مقالات مختارة

جيل زد العربي وإعادة ضبط مفاهيم الحياة

سامح المحاريق
الأناضول
الأناضول
تتواصل الاحتجاجات التي يقودها الشباب الموصوفين بـ»جيل زد» في المغرب وتحمل مطالب متعلقة بتحسين خدمات الصحة والتعليم، في بلد يشهد العديد من المنجزات على مستوى التحول الاقتصادي، حيث ينتقل المغرب من الاقتصاد المعتمد على الموارد الطبيعية إلى التصنيع والخدمات، خاصة السياحة، ولكن مثل بلدان نامية كثيرة فالمغاربة لا يشعرون بالتحسن في ظروفهم المعيشية، فالنمو الاقتصادي لا يترجم إلى تنمية حقيقية، والمغرب مثل بلدان عربية أخرى بعيد عن تحقيق الشمولية في توزيع المكتسبات الاقتصادية.

يعاني «جيل زد» في المغرب من تفشي البطالة التي وصلت إلى معدلات مقلقة، خاصة في المدن، وهذه الطاقة المعطلة تحولت إلى الغضب بعد حادثة وفاة ثماني نساء في قسم الولادة بمستشفى حكومي في أغادير، في شهر سبتمبر الماضي، ليظهر تطبيق ديسكورد بوصفه الهيكل التنسيقي لآلاف الشباب، وتبدأ المظاهرات التي تضغط تجاه مطالب واسعة من الإصلاحات، تلحق بمجموعة من الإجراءات التي تتابعت خلال العقدين الأخيرين.

تشكل الملكية في المغرب، الصمغ الذي تترابط من خلاله منظومة الدولة بشكل عام، ففي مكان اتصف بالسيولة التاريخية، وتوالت على أرضه الدول وتوسعت وتقلصت وتعاملت مع مؤثرات ثقافية طاغية بين العروبة والأمازيغية والزنوجة، يصبح النظام الملكي مرجعيا في التفاوض الاجتماعي الأوسع، إلا أنه يظل أيضا محاصرا بالتوازنات القائمة أصلا بين أطياف الشعب المغربي، التي تتوزع بين مفهومي المخزن والسائبة، مع أنه لا معنى قانوني أو عملي لهما حاليا، ولكنهما يبقيان رمزا للتفاوت بين المدن والريف وأنماط الحياة والإنتاج والتمثيل في الحياة السياسية. تحركت الثورة هذه المرة من المدن التي تعتبر مخزنية تاريخيا، ومن أحيائها التي تستقبل السائبة لتضعهم على هامش الحياة بصورة شبه عشوائية، وهذه وصفة موجودة في القاهرة، وغيرها من المدن العربية الكبرى، وهي الوصفة التي يمكن أن تمثل قنبلة موقوتة مستقبلا لتحرك موجة ثانية من الربيع العربي، بل تصبح أساسا للتثوير في العالم في المرحلة المقبلة.

عايشت المنطقة العربية حالة طويلة من الانسداد في الأفق السياسي بعد هزيمة يونيو 1967 وتساقط المشروع القومي بوعوده الاشتراكية المتعددة، ليترك وراءه حالة من الفراغ تصدى لتعبئتها الإسلام السياسي، الذي كان مشروعا عابرا للدولة وحدودها، حتى لو بدا جزءا منها بصورة مرحلية، ولجأت الدولة بعد تغيب الحلم المشترك والحافز الجمعي إلى الإفراط في ممارسة حضورها، ولكنه لم يترافق هذه المرة بالإغداق على المواطنين بالوظائف والخدمات، وداخل هذه الحالة توقف الحراك الاجتماعي، ووجدت أجيال كاملة نفسها من جديد، وبعد فورة الاستقلال ووعوده، محاصرة في مواقعها الاجتماعية، ومن غير فرصة لتكرر تجربة التقدم والارتقاء، فالدولة المنكمشة بأدوارها لم تعد توفر شيئا سوى للمقربين الذين أصبحوا عبئا مع تكاثرهم خلال العقود الأخيرة.

هذه الوضعية والمقدمات لا تعني «جيل زد» الذي انفتح على أفق عالمي لا يبخل بتقديم نماذج الحراك الاجتماعي، وحتى المتطرفة منها ويصبح النموذج الأمريكي من العدم إلى البطولة From Zero to Hero طريقه المشتهى، ولكن الجيل الغاضب لا يرى سوى النتائج التي تظهر مع المؤثرين الذين يقدمون نمطا معولما للحياة، ويضعون ضغوطا كبيرة تتعلق بتقدير الفرد لذاته ومجتمعه.

أما المقدمات التي تتعلق بالمجتمع وبنيته ووجود آليات وروافع للحراك الاجتماعي، فهي غائبة عن زاوية رؤيته. عادةً ما يتشارك الناس في الغرب والشرق، صورا مشرقةً لاحتفالاتهم ومنجزاتهم، ولكنهم يتجاوزون عن مشاركة الرحلة التي وصلت بهم إلى هذه النقطة، وكنت ذات مرة في واحدة من المدن الهولندية، في ضيافة صديق مغاربي فتحدثت له عن الضجيج في المقاهي والحانات ليخبرني: أنت هنا يا صديقي في عاصمة العمل بشدة واللهو بشدة Work Hard Play Hard كما قالها بالإنكليزية وتحديدا، فالعالم الذي تقدمه مواقع التواصل والتقنية الحديثة هو الجانب المتعلق بالألعاب، التي تستغرق الكثير من البشر حول العالم.

أما جوهريا فتبقى هذه العبارة غير ممكنة التحقق في الدول النامية، فثمة عمل شاق لا يمنح هذه الفئة من الشباب فرصة الحصول على الحدود الدنيا من التجربة الحياتية وفقا للنمط الذي يضغط عليهم من أقرانهم في الدول المتقدمة، ويكونون ضيوفا مستدامين على هوامشه، متفرجين سلبيين تتراكم داخلهم الأسئلة من غير إجابة.
هي ببساطة لا تراهم حتى لو كان خطابها مستغرقا في الحديث عن الشباب وتمكينهم

تتبدى المشكلة أن الدولة العربية في منظومتها المغلقة والاحتكارية، التي تقصي فئات واسعة من الشباب ولا تخاطبهم ولا تتفضل حتى بمحاولة الإجابة على أسئلتهم، ولا تطلب منهم تحمل مسؤولياتهم، هي ببساطة لا تراهم حتى لو كان خطابها مستغرقا في الحديث عن الشباب وتمكينهم، والسبب الرئيسي أنه لا توجد آليات للمشاركة في القرار السياسي، والتقاسم العادل للمكتسبات والتكاليف، فالبيئة السياسية تقوم أساسا على إعادة التدوير المستمر، أو التمثيل الدائم لفئات محددة.

تمثل الحالة المغربية نموذجا جديرا بالدراسة، فالمغرب بصورة عامة في وضعية أفضل مما كان عليه منذ ربع قرن من الزمن، ولكن المغاربة لا يشعرون بذلك، والأزمة أساسية في الخطاب السياسي التقليدي للغاية، الذي تتبناه الدولة المغربية في مفرداته وتجلياته وتمسكه بالموروث المرحل من الأجيال السابقة، وفي مقابل ذلك، طبقة عازلة من السياسيين يوجد وراءها ملايين المغاربة غير الممثلين بالصورة الكافية، ومن ضمنهم الشباب الذين لا يعرفون جذور الحكايات والتعقيدات القائمة، ويؤخذون بالصور التي تقدم لهم نموذجا اختزاليا يعلي من قيمة النتائج ويتجاهل المقدمات التي لم يكن شريكا في تأسيسها، أو حتى مطلعا بصورة كافية عليها.

يمكن للدولة في المغرب أن تعمل على تحسين الخدمات بصورة أو بأخرى، ولكنها لن تقدم في النهاية ما يريده «جيل زد» من تغييرات عميقة تتعلق بإعادة تعريف الحياة، ما لم تعمل على إنتاج خطاب جديد لتنسحب من دورها الأبوي وتتوقف عن إمساكها بمفاتيح الحراك المجتمعي، ليترك بوصفه فضاءً متاحا وعاما، ووقتها سيرى الجيل الغاضب الصورة الكاملة التي تتطلب منه الاندماج الكامل والمرهق في منظومة العمل بمختلف مستوياته، فالجيل الذي لم يخض اختبار المشاركة سيبقى دائما في موقف متأهب وغاضب لا يمكن محاصرته بالوسائل التقليدية التي تحكم ذهنية الدولة في المنطقة العربية.

يمتلك المغرب كل مقومات الدولة المنتجة، باستثناء الخطاب اللازم إعادة إنتاجه ليكون ميثاقا ضمنيا للمشاركة في تحقيق الحلم الجمعي، وأهم مقومات ما يمتلكه المغرب ومعظم الدول العربية هو ثروته من الشباب الذين يجب أن يتجاوز الحوار معهم حدود اللعبة التقليدية، فيتم استدعاء بعض الممثلين لهم ليقابلوا مسؤولا أو آخر، ولكن على المسؤولين أن ينظروا إلى الشاشات نفسها، وأن يتفهموا الخوارزميات التي تحرك المخزون الشعوري للشباب، فالخوارزمية لا تواجهها المقالات نفسها أو الخطب العصماء التي تتضاءل أهميتها أمام مؤثر يتحدث متحمسا، لشباب لا يرون أمامهم بديلا أو دليلا على أن الواقع الذي يعيشونه يحمل شيئا مختلفا أو وجهة نظر أخرى، أو على الأقل، يتطلب الكثير من العمل الذي يعود بالمكتسبات على الجميع، لا على فئة محددة ستتلقى غنائم السلطة والنفوذ.

القدس العربي
التعليقات (0)

خبر عاجل