المتتبع لسلوك قادة النظام
الإماراتي والنهج
الذي يتبعونه بقيادة محمد بن زايد في التعامل مع القضايا الحساسة في المنطقة، وفي
مقدمتها الصراع العربي الإسرائيلي، يجد أن هذه الدولة الصغيرة سددت طعنات مؤلمة في
ظهر القضية
الفلسطينية، فهذا النظام ليس مجرد رائد للتطبيع مع دولة
الاحتلال، إنما
يتماهى مع عقيدة اليمين المتطرف الذي يعمل على ابتلاع الأرض ومن عليها.
المبررات التي ساقها النظام الإماراتي
لإبرام اتفاقية أبراهام، بأنه يسعى إلى تحقيق السلام في المنطقة ومساعدة
الفلسطينيين في الحصول على حقوقهم، ثبت كذبها وزيفها. فما فعله الاحتلال في فلسطين
عقب الاتفاق عكس ذلك تمامًا، فعلى مستوى الاستيطان ازداد توسعًا ولم يتوقف، وهجمات
المستوطنين على السكان والمسجد الأقصى تصاعدت حتى إن تقارير سرت بأن الاحتلال
يستعد لبناء الهيكل في المسجد الأقصى.
كل ذلك يتم تحت سمع وبصر بن زايد الذي لم
يحرك ساكنًا، لا على صعيد التهديد بتجميد الاتفاقيات أو حتى الاستنكار، بل كانت
العلاقات تزداد قوة، الزيارات على أعلى مستوى استمرت، التعاون الأمني والعسكري
والاقتصادي على أشده، رجال أعمال نفذوا استثمارات في المستوطنات وتبرعوا لمنظمات
استيطانية متطرفة.
المبررات التي ساقها النظام الإماراتي لإبرام اتفاقية أبراهام، بأنه يسعى إلى تحقيق السلام في المنطقة ومساعدة الفلسطينيين في الحصول على حقوقهم، ثبت كذبها وزيفها. فما فعله الاحتلال في فلسطين عقب الاتفاق عكس ذلك تمامًا، فعلى مستوى الاستيطان ازداد توسعًا ولم يتوقف، وهجمات المستوطنين على السكان والمسجد الأقصى تصاعدت حتى إن تقارير سرت بأن الاحتلال يستعد لبناء الهيكل في المسجد الأقصى.
واللافت في هذا التطبيع أن النظام الإماراتي
فرضه على الناس، فمنعهم من القيام بأي مظاهر من أشكال التضامن أو حتى التعاطف تحت
طائلة السجن أو الطرد من البلاد، في حين يصول المستوطنون ويجولون في البلاد،
ويقيمون الاحتفالات التوراتية التي تمجد إسرائيل وتلعن العرب وتتمنى لهم الموت.
لم يكتفِ بن زايد برؤيته للتطبيع في بلاده
والبحرين والمغرب، إنما أراد أن يفرضه على كل الدول العربية، تارة بالترغيب وتارة
بالترهيب. أحد الأمثلة البارزة هو الضغط على دولة الجزائر من خلال تسعير الصراع
بين المغرب والجزائر، مما دفع النظام الجزائري، على غير العادة، لشن حملة إعلامية
ضد شخص بن زايد.
استمر هذا الحال حتى انفجار أحداث السابع من
أكتوبر وقيام إسرائيل بشن عدوان غاشم على قطاع غزة طوال أكثر من خمسة عشر شهرًا،
ارتكبت خلالها قوات الاحتلال أم الجرائم، إبادة جماعية راح ضحيتها عشرات الآلاف من
النساء والأطفال، وتدمير أكثر من 80% من القطاع. مشاهد القتل والدمار والتجويع لم
تحرك النظام الإماراتي ليقوم بما تفرضه الإنسانية في حدودها الدنيا واتخاذ إجراءات
تقول لإسرائيل كفى.
بشكل مريع ومشين استمر التطبيع وبقوة، ولم
يتأثر بشيء، ولم يتزحزح بن زايد قيد أنملة عما وعد به الإسرائيليين والأمريكان عند
توقيع الاتفاق بأنه لن يتأثر مهما فعلت إسرائيل بالفلسطينيين. سارت الأمور على
طبيعتها، ومارس الإسرائيليون نشاطهم في الدولة كالمعتاد، وشاركوا في المعارض
العسكرية والاقتصادية، وكان لهم أجنحة، وحضروا المؤتمرات المختلفة، وصدّر النظام
الإماراتي صورًا لهذه الفعاليات غير آبه بأي انتقاد، في حين أن دولًا بعيدة مثل
إسبانيا وإيرلندا والنرويج وهندوراس وكولومبيا وبوليفيا وجنوب أفريقيا رفعت صوتها
واتخذت إجراءات وصلت إلى قطيعة دبلوماسية.
وعندما هاجم الحوثيون السفن المتجهة إلى
فلسطين عبر باب المندب، وما سببه ذلك من أزمة في نقص البضائع في دولة الاحتلال، هب
بن زايد إلى إنقاذها، فشق طريقًا بريًا من أراضيه مرورًا بالسعودية إلى الأردن
وصولًا إلى فلسطين المحتلة لتزويد الاحتلال بما يلزم من بضائع، الأمر الذي لعب
دورًا مهمًا في منع انهيار الاقتصاد في دولة الاحتلال.
ولذر الرماد في العيون، أطلقت الإمارات حملة
“الفارس الشهم” التي لم يكن من اسمها نصيب، إذ كانت مجرد دعاية لغسل جريمة النظام
الإماراتي. فكافة الشهادات من قطاع غزة والتقارير الدولية أكدت أن نقص الغذاء
والدواء والوقود كان في تصاعد طوال 15 شهرًا، وأن ما وصل من هذه المساعدات لا يسد
حاجة الجوعى والمرضى.
كما جند النظام الإماراتي ماكينته الإعلامية
لبث الرواية الإسرائيلية عن الأحداث لدرجة تبنيها، فمن يقرأ ويشاهد الإعلام
الإماراتي والإسرائيلي يجد أن الإعلام الإماراتي تفوق في العداء للفلسطينيين على
الإعلام الإسرائيلي، كما عمل النظام الإماراتي على إجهاض كل مسعى لاتخاذ قرارات
جادة من خلال القمم العربية والإسلامية والمنابر الدولية التي عقدت للتخفيف من
وطأة الإبادة.
كشف الصحفي الأمريكي الاستقصائي بوب وودوورد
في كتابه “الحرب”، الذي صدر في أكتوبر 2024، عن
موقف النظام الإماراتي من الإبادة،
موضحًا أن ما يجري في الغرف المغلقة يختلف عن التصريحات العلنية. ففي لقاء لبن
زايد مع وزير الخارجية الأمريكي بلينكن، قال: “إن على إسرائيل الصبر، ولها كل
المساحة لإنجاز المهمة والقضاء على الفصائل في قطاع غزة، وفي نفس الوقت على
إسرائيل أن تسمح لنا بإدخال المساعدات لكسب ود الناس".
وأكثر من ذلك، قام النظام الإماراتي عبر
بعثاته الدبلوماسية بالضغط على الدول لتبني الرواية الإسرائيلية ومنعها من اتخاذ
إجراءات ضد إسرائيل، كما مارست ضغوطًا على جنوب أفريقيا من أجل سحب قضيتها أمام
محكمة العدل الدولية، إلا أن أفريقيا لم تنصع واستمرت في شكواها، التي لم ينضم
إليها أي دولة عربية أو إسلامية سوى تركيا وليبيا.
محاولات الإمارات في دفع إسرائيل للاستمرار
في حرب الإبادة فشلت، فقبل دخول دونالد ترامب البيت الأبيض، ضغط لإبرام اتفاق لوقف
إطلاق النار، ونجح في فرض وقف إطلاق نار وصف بالهش. وبعد أيام من تنصيبه واستلامه
مهامه، أطلق مشروعًا مفاجئًا يقضي بتهجير سكان قطاع غزة، وعندما سئل السفير
الإماراتي في أمريكا يوسف العتيبة عن المشروع، قال: "إنه صعب، لكن لا بديل له!"
هذا التصريح الخطير، الذي احتفى به ترامب
على منصته، وعدم اتخاذ النظام الإماراتي أي إجراءات ضد السفير، يؤكد أن هذا النظام
له نهج واحد، وهو دعم أجندات الولايات المتحدة وإسرائيل في المنطقة، وأن كل ما
ينشره المسؤولون عن شعارات التمسك بالثوابت العربية تجاه قضية فلسطين وحقوق الشعب
الفلسطيني والدفاع عنها في المحافل الدولية هو كذب واضح.
القاصي والداني بات يعلم أن النظام
الإماراتي لن يتخلى عن التطبيع مع الاحتلال تحت المظلة الأمريكية، فالعلاقة مع
الاحتلال أصبحت تحكمها وحدة المصير الذي لا فكاك منه. فهذه الدولة، التي أصبحت
توصف في المنطقة بالمارقة بسبب الخراب والدمار الذي ألحقته في دول الجوار، لا
تستطيع التخلي عن هذا الحلف الشيطاني، لأنها تعلم أنه في اللحظة التي يتفكك فيها
هذا الحلف ستنقض عليها الشعوب التي أثخنتها الجراح.
ندرك تمامًا أن الأنظمة العربية ليست بريئة
من التعاون مع الاحتلال سرًا أو علنًا، فالنظامان الأردني والمصري يرتبطان
باتفاقات سلام مع إسرائيل لم تتأثر مطلقًا بما يجري في فلسطين، لكنهما وقفا بوضوح
ضد مشروع ترامب للتهجير، ولم يستخدما الثروات لتأجيج الصراعات في المنطقة كما تفعل
الإمارات.
عندما هاجم الحوثيون السفن المتجهة إلى فلسطين عبر باب المندب، وما سببه ذلك من أزمة في نقص البضائع في دولة الاحتلال، هب بن زايد إلى إنقاذها، فشق طريقًا بريًا من أراضيه مرورًا بالسعودية إلى الأردن وصولًا إلى فلسطين المحتلة لتزويد الاحتلال بما يلزم من بضائع، الأمر الذي لعب دورًا مهمًا في منع انهيار الاقتصاد في دولة الاحتلال.
كما أنه من المعلوم أن هذه الأنظمة دون
استثناء متورطة في جرائم لا حصر لها، ارتكبتها على مدار عقود بحق الشعوب لمجرد
مطالبتها بالتغيير. ففي ثورات الربيع العربي، انقضت هذه الأنظمة بتمويل إماراتي
على الثورات، وأجهضتها بالقتل والاعتقال والتعذيب، مما كرس القبضة الحديدية
والفساد ونهب وتبديد الثروات.
في ضوء هذه الشرور والخراب الذي تسبب به
النظام الإماراتي داخليًا وخارجيًا، من الواجب عزله وكف يده عن التدخل في شؤون
المنطقة، وعلى وجه الخصوص في القضية الفلسطينية. فإن كان هناك بقية للكرامة، يجب
ألا يُسمح لدولة الإمارات بالاستمرار في هذا العبث، فالمسار الذي اتخذته لنفسها في
ركب إسرائيل يتناقض مع المنطق والقيم والأخلاق، فلتتحمل المسؤولية وتواجه مصيرها،
ولا حاجة للعرب لوجودها بينهم، وهناك من الدول غير العربية اتخذت مواقف مشرفة،
يتوجب مد الجسور والتنسيق معها لوضع خطة لمواجهة المخاطر المحدقة.
النظام العربي، وبشكل أوسع الدولي، يعيش في
أسوأ حالاته مع قدوم ترامب، الذي اتخذ منهج البلطجة والبيع والشراء في إدارة
السياسة الخارجية، فلا أحد يضمن استمرار حماية الولايات المتحدة في مواجهة المخاطر
المحيطة، فهذه أوكرانيا تم بيعها في ليلة وضحاها، والاتحاد الأوروبي يواجه معضلة
الدفاع عن وجوده، وكندا يريدها ترامب ولاية تابعة له، فهذا التاجر الذي تخلى عن
أقرب حلفائه، ألا نتوقع أن يتخلى عن الإمارات وغيرها في لحظة ما؟
على القادة العرب إعادة حساباتهم وترتيب
أوراقهم بما يخدم مصالح شعوبهم، وأن يتخلوا عن رهن مصائر شعوبهم ومقدراتهم خدمة
لأمريكا وإسرائيل، فيكفي القتل والنهب والتدمير الذي مارسوه طوال عقود، فقد آن
الأوان لانعتاق هذه الأنظمة من عبودية أمريكا ونسج تحالفات جديدة تقوم على الندية
ومبادئ واضحة تحافظ على الحقوق وسيادة الشعوب.
القمة العربية الطارئة، التي كان من المقرر
عقدها في السابع والعشرين من فبراير وتأجلت إلى الرابع من مارس للرد على مشروع
ترامب، وسبقها اجتماع لقادة مجلس التعاون الخليجي حضرته مصر والأردن ولم يصدر عنه
أي إعلان، كان يجب أن تُعقد فور الإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار، الذي وُلد
هشًا، للبحث في طريقة تحصينه واتخاذ خطوات عملية لإغاثة قطاع غزة وإعماره، لا كرد
فعل على مشروع وُلد ميتًا.
من الخطأ الجسيم أن تُعقد القمة من أجل هدف
وحيد، وهو الرد على مشروع ترامب، فقد فات الأوان وأصبح هذا المشروع في مزبلة
التاريخ، ويجب أن يعي هؤلاء الذين ينوون الاجتماع في قمتهم أن مشروع ترامب كان
مجرد مناورة للضغط عليهم، لوضعهم في مواجهة الشعب الفلسطيني ودفعهم للتدخل عسكريًا
لتفكيك الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة، لذلك يتوجب الالتفاف على هذا المشروع وعدم
إيلائه أي أهمية، والتركيز على اتخاذ قرارات تؤدي بشكل عملي إلى تثبيت وقف إطلاق
النار وإغاثة سكان القطاع وإعماره، والعمل على وقف الإبادة الزاحفة في الضفة الغربية.
لقد ثبت بالدليل القاطع أن نتنياهو وحكومته
اليمينية يتحينون الفرص من أجل التوسع والعدوان، وأن التطبيع الذي يسعون إليه ما
هو إلا أداة لتحقيق أحلامهم التوراتية، وإن كان من حسنة لمشروع ترامب أنه فضح
نوايا نتنياهو، الذي تلقف المشروع ودعا بكل وقاحة إلى إقامة دولة فلسطينية في
السعودية، وهي الدولة التي كانت الهدف التالي في التطبيع، وقد قطع الطرفان شوطًا
كبيرًا في اللقاءات السرية والعلنية لإنجازه، وكان قاب قوسين أو أدنى من التحقق.
لذلك، يتوجب على هذه القمة أن تكون على
مستوى التحديات والاستحقاقات القادمة، فنتنياهو وحكومته يتأهبون للعودة مرة أخرى
إلى العدوان، فقد ظهر جليًا عدم التزامهم باتفاق وقف إطلاق النار في مرحلته
الأولى، ويضعون شروطًا تعجيزية لإنجاز المرحلة الثانية، وهذا يقتضي التصدي لهم
بحسم، حتى لو اقتضى الأمر التدخل عسكريًا، فمن العار أن يعيد النظام العربي الكرة
مرة أخرى ويقف متفرجًا على استئناف الإبادة التي بدأها نتنياهو قبل 16 شهرًا.