم قطاع غزة، كما تنصّ على إنشاء هيئة تحفظ حقوق السكان العقارية، فمن يرغب الخروج من القطاع يستطيع العودة في أي وقت بعد الإعمار، دون ذكر أي ضمانات في ظل سيطرة الاحتلال على المعابر. كما أن الاحتلال سيبقى في المناطق التي احتلها وينسحب منها تدريجياً دون تحديد أي مدد زمنية، ناهيك عن إطلاق يد الاحتلال أمنيًا وعسكريًا في كافة أنحاء القطاع.

توالت التعديلات على الخطة؛ حتى تلك التي أعلن عنها ترامب قبل أيام والتي اتفق مع قادة عرب ومسلمين على مبادئها. لقد أجرى عليها تعديلات تتوافق مع رؤية نتنياهو، خاصّة فيما يتعلق بجدولة الانسحاب من دون أفق زمني، وتدفق المساعدات، وإغراء السكان بالهجرة الطوعية. والمثير للسخرية أن الرجل الذي دعم نتنياهو بكل قوة وأطلق يده في قطاع غزة فقتل ودمر، قد نصب نفسه رئيسًا لما أسماه «مجلس السلام» وجعل مجرم الحرب توني بلير نائبًا له، وهو في الحقيقة سيكون مهندس التنفيذ الأول.

ومن المفارقات أنه من نفس المكان قبل أشهر أعلن «رجل السلام» ترامب عن نيته شراء قطاع غزة وتهجير سكانه. واليوم تحوّل من مشتِر إلى بائعٍ لأوهام الاستثمار والإعمار والازدهار والسلام في الشرق الأوسط؛ يلقي الكلام على عواهنه ويقول: «منذ ثلاثة آلاف عام لم تنعم هذه المنطقة بالسلام» ـ واليوم هو من يحقق السلام!

الخطة التي أعلن عنها ترامب غامضة ومليئة بالألغام، ولِفَكِّ الغموض الذي اكتنفها لا بد من العودة إلى الخطط الأصلية التي أُعِدَّت وتَنصّ صراحةً على تهجير الفلسطينيين. فلا ضمانات واضحة في مراحل التنفيذ من العودة إلى الخطة الأصلية إذا حانت الفرصة، فمهندسو الخطة وتعديلاتُها قتلة وتجار عقارات لا يمكن الوثوق بهم.

بعض الأنظمة العربية كانت على علم بالمشروع ومنها من دعمه؛ فالأدلة تشير إلى أن للإمارات دورًا محوريًا في رعايته ودعمه. فعندما طرح ترامب مشروع تملُّك غزة وتهجير سكانها قال سفير الإمارات لدى واشنطن يوسف العتيبة بكل ثقة إنه لم يرَ حتى الآن بديلًا لخطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشأن قطاع غزة! وقد جاء حديث العتيبة خلال القمة العالمية للحكومات في إمارة دبي بتاريخ 12/02/2025.

وليس أدل على انخراط حكام الإمارات في المشروع بشكل مبكر أن توني بلير، الشريك الأساسي في الخطة، عمل لسنوات كمستشار لمحمد بن زايد، وبعد انتهاء مهامه استمرت علاقتهما القوية. كما أن أحد مديري “مؤسسة غزة الإنسانية”، الأرمني ديفيد بابازيان – التي أنشأتها مجموعة بوسطن والمكلفة بتنفيذ مشروع التهجير الأصلي – مقيم في الإمارات ويرتبط بعلاقات قوية بحكام أبوظبي. ومؤخرًا صدرت بحقه مذكرة قبض دولية على خلفية قضية فساد ناجمة عن صفقة عقدها مع شركة Masdar للطاقة المتجددة عندما كان رئيسًا لصندوق الاستثمار الوطني الأرمني.

الخطة التي أعلن عنها ترامب غامضة ومليئة بالألغام، ولِفَكِّ الغموض الذي اكتنفها لا بد من العودة إلى الخطط الأصلية التي أُعِدَّت وتَنصّ صراحةً على تهجير الفلسطينيين. فلا ضمانات واضحة في مراحل التنفيذ من العودة إلى الخطة الأصلية إذا حانت الفرصة، فمهندسو الخطة وتعديلاتُها قتلة وتجار عقارات لا يمكن الوثوق بهم.
وليس سرًا أن محمد بن زايد لديه رغبة قوية في حسم المعركة لصالح إسرائيل، فعلى وقع المذابح والتدمير والتجويع لم يهتز له جفن، ولم تتأثر العلاقات التطبيعية بل زادت قوة. وأكثر من ذلك قام بإجهاض أي مسعى عربي وإسلامي جاد لوقف الإبادة منذ انعقاد أول قمة مشتركة في الرياض في نوفمبر 2023، وهبّ لنجدة الاقتصاد الإسرائيلي وإنقاذه من الانهيار، فقام بإنشاء طريق بري يمتد من الإمارات مرورًا بالسعودية إلى الأردن لنقل البضائع إلى الاحتلال بعد منع الحوثي مرور السفن الإسرائيلية في البحر الأحمر.

الخطة المتداولة مستوحاة من  خطة مارشال التي وضعها الحلفاء الغربيين بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية تعبر عن طموح نتنياهو في إخضاع قطاع غزة بشكل كامل فهي إضافة إلى ما تتضمنه من سيطرة على الأرض وتهجير قسري /طوعي تنص على إعادة صياغة عقيدة الإنسان الفلسطيني بما يتوافق مع عقيدة العدو المسيانية ووفق هذه العقيدة الفلسطيني مجرد ضيف ثقيل في هذه الأرض والاسرائيلي هو سيدها يفعل ما يريد ولا يملك الفلسطيني أي قدرة على الاحتجاج مهما فُعل به.

توني بلير استدعى من التاريخ الغابر تجربة الإمبراطورية البريطانية في استعمارها للشعوب وفرض الوصاية عليهم، وهو يسير على خطى أسلافه من المندوبين الساميين: هربرت صموئيل، هربرت بلومر، هاري لوك، جون تشنسلر، آرثر ووكوب، وهارولد ماكمايكل الذين مارسوا كل أعمال قذرة جعلت من فلسطين ساحةً لتسهيل الاستيطان اليهودي وتهميش الحقوق السياسية للشعب الفلسطيني.

لا يمكن الوثوق بتوني بلير وخططه مهما حاول إخراجها بأي مظهر برّاق، فخلال فترة عمله مبعوثًا خاصًا للجنة الرباعية الدولية (2007–2015)، واجه توني بلير انتقادات واسعة بسبب ما اعتُبر انحيازًا واضحًا لإسرائيل وتجاهلًا للانتهاكات الجسيمة التي يتعرض لها الفلسطينيون. فقد ركّزت جهوده على ملفات اقتصادية وأمنية محدودة، بينما غابت عنه المبادرات السياسية الجوهرية لإنهاء الاحتلال أو الضغط الجدي على إسرائيل لاحترام القانون الدولي.

ولا يغيب عن وعينا أن بلير مجرم حرب له تاريخ حافل بالخداع والكذب؛ فقد شكّل تحالفًا مع الولايات المتحدة عام 2003 وقام بتزوير وثائق وأدلة تثبت أن العراق يملك أسلحة دمار شامل لتبرير غزوه، وهو ما تسبب في تدميره وقتل وتهجير مئات الآلاف وإذكاء النعرات الطائفية التي لا يزال يعاني منها.

ومن نافلة القول أن بلير ينتمي فكرًا وسلوكًا إلى منظومة سياسية تمتد عميقًا في التاريخ كانت سببًا في نكبة الشعب الفلسطيني. وعلى مدار 77 عامًا لم تتوانَ هذه المنظومة عن تقديم كل أنواع الدعم للاحتلال، مما مكّنه من التوسع وارتكاب مختلف الجرائم، ومنها جريمة الإبادة المستمرة اليوم في قطاع غزة.

إن ما يتم تداوله من مشاريع وصاية على قطاع غزة جريمة كبرى، وردة عن مبادئ العدل والسلام والمساواة التي أرستها الأمم المتحدة في ميثاقها. لا يمكن – بعد سنتين من الإبادة – أن لا يكون بمقدور الفلسطينيين لملمة جراحهم بأنفسهم بدعم عربي وإسلامي، وبما يتوافق مع القانون الدولي الإنساني الذي يكفل لهم كافة الحقوق كباقي شعوب الأرض. ومن غير المنطقي – كما يُروَّج – أن تصادق الأمم المتحدة على خطة تناقض مبادئها وقراراتها المتعاقبة التي تؤكد على حقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف وحقه في تقرير المصير.
التعليقات (0)

خبر عاجل